صفحات العالمقضية فلسطين

تقرير غولدستون بين مرجعية الحقوق وصلافة السياسة

حسن شامي
من الراجح جداً أن يمر تقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة في حرب غزة، مرور الكرام. ومن الراجح ايضاً ان تتعطّل او تتعثر عملية إحالة نتائج التقرير على مجلس الأمن في حال المصادقة عليه من قبل مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية المعنية بتثبيت مرجعية قانونية دولية تسري مفاعيلها على بني البشر من دون تمييز، من حيث المبدأ، بين خاصّة وعامّة، بين حائزين على المكانة والاعتبار وبين فاقديهما. فمثل هذا التمييز ليس من اختصاص النصاب الحقوقي العالمي الذي تضطلع به الأمم المتحدة وهيئاتها. يمكن ان يكون هذا التمييز من اختصاص نصاب آخر يزن الأفعال والحقوق، سلباً أو إيجاباً، انتهاكاً او صدقيةً، بميزان المصالح والسطوة والنفوذ وتفاوت مواقع الناس فيها وحيالها. وهو نصاب السياسة في المعنى الاصطلاحي للكلمة وإن كان لا يخلو، خصوصاً في أيامنا هذه، من الابتذال. هذا ما يعرفه جيداً ريتشارد غولدستون، رئيس لجنة تقصي الحقائق، والذي خلص تقريره الى أن الجيش الإسرائيلي وناشطين فلسطينيين ارتكبوا جرائم حرب وربما جرائم ضد الإنسانية خلال معارك غزة.
على أن غولدستون، القاضي الجنوب افريقي، واليهودي لمن يهتم بأصل الرجل وفصله، يعلم بأن المقاربة القانونية والحقوقية ليست بلا تبعات سياسية. فهو ردّ على الانتقادات الأوروبية والأميركية لتقريره، بالتأكيد على أن التحقيق لم يكن له أي دوافع سياسية، وأن ما حرّك اعضاء لجنة التقصي الأربعة هو «الرغبة في محاسبة من ألحقوا الأذى بالمدنيين من الجانبين، في انتهاك للقانون الدولي». ذلك أن عدم المساءلة عن جرائم الحرب وسواها وصل الى حد الأزمة، بحسب غولدستون متحدثاً قبل أيام في اعقاب جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، كما أن «غياب العدالة المستمر يقوض أي أمل بعملية سلام ناجحة ويرسّخ المناخ الذي يشجّع أعمال العنف».
لم يكن مستهجناً أن يتعرض تقرير غولدستون لهجوم من السفير الإسرائيلي لدى مجلس حقوق الإنسان، واصفاً التقرير بأنه «مخزٍ» لأنه يقدم الدعم والتبرير للأعمال الإرهابية، كما يتجاهل حق اسرائيل في الدفاع عن نفسها.
في المقابل يبدو موقف مساعد وزيرة الخارجية الأميركية مايكل بوسنر أمراً يستحق ان نتوقف عنده بعض الشيء. فقد اعلن هذا الأخير عن اختلاف بلده الشديد مع الكثير من تقديرات التقرير وتوصياته، واصفاً إياه بأنه «معيب للغاية». ورفض بوسنر إحالة التقرير على مجلس الأمن قائلاً «إذا طُبق هذا المعيارعلى كل نزاع في العالم، فإن دور مجلس حقوق الإنسان سيختلف دراماتيكياً». فوق ذلك دان بوسنر موقف غولدستون رافضاً «المساواة على الصعيد الأخلاقي بين اسرائيل، الدولة الديموقراطية التي من حقها الدفاع عن نفسها، وحركة حماس التي ردّت على انسحاب اسرائيل من غزة بترهيب المدنيين في جنوب اسرائيل». لا نبالغ إذا قلنا إن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية نجح، بتصريحه هذا، في تحقيق عدد من المغالطات والأكاذيب يفوق عدد كلمات عبارته. الكثير من التضليل والغش بواسطة القليل من العبارات الاصطلاحية المرفوعة كأيقونات للحياة الحديثة والسوية.
فالأمر لا يتعلق، على الأقل بالنسبة إلى واضعي التقرير، بمساواة على الصعيد الأخلاقي، بل بحقوق المدنيين من الجانبين، بحسب القاضي غولدستون الذي يغض الطرف عن الوضعية العامة وغير المتكافئة للطرفين. وهذه المساواة في الحقوق الأساسية للبشر هي شرط من شروط الديموقراطية في بلد واحد، وهي بالتأكيد مما يساعد على دمقرطة العلاقات بين دول وبلدان تتفاوت، بطبيعة الحال ولأسباب تاريخية وثقافية وسوسيولوجية، من حيث التشكل السياسي والحقوقي. وهذا بالضبط ما يضيق به أمثال بوسنر من محترفي الاحتيال البلاغي الحديث. وينطبق التوصيف الأخير حرفياً على تقديم الانسحاب من غزة كما لو أنه خاتمة أحزان قابلتها حركة حماس بالجحود ونكران الجميل والحقد على المنسحبين الذين لم يخرجوا من غزة، لا براً ولا بحراً ولا جواً. وهناك ما يكاد يجمع عليه كل مبعوثي الأمم المتحدة، إضافة الى بعض التقارير الأميركية بالذات، وهو ان غزة سجن مفتوح على السماء.
أمثال بوسنر سيجدون أعذاراً مشابهة لتبرير إقدام السلطات الإسرائيلية على اعتقال عشرات الفلسطينيين من أبناء مدينة القدس المحتلة بسبب احتجاجهم على محاولات اقتحام المسجد الأقصى من قبل متطرفين يهود. قد يحتاج الأمر، في هذه الحالة، الى مناورات بلاغية أكثر حرفية وتعقيداً. فها هنا من الصعب تحرير معادلة من نوع «حزّ على الديموقراطية وعلى الاعتراف الإنشادي لك بها، وافعل ما شئت». فهذه المعادلة لم تنفع مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، المنتخب ديموقراطياً وبنزاهة، بل عوقب على انتخابه ربما، من قبل ادارة جورج بوش الابن، وقضى مسموماً على الأرجح بعد محاصرته وسجنه مدة عامين داخل المقاطعة. كما لم تنفع مع الانتخابات التي أسفرت عن فوز حركة حماس وتشكيل الحكومة الأولى التي سارعت الدول الموصوفة بالعراقة الديموقراطية الى مقاطعتها. قد تكون المناورة البلاغية، في حال ما تفاعلت حادثة المسجد الأقصى، وهذا مستبعد حالياً، من طراز تلك التي عثر عليها المبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان لتبرير عمليات التزوير في الانتخابات التي أسفرت عن فوز أولي لحامد كارزاي.
لا نريد من هذا العرض تسجيل احتجاج بات معهوداً على سياسات الكيل بمكيالين. فقد نوافق على أن السياسة تحتمل، عرفاً وربما تعريفاً، أن تكون كيلاً بمكيالين وأكثر. ما يعنينا هو محاولات ممثلي هذا النوع من فقه السياسة للاستيلاء على الأفق الحقوقي المتبقي لتسوية النزاعات والأزمات بين شعوب ودول. فهذا الاستيلاء لا ينفصل عن لعبة الصراع المفتوح على السلطة وتقدير المصالح ورسم استراتيجيات السيطرة والتمدد والتبعية. ويبدو أن نجاح هذه الاستراتيجيات الساعية الى ترتيب العالم هرمياً وتقسيمه بين نخب ممتازة وبين جموع تائهة، معقود على تجويف الوطنيات وترسيخ أدوات الاستلحاق والزبانة (او الزبونية) ولو أفضت الى تخلع الأبنية الاجتماعية في مجتمعات لا تخلو أصلاً من الهشاشة. وهذا ما يولد الانطباع بأن النظام العربي بات بلا مكيال حقيقي. ولا يعود مستغرباً أن تصبح «أبلسة» إيران النووية، في الغرب، أولوية سياسية… وبلاغية.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى