«الشطرنج الإيراني»: مناورات تطيل أمد اللعبة
وحيد عبد المجيد
تلعب القيادة الإيرانية الشطرنج بحذر شديد. فهي لا تهدف إلى الفوز في المقام الأول لأن خصومها أقوى. تجنب الخسائر هو أكثر ما تسعى إليه. ولكنها تعمل أيضاً لإنهاك الخصوم عبر إطالة أمد المباراة. وهذه طريقة في اللعب تقتضي إجراء نقلات محسوبة على رقعة الشطرنج.
ولم تغير إيران طريقتها في لقاء جنيف الذي جمعها والدول المعنية بملفها النووي في الأول من الشهر الجاري. فقد اضطرت إلى إجراء نقلة دفاعية، ولكنها محسوبة من وجهة نظرها، لتحسين موقفها على الرقعة. أرادت تفادي نقلة هجومية محتملة من جانب خصومها بعد كشف منشأتها النووية الجديدة في الضواحي الجنوبية لمدينة قم؛ وفي أجواء التوتر الذي اقترن بالمناورات الصاروخية الجديدة التي أجرتها قوات الحرس الثوري عشية لقاء جنيف.
حرص الوفد الإيراني على أن يبدو مرناً ومستعداً لتقديم تنازل في شأن إحدى أهم قضايا الخلاف مع الغرب. ولذلك أعطى انطباعاً باستعداد إيران مبدئياً لقبول تخصيب اليورانيوم في روسيا، بعد أن رفضته من قبل. وعززت زيارة المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية د. محمد البرادعي إلى طهران بعد 48 ساعة على لقاء جنيف اعتقاداً في أن «اختراقاً» حدث في هذا اللقاء ووضع أزمة البرنامج النووي الإيراني على طريق حل أكيد. وساهم الاجتماع الثنائي الذي استمر نحو 45 دقيقة بين رئيسي الوفدين الأميركي والإيراني في تدعيم ذلك الاعتقاد، بل دفع إلى تجديد الجدل حول إمكان وجود صفقة في الأفق.
غير أنه في الوقت الذي وصل البرادعي إلى طهران، كان الخطاب السياسي الإيراني قد اتجه إلى التلاعب في شأن مسألة تخصيب اليورانيوم. وأضفى هذا التلاعب غموضاً مقصوداً على موقف طهران، وما إذا كانت مستعدة فعلاً لإجراء التخصيب في الخارج وبأي شروط، أم أنها تفضل شراء يورانيوم مخصب من الغير ومن ثم الاحتفاظ بما لديها من رصيد.
ويبدو هذا التلاعب أحد مستلزمات النقلة المحسوبة التي لجأ إليها الوفد الإيراني نتيجة متغيرات مهمة سبقت لقاء جنيف ولم تتضح أبعادها، وفي مقدمها قرار إدارة باراك أوباما التخلي عن خطة إدارة بوش لإنشاء درع صاروخية في بولندا وتشيكيا، أو بالأحرى المرحلة الأولى في هذه الخطة والتي تشمل نشر عشرة صواريخ مضادة وإقامة شبكة رادار.
ولما كانت السياسة الروسية فاعلاً رئيسياً في قضية برنامج إيران النووي، فمن الطبيعي أن تكون التفاعلات المتعلقة بها شديدة الحساسية بالنسبة إلى إيران وحساباتها في شأن هذه القضية. صحيح أن روسيا اقترعت من قبل لمصلحة ثلاثة قرارات أصدرها مجلس الأمن وفرض بموجبها عقوبات على إيران. ولكنها لم تفعل ذلك إلا بعد تلطيفها. وبالرغم من أنها التزمت نصوص تلك القرارات، فهي لم تعمل بروحيتها عندما واصلت تصدير أسلحة إلى طهران.
ولذلك يبدو منطقياً أن تقلق إيران من جراء الغموض الذي مازال يكتنف التفاعلات التي اقترنت بقرار أوباما إلغاء المرحلة الأولى في خطة الدرع الصاروخية، كما بزيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو السرية إلى موسكو الشهر الماضي. فحتى إذا لم تكن هناك صفقة أميركية – روسية، فهناك ما يدعو إلى توقع حدوث تغير ما في سياسة موسكو، لأن مؤدى قرار أوباما هو امكان مواجهة ما تعتبره أميركا تهديداً صاروخياً إيرانياً بطريقة أخرى، الأمر الذي يجعل تعاون روسيا في هذا المجال شرطاً ضمنياً لإلغاء خطة الدرع كلياً ونهائياً.
وهناك ما يدل على أن موقف روسيا في هذا المجال هو الذي سيحسم مصير هذه الخطة بشكل نهائي، لأن قرار أوباما لم يشمل إلا مرحلتها الأولى. ويعنى ذلك امكان تنفيذ المرحلة الثانية فيها، والتي لا تترتب بالضرورة على الأولى، إذا خاب أمل واشنطن بتعاون روسيا. وليس هناك ما يمنع تنفيذ هذه المرحلة، التي يحل موعدها في العام 2015، في بولندا أيضاً بالرغم من عدم وجود قرار في شأن موقع الصواريخ (SM-3) التي يفترض نشرها في ذلك الوقت. وقد أعرب مسؤولون بولنديون عن أملهم بذلك ضمن ردة فعلهم على قرار إلغاء المرحلة الأولى من خطة الدرع الصاروخية.
ولهذا كله، تحتاج طهران إلى تبين اتجاه موسكو في الفترة المقبلة، وخصوصاً في ضوء إشارات غير مطمئنة بخصوص مصير اتفاق مبدئي على تصدير صواريخ روسية إليها، وموعد وضع مفاعل بوشهر النووي في الخدمة.
ولذلك يبدو الموقف الذي اتخذه الوفد الإيراني في لقاء جنيف أقرب إلى المناورة منه إلى المراجعة الجادة. فليس في امكان طهران إغفال أهمية التغير الذي يحدث الآن في العلاقات الروسية – الأميركية وأثره المحتمل في موقف موسكو تجاهها، وإمكان أن يفتح ذلك الطريق أمام عقوبات جديدة قد تكون أكثر فاعلية، وخصوصاً إذا شملت منع تصدير البنزين وبالتالي غلق أحد شرايين الحياة في إيران التي لا تملك قدرة عالية على تكرير النفط بالرغم من الصورة التي ترسمها لنفسها في مجال التقدم التكنولوجي. وليس في استطاعتها، في الوقت نفسه، أن تراهن على موقف الصين التي قد تقف وحيدة في مجلس الأمن إذا كفت روسيا عن لعب دورها السابق في تخفيف العقوبات، بالرغم من قوة المصالح المشتركة بين طهران وبكين وتوسع نطاقها في الفترة الأخيرة.
فقد شهد العام الجاري تطوراً كبيراً في الاستثمارات الصينية في قطاع النفط الإيراني عبر الاتفاق على قيام «شركة الصين الوطنية للنفط» بتطوير حقل بارس للغاز الطبيعي، وانضمام شركات أخرى إلى مشروع كبير لبناء سبع مصاف لتكرير النفط وخط أنابيب بطول يزيد على 1600 كيلو متر.
ومع ذلك يبدو الرهان على بكين وحدها مخاطرة كبيرة. والمنطقي، والحال هكذا، أن تتروى طهران وتلجأ إلى المناورة مستثمرة سعي الإدارة الأميركية إلى الحوار وحاجتها إلى بناء علاقة أفضل معها في الوقت الذي يزداد موقفها حرجاً في أفغانستان على نحو قد يجعلها «عراق أوباما» أو المستنقع الذي يغرق فيه مثلما غاصت قدما بوش في بلاد الرافدين.
ولكن حسابات إيران قد تخطيء إذا أقيمت على أنه لا بديل لدى واشنطن عن التقارب معها، وأن في امكانها بالتالي أن تحصل على الكثير في مقابل ما قد يُعد أقل القليل. فهي تتطلع إلى اعتراف أميركي – غربي بنفوذها والتعاطي معها باعتبارها القوة الإقليمية الرئيسية في الشرق الأوسط، جنباً إلى جنب التعايش مع وضعها كدولة مرشحة لأن تكون نووية في المستقبل.
والحال أن طهران قد لا تكون مستعدة لأكثر من إبطاء معدلات التقدم نحو امتلاك القدرة الكاملة على تحويل برنامجها النووي إلى عسكري، وإعادة ترتيب جدولها الزمني لتأخير الوصول إلى «عتبة» القوة النووية من دون تقديم أي تنازل يمكن أن يحرمها من تحقيق هذا الهدف على مدى أبعد.
ولذلك ربما يكون صعباً في النهاية تجنب الصدام بالرغم من قدرة إيران على المناورة وحذرها في إدارة الصراع على رقعة الشطرنج وقدرتها على إجراء نقلات موفقة في كثير من الأحيان.
الحياة