يكفينا
بقلم أمين قمورية
في مقابلته الاحد مع الصحافي فريد زكريا على شبكة “سي ان ان”، لم يتردد القاضي الاممي ريتشارد غولدستون في تأكيد روابطه العميقة باسرائيل على رغم ادانته الشديدة لجيشها في حرب غزة. وقال هذا المحقق الذي يفتخر بكونه يهوديا: “يوجد في داخلي حب كبير لاسرائيل. زرتها مرات عدة وعملت من اجل أهداف اسرائيلية على مدى سنوات عدة”. وعندما سأله زكريا عن دوافعه لاصدار مثل هذا التقرير الذي يتهم الدولة التي “أحبها ” بارتكاب جرائم حرب، أجاب: “يحزنني جدا ان اليهود سواء داخل اسرائيل او خارجها يظنون اني كيهودي محظور علي ان أحقق في الارتكابات الاسرائيلية. كيهودي علي واجب أكبر بالفحص اذا ما ارتكبت جرائم حرب”. واضاف انه لايأخذ على الدولة العبرية حقها بالدفاع عن نفسها، بل يأخذ عليها افراطها في استخدام القوة في الدفاع عن نفسها.
اذن قام غولدستون بما قام به مدفوعا بـ “حبه لاسرائيل” والحرص على سمعتها الدولية وليس دفاعا عن اولاد غزة… وحتما لم يدفع له احد ولم يتلقَّ شيكا عربيا على بياض للقيام بما قام به لان الشيكات العربية تصرف لغايات اخرى لا تمت بصلة الى مثل هكذا حالات وتقارير! وحتى ولو أراد القاضي ان يفصل مسارا آخر لاحداث غزة او ان يكتب تقريرا مغايرا لما كان ممكنا ان يخرج من تحت يده بفعل التغيير الحاصل في نظرة الغرب عموما ازاء ما يحصل في فلسطين. فبعدما كان الحديث عن الاستيطان من المحظورات صارت ادانته كلمة مستهلكة في القاموس الاوروبي. وبلغت العدوى الادارة الاميركية نفسها حتى صار التنديد بالاستيطان محط كلام في خطب الرئيس اوباما ووزيرة خارجيته. اكثر من ذلك فان عبارة “جرائم حرب” التي كانت من المحرمات لدى الحديث عن اسرائيل وممارساتها صارت لازمة يومية في تقارير دول ومنظمات ووكالات عالمية. وفي سابقة من نوعها، حازت صحافية بريطانية جائزة الاتحاد الاوروبي لكشفها فضيحة الفوسفور الابيض في حرب غزة، الامر الذي قد يدين اسرائيل باخطر الادانات اذا احسن استثماره. لا بل فان سياسيين وعسكريين اسرائيليين باتوا يتجنبون السفر الى دول غربية خشية الاعتقال.
غولدستون لم يخرج عن اطار عام بدأ يترسخ دوليا منذ ادانة جدار الفصل في محكمة العدل الدولية ( المغيب ايضا في ادراج المحكمة في لاهاي)، وصار يظلل السلوك الاسرائيلي ويرخي باثقاله المعنوية والقانونية والديبلوماسية عليه حتى يكاد يتحول عبئا ثقيلا يؤرق صناع السياسة في تل ابيب ويقلقهم… فهكذا بدأت القصة مع نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا وهكذا كبرت كرة الثلج التي أطاحت لاحقا “الابارثايد” في ذلك البلد.
لكن بدلا من ان تتلقف السلطة الفلسطينية هذا التحول الايجابي في الموقف الدولي لتراكم عليه، فاجأت الجميع حتى الاسرائيليين انفسهم برمي سترة النجاة لهم !
طبعا التقرير وما قد يتبعه من ادانة دولية للجيش الاسرائيلي لن يعوض لذوي ضحايا غزة فقدان احبائهم وبيوتهم ومدارسهم، لكن كان يمكن – في حال الضرورة – مقايضة “النجدة الفلسطينية ” بثمن سياسي يعطي السلطة بعضا من مطالبها الصغيرة ويحد من انهيارها السريع في بئر التنازلات الذي صار من دون قعر.
غير ان الاسوأ من هذا التنازل المجاني هو ما تتناقله وسائل اعلام اسرائيلية ( اذا صدقت)، ومفاده ان موافقة السلطة على ارجاء التصويت على توصية غولدستون جاءت بعدما هدد الاسرائيليون بنشر اشرطة فيديو تظهر مسؤولين فلسطينيين كبار يحاولون في لقاءات سرية اقناع ايهود باراك وتسيبي ليفني بعدم وقف الحرب على غزة قبل انهاء حكم “حماس” بالكامل!!
حتما، لا أحد يريد ان يصدق مثل هذه “الشائعات” الاسرائيلية “المغرضة”. لكن بين هذه “الشائعات” والتنازلات المجانية، الافضل ان يخفف المحققون الاجانب حرصهم الزائد على القضية الفلسطينية ويوقفوا مطاردتهم للارتكابات الاسرائيلية فيرتاحون ويريحوننا، اذ تكفينا فضائحنا والمهازل!
النهار