مناقشة لنداء “الشخصيات العراقية”: متأخر، مضطرب، خارج الموضوع
عبد الامير الركابي
جمع من العراقيين، بينهم عاملون مخضرمون في الحقل السياسي، وكتاب واعلاميون وأصحاب مؤسسات نشر، ومراكز ابحاث، وصل عددهم الى 86 شخصا أصدروا في الايام الاخيرة نداء (تاريخ الاصدار غير مثبت) يفهم منه أنهم يريدون من القوى المناوئة للاحتلال والمقاومة أن تبادر للالتقاء من أجل الاتفاق على مشروع مقاوم موحد. فقد ورد في بداية النص: “إننا مجموعة من الشخصيات السياسية العراقية والمفكرين المناهضين للاحتلال نناشد من خلال هذا النداء القوى السياسية المناوئة للاحتلال، أحزابا وتنظيمات وهيئات وشخصيات، وجميع الفصائل المجاهدة المقاتلة ضرورة الاتفاق على مشروع وطني موحّد تحت أي مسمّى كان، بعد أن تهيأت لهذه القوى، وأصبح تناسي الاحقاد وأخطاء الماضي ومنزلقاته أمراً ضروريا لتجميع القوى في ظلّ مشروع مقاوم ومؤثر وفاعل تكون مهمتهُ وحدة فصائل المقاومة الوطنية واسنادها لتحقيق
التحرير الكامل والتصدي للطائفية والعرقية والمحاصصة”.
غير ان النداء وابتداء من فقراته الأولى يظل محكوما الى الغموض، والى الكلام الانشائي الخالي من السند، فمن يقرأ في الاعلى مثلا الفقرة التي تقول ” تحت أي مسمى كان، بعد أن تهيأت لهذه القوى وأصبح تناسي الاحقاد واخطاء الماضي ومنزلقاته امرا ضروريا ” من العسير عليه طبعا فهم ماقد قصد من “بعد ان تهيأت لهذه القوى!” ما هي التي تهيأت، وكيف يجوز اطلاق عبارة كهذه بكل ماتريده من معنى وحساسيات، من دون اسنادها الى سبب ما يمكن التفكير به أو مناقشته. نحن نريد مع مصدري النداء أن نتاكد من ان زوال الاحقاد، صار امرا واقعا، لكن الاخوة ويا للاسف لم يوضحوا لنا ماقد اكتشفوه من جهتهم، فاطلقوا كلمة كبيرة وتركوها عائمة لا سند لها ولامبرر.
الا ان البيان برمته مكتوب باللغة نفسها التي تطلق الرأي ثم تحرّفه، أو تبادر الى الحاقه بموضوعات لا تمت له بصلة. ومن البداية نقرأ في البيان طبعا، الديباجة التي تتحدث عن الضرورة ومادفع بهذا الجمع الى الالتقاء ووضع توقيعاته على النداء: “في ظلّ الوضع المأسوي الراهن للعراق، ومحنة شعبه في أمنه وسيادته وهويته ووحدته وبنيته بسبب الاحتلال البغيض وتبعاته، ووسط تخبط واضح في السياسة الأميركية في العراق، نوجه نداءنا في هذا الوقت بالذات من أجل تعبئة الجهود العراقية الوطنية المخلصة. إيماناً منا بضرورةِ حشد الطاقات لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة واستحقاقاتها، خصوصا أن الاحتلال قد بات يتخبط في إجراءاته من خلال مواصلته لسياساته الخرقاء واصراره على الابقاء على التنظيمات والشخوص التي تعاونت معه وجاءت على دباباته والتي ساهمت بتدمير العراق وتمزيقه وهو مازال مصمما على تبني مشاريعه المدمرة للعراق بالرغم من فشلها الذريع، وساعياً بإصرار شديد على شرعنتها وتقنينها من خلال سلسلة انتخابات صورية ومزيفة تعقب الانسحاب المزعوم”.
والذي يقرأ هذا الاستهلال يعجز حتما عن فهم المقصود منه، فالذين صاغوا البيان أوحوا، وهم أصلا وضعوه كما يبدو لاغراض يقولون انها راهنة، وهي كذلك حتما، الا انهم عجزوا كليا عن تشخيص ماهو بارز وحري بأن يلاحظ في الوضع العراقي الراهن، والرغبة الطاغية في الخلط ولي عنق الواقع، تتجلى حين نطالع جملة كتلك التي تقول: “وساعيا باصرار شديد على شرعنتها وتقنينها من خلال سلسلة من انتخابات صورية ومزيفة تعقب الانسحاب المزعوم”، ومرة اخرى يحتاج المرء الى رفع علامة (!). انتخابات؟ أو سلسلة من الانتخابات المزيفة ” تعقب الانسحاب؟ ” اي خلط هذا يضعه في ديباجة بيانه جمع يغلب عليه الطابع الاعلامي والفكري؟ واضح ان من صاغوا البيان يريدون استعمال اسلوب “عنزة ولو طارت”. ولكن التساهل ضروري ولنقل أن الجماعة يقصدون “سلسلة انتخابات تسبق الانسحاب المزعوم” طيب ولكن ما معنى “الانسحاب المزعوم” هل هو انسحاب او مزعوم؟ وهل العبارات وقدسيتها هي المقصودة أو الوقائع؟ الجماعة يريدون وضع العبارات التي تحلو لهم بغض النظر عما تصفه أو تتحدث عنه. الأقرب الى المنطق ان نقول إن هنالك “انسحاباً، وان المحتل يريد وضع اناس معينين من قبله عن طريق سلسلة من الانتخابات المزيفة قبل خروجه” عندها نصل الى بيت القصيد.
والبيان الذي يتحدث خارج الصدد، ويمارس لعبة تطابق اسم الفيلم المصري “قصّ ولزق” في بيان بهذا الوزن ومع خطورة التوجه الذي يدعو له، سرعان مايعود ويفاجئنا حين يقول “لبناء أسس الدولة المدنية الحديثة وإجهاض مخططات القهر والتفتيت التي سيخلّفها الاحتلال بعد رحيله ورحيل الميليشيات والتنظيمات الطائفية التي يدعمها وتساهم باسنادها بعض دول الجوار المساهمة لإضعاف الدولة العراقية”. وهنا نصل سدرة المنتهى، ولا نعود نفهم اذا ماكانت الميليشيات التي يتحدث عنها البيان في البداية، فيصرعلى الايحاء بأن الاحتلال مواظب على تثبيتها. تتهيأ يا ترى للرحيل معه ام انها سوف تثبت عبر سلسلة الانتخابات المزيفة؟ وثمة عبارة أخرى استغلق علينا فهمها، هي “المساهمة لاضعاف الدولة العراقية” عجيب؟ هل الأمر مجرد رصف كلمات، فعن أية دولة يتحدثون؟ هم يقولون برحيل المليشيات ومن جاءوا على الدبابات، وهؤلاء الآن هم من يدعون اقامة نواة دولة في ظل انهيار الدولة وسحقها من قبل الاحتلال؟ فما المقصود بهذه العبارة، وأي اضطراب يخيم على تفكير من صاغوا هذا البيان الفريد من نوعه؟
عموما تبقى النيات هي الشيء الوحيد الذي يمكن التقاطه من بين ثنايا النداء. فهو يقول “ونحن بهذا ندعو إلى التفكير الجدي لتشكيل لجنة تحضيرية تكون مهمتها دراسة إمكانية عقد مؤتمر موسع لعناصر وطنية عراقية، ينبثق من خلاله هذا المشروع الوطني المنشود ونظامه الداخلي وكل متطلبات استمرارية عمله لحين انجاز مهماته المرحلية لكون مصير ومستقبل العراق ينادينا بأن نكون عند مستوى الأمانة، وثقة الشعب، وبهذا فلا تكفي البيانات والتصريحات”. ودعوة كهذه لايمكن الوقوف ضدها بوجه عام، لكن بالامكان قول ما نراه بصددها، فهي متأخرة، ولاتلامس الحقائق والمعطيات النامية في الواقع، كما انها تهرب من التأشير على القضايا الكبرى، وعلى المتطلبات الأكثر عملية وراهنية.
ومع نية تجاوز هنات البيان الكثيرة، المذكورة منها والتي لم نذكرها. سنحاول وضع بعض الملاحظات والاستدراكات على ماجاء فيه ويمثل مقصده، وتركيزا سنجمل ذلك في نقاط هي:
– 1 البيان يريد استحضار ضرورات ولت ولم تعد هي الملحة، فالملح بالدرجة الاولى اليوم هو مناقشة أسباب فشل المقاومة العراقية وقوى مناهضة الاحتلال، ووصولها الى المأزق الذي وصلت اليه وكيف تسببت بما تسببت به من تراجع، وكارثة، حولت العمل المسلح الآن قتلاً مجانياً للمدنيين ولعباً بالدماء لاغراض لاعلاقة لها بمقاومة الاحتلال، بل بالمصالح والاغراض الخاصة والطائفية، ولتحسين المواقع في التركيبة السلطوية والطائفية، هذا ما شهده العراق خلال الموجة الأخيرة من التفجيرات المستمرة ضد العراقيين العزّل منذ أواخر الشهر الثالث حتى الآن. الحديث عن الاحتلال ومايخطط له لايستقيم حين تكون المقاومة غير موجودة، والموجود منها يفاوض الاميركيين (مثال المجلس السياسي للمقاومة العراقية) وغالبية الاطراف المهمة في المعسكر المناهض فاوضتهم.
الحديث عن “زوال الاحقاد” وتناسيها على طريقة تبويس اللحى، يتضمن هروبا معيبا من المسؤولية. لم تكن المسألة يوما مسألة أحقاد على الاطلاق، بل مسألة مواقف من مسار وحقيقة المقاومة وحدود فعلها كقوة متدنية الوعي والبنية، وجزئية سياسيا، مع كونها متقدمة وفعالة فاعلية استثنائية عسكريا. والأمر هنا ينقسم شطرين، فثمة المقاومة على الأرض، والى جانبها القوى التي اصطلح على تسميتها “المناوئة أو المناهضة للاحتلال” وهذه كانت متعيشة على وجود المقاومة، لم تساهم على الاطلاق في تصويبها، ولا سعت لتعويض النقص الذي رافق عملها فكريا وسياسيا، ولم تفعل أي شيء عدا استغلال مفعولها وسمعتها، وهي كانت من الأسباب الرئيسة التي أدت الى فشلها. وبينما كان على هذه القوى، أن تسد النقص السياسي، وتتبنى مشروعا يؤسس لرؤية “مقاومة وطنية شاملة “، فلقد أصرت على اعتماد لغة التهليل، وسيّدت منطقا شجع المهرّجين والادعياء، وارتكبت لهذه المناسبة، حتى عمليات ركوب على ظهر العمل المقاوم ليس على المستوى السياسي وحسب.
– 2 بناء عليه فان المطلوب حاليا هو مراجعة شاملة لكل عمل القوى المناهضة للاحتلال والمقاومة العراقية عبر مجموع تجربتها المنصرمة، حتى لاتتساوى ” الكرعة وأم الشعر ” ولا نكون شعبا بلا ذاكرة ولاتاريخ ولادروس يراكمها الفكر والسياسية الوطنية.
– 3 نعتقد ان القوى المسماة مناوئة للاحتلال قد انتهت، وتجربتها ختمت، وهي أصلا لم يسبق لها أن كانت قوى فعالة أو مبادرة قبل الاحتلال، وقد استغلت حالة المقاومة واطلقت على نفسها التسميات، لتمارس نشاطا بالنيابة والواسطة، بينما هي تعاني الآن من أزمة، سببها عجزها عن التقاط طبيعة المتغيرات النامية، وهربها من ماضيها القريب، ومحاولتها خلط الوقائع والظواهر، وهذا مانجد له انعكاسا واضحا في صياغة البيان وحيثياته.
– 4 نعتقد ان مسائل من قبيل البحث في مشاريع واستراتيجيات وطنية، أمر غير قابل للتحقق بسبب الاوضاع العامة والاقليمية، ووضع الاحتلال، وعدم أهلية القوى المدعوة “مناهضة للاحتلال”. ونحن من جهتنا نقترح نقاشا، يتسم بالتركيز وتحاشي الموضوعات الفضفاضة او الرغبة في العودة الى المربع الاول، ونعرض لذلك وثيقة “المبادرة الوطنية للمصالحة والتحري ” المنشورة بنصها في أكثر من مكان وبالاخص في جريدة “النهار” و”الاخبار” اللبنانيتين، كما في جريدة “القدس العربي”.
– 5 وبينما نذكر ذلك فان وفدا من الوطنيين العراقيين يتهيأ للخروج من العراق خلال الايام المقبلة في جولة تشمل سوريا ولبنان والاردن والقاهرة، بأمل التحاور مع قوى المعارضة وتلك المعروفة كقوى وجهات تقول بمناهضة للاحتلال في الخارج، حول عقد مؤتمر للقوى المعارضة والمناهضة للاحتلال في بغداد. ان أساس هذا التحرك ابتدأ في 7/3 / 2009 عندما تم عقد مؤتمر صحافي وقتها في فندق شيراتون في بغداد، واطلق النداء للعودة ومباشرة العمل المعارض داخل العراق. ومن يومها ونحن نناقش ونطلق الآراء والمواقف ونتلقى الاعتراضات والتهجمات. ومع ذلك قررنا مع اخوتنا من الوطنيين أن نعقد مؤتمرا في الداخل، بعد الالتقاء، ومناقشة كل القوى الوطنية ودعوتها للحضور والمساهمة في المؤتمر المزمع عقده في بغداد.
ومن الموضوعات التي ستتم مناقشتها ونظنها أجدى من البحث في الاستراتيجيات والخطط الضرورية طبعا، مسألة، هل من الصائب والسليم اعتبار الواقع العراقي من دون أية ظواهر، أو صراعات او بوارق تبلورات وطنية؟هل نحكم على العراق برمته بالموت، ونقرر ان وجودنا في الخارج، وممارستنا العمل من دول مرتبطة بتحالفات وثيقة مع أميركا وحتى اسرائيل، يتفق مع ما ندعيه من وطنية زائدة ؟ ثم الا توجد داخل العراق ظواهر تستحق الانتباه. وما هو حجمها؟
نحن نعتقد ان “العملية السياسية الأميركية” تعاني مأزقا حادا في الوقت الحاضر، وثمة صراع يخاض الآن ضد سياسات ونفوذ دول اقليمية، لنا مصلحة كبرى في تقليص تغلغلها في العراق. وعلينا ان نكون موجودين على الأرض، وان نستغل الظرف المتوتر الناشيء والمتصاعد داخل “العملية السياسية الاميركية”، لنساهم في الانتقال ببلادنا الى “العملية السياسية الوطنية”. وهذا لن يتحقق ونحن في الخارج، والمسؤولية الوطنية ازاء شعبنا تقتضي أن نكون صادقين ومخلصين ولانتعبد الالفاظ والكلمات الثوروية الفارغة، بينما نهمل أو نتهرب من المهمة الأكثر الحاحا. هنالك زخم مناهض ومعاد لـ”العملية السياسية الاميركية” ومضامينها الطائفية والفيديرالية التقسيمية والفساد والمحاصصة تتصاعد في العراق. والطريق الذي نقترحه يجسد بالفعل المسؤولية الوطنية ويتطابق معها، ورأينا انه لابد من تركيز الجهد الوطني من هنا فصاعدا داخل البلاد. و”المبادرة الوطنية للمصالحة والتحرير” تختصر الكثير من الجهد، ومبادرة خروج الوفد من العراق هي ما ينبغي الاهتمام به، فالاستحقاقات الملحة والمصيرية تحتدم، ولم تعد اللحظة تجيز تضييع الوقت والغوص في ما لا طائل تحته.
(كاتب عراقي )
النهار