قراءة مقارنة لخطابي نتنياهو وعباس أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة
محمد علي الأتاسي
في أعقاب خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة والذي دعا فيه صراحة إلى استئناف المفاوضات المباشرة من دون شروط مسبقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بخصوص قضايا الحل النهائي بما فيها القدس والحدود واللاجئون وصولاً إلى حل الدولتين، اندلع سجال في العديد من الأوساط السياسية والصحافية من حول إذا ما كان أوباما قد خضع للضغوط الإسرائيلية وتراجع عن مطلبه بالوقف الكامل للنشاطات الاستيطانية الإسرائيلية كما عبر عنه بوضوح في خطابه الشهير في القاهرة.
صحيح أن أوباما في كلمته أمام الجمعية العمومية عاد وأكد أن “أميركا لا تقبل شرعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية”، لكنه لم يتبعها بعبارته القاطعة التي استخدمها في خطاب القاهرة وجاء فيها “إن عمليات البناء هذه تنتهك الاتفاقات السابقة وتقوض من الجهود المبذولة لتحقيق السلام لقد آن الأوان لكي تتوقف هذه المستوطنات”. من هنا اعتبر بعض المراقبين أن أوباما تراجع أمام نتنياهو في موضوع الإستيطان بدليل دعوته الطرفين للدخول في مفاوضات مباشرة من دون شروط مسبقة، أي من دون الوقف الكامل للاستيطان، في حين اعتبر البعض الآخر أن هذا التراجع ما هو إلا تكتيكي بدليل تأكيد أوباما في الخطاب ذاته على عدم شرعية الاستيطان ودعوته في المقابل إلى الدخول مباشرة في مفاوضات الحل النهائي بما فيها القدس واللاجئون، وهو أمر لا يطيب لقادة إسرائيل التطرق إليه بهذه الصيغة.
الواضح أن هناك صراع إرادات وعملية شد وجذب بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي بخصوص عملية السلام والمستوطنات، وذلك في الحدود التي يسمح بها التحالف الإستراتيجي بينهما، لكن المفجع في كل هذا هو الغياب الكامل لأي دور أو تأثير فلسطيني داخل هذه المعادلة، في الوقت الذي تقضم فيه المستوطنات شيئا فشيئا أراضي الضفة الغربية وتجعل من إمكان قيام الدولة الفلسطينية أمراً غاية في الصعوبة.
قد يعزو البعض هذا الاضمحلال في الدور الفلسطيني إلى الكثير من العوامل الموضوعية مثل تصدع الصف العربي والانشقاق الفلسطيني الداخلي وغياب البرنامج السياسي الواضح والاختلال الكامل في موازين القوى السياسية والعسكرية في مواجهة الجانب الإسرائيلي. لكن يبقى أن القيادة الفلسطينية الحالية أظهرت مع الأسف قدرات خارقة في تبديد ما تبقى لها من عوامل القوة التي من المفترض أن يتمتع بها من يمتلك الحقوق التاريخية والأبعاد الأخلاقية وإرادة الكفاح والصمود وشرعية العدالة والقانون الدوليين.
إن أزمة القيادة التي تعاني منها الحركة الوطنية الفلسطينية بشقيها الإسلامي والوطني، هي واحدة من أخطر الأزمات التي تهدد مصير القضية الفلسطينية بالمجمل. لقد سبق لنا في مناسبات سابقة ومن على صفحة “قضايا النهار” أن تناولنا بالنقد أداء قادة الحركة الإسلامية سواء أثناء حرب غزة أو في ما تلاها من أحداث. وسنحاول اليوم أن نتوقف عند أداء الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال زيارته الأخيرة لنيويورك، وسنقارن بين الخطاب الذي ألقاه أبو مازن أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة كرئيس للسلطة الفلسطينية في “مواجهة” الخطاب الذي ألقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أمام ذات الجمعية العمومية لنرى كيف أن الجلاد صادر دور الضحية ومن على أهم منبر في الأمم المتحدة، في الوقت الذي وقف من يفترض أنه يمثل نضالات الشعب الفلسطيني وآماله، يتلعثم ويتلكأ في دفاعه الخجول عن حقوق شعبه، وفي استجداء رأفة المجتمع الدولي وتعاطفه.
قد يبدو في هذا الكلام بعض من النقد الجارح، لكن لنقارن ونحلل في الشكل والمضمون خطابي عباس ونتنياهو لندرك إلى أي مدى وصل عجز القيادة الفلسطينية وتقاعسها. فلجهة الشكل تألف خطاب نتنياهو من 2300 كلمة تقريبا أنصبت في جزء رئيس منها على الهولوكست والرد على الرئيس أحمدي نجاد والتنبيه من الخطر الإيراني، في حين أنصب الجزء الآخر للرد على نتائج تقرير لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن الحرب على غزة، ولاستعادة مواقف نتنياهو السابقة حول يهودية دولة إسرائيل واستعداده للقبول بدولة فلسطينية منزوعة السلاح ومنقوصة السيادة. بدأ نتنياهو كلمته بالعبارة الموجزة هي “أيها السيدات والسادة” ودخل من السطر الأول في صلب موضوعه بخصوص يهودية دولة إسرائيل. وقد أورد كلمة “إسرائيل” 18 مرة وكلمة “اليهود” 9 مرات وأستخدم كلمة “الإرهاب” ومشتقاتها 14 مرة.
في الجهة المقابلة تألفت كلمة محمود عباس المختصرة من الف كلمة تقريبا أهدر منها ما يقارب 200 كلمة على عبارات التبجيل والتفخيم والتشكر والمجاملة للحضور وللأمين العام ولرئيسي الجمعية الحالي والسابق، وكذلك على عبارات فارغة بخصوص الاحتباس الحراري وتغير المناخ والأزمة المالية! أورد عباس كلمة “فلسطين” و “الدولة الفلسطينية” ثلاث مرات فقط، في حين وردت كلمة “سلام” 18 مرة. وإذا كانت كلمة “إحتلال” قد وردت في خطابه 11 مرة، فإن كلمة “مقاومة” لم ترد مرة واحدة في الخطاب بكامله! أما كلمة “عنف”، فإنها وردت مرة واحدة في سياق مبهم يقول بـ “مكافحة التطرف والعنف” ولا يشير البتة إلى عنف الاحتلال والمستوطنين!
إذا نظرنا الى جهة المضمون نجد أن نتنياهو استغل إلى أقصى حد انحرافات أحمدي نجاد المعادية للسامية والمشككة بالمحرقة، لينصب نفسه ومن خلفه دولة إسرائيل كناطقين مكرسين باسم ضحايا الهولوكست، وكمؤتمنين على ذاكرتهم وعذاباتهم. ولم يكتف نتنياهو بالسجال الكلامي بل أظهر من على المنبر صوراً لوثائق حصلت عليها إسرائيل اخيراً من ألمانيا يؤكد البعض منها تصميم النازيين على إبادة اليهود وتبرز أخرى مخططات معسكر الإعتقال في أوشفيتز. ولزيادة وقع كلماته على الحاضرين تناول نتنياهو الجانب الشخصي وذكرهم أن معظم أقارب عائلة زوجته، بمن فيهم جدتها وجدها ومعظم عماتها وأعماها، قضوا نحبهم في معسكرات الاعتقال النازية. بعدها أنتقل نتنياهو للحديث عن النظام الإيراني الحالي معتبرا أنه لا يهدد اليهود فحسب بل العالم أجمع، واصفاً إياه بالتشدد والقروسطية والبربرية وباضطهاد المرأة والأقليات وبإراقة دماء المتظاهرين في الشوارع، متناسيا بالطبع الدماء الفلسطينية البريئة التي أراقتها حكومته في شوارع القدس والضفة وغزة، وصولا إلى مدن الجليل في الداخل الفلسطيني. وطالب نتنياهو الأمم المتحدة باتخاذ خطوات ملموسة لمنع إيران من حيازة السلاح النووي.
بعدها انتقل نتنياهو لمهاجمة تقرير لجنة تقصي الحقائق الأممية بخصوص الحرب على غزة متهما تقرير القاضي غولدستون بأنه يدين “الضحية” بدلا من إدانة الإرهاب. وفي خطوة لا تليق إلا برموز البروباغندا السينيكية الكبار، قلب نتنياهو الحقائق رأسا على عقب، وراح يشبه ما أصاب مدن جنوب إسرائيل تحت ما سماه وابل الآلاف من صواريخ الكاتيوشيا على مدى ثمانية أعوام، بالذي تعرضت له المدن الإنكليزية من قصف نازي خلال الحرب العالمية الثانية. ولكي يزيد الطين بلة ويمعن في كذبه المباح فإن نتنياهو قارن بين رد الحلفاء على النازيين، والذي تجسد بتدمير المدن الألمانية وإيقاع مئات آلاف الضحايا، وما سماه الرد الجراحي الإسرائيلي الدقيق الذي عمل جاهدا على تجنيب المدنيين الخسائر في مواجهة عدو إرهابي يرتكب في نظره جريمتي حرب بإطلاقه صواريخ الكاتيوشيا على المدنيين الإسرائيليين وبتخفيه وراء المدنيين الفلسطنيين!! ولم يكتفِ نتنياهو بهذا المقدار من المقارنات الفاحشة، بل اتهم مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي من المفترض أن يناقش تقرير غزة، بأنه كان وفقا لهذه المعايير جرجر الى قاعة الإستقبال كمجرمي حرب كلا من روزفلت وونستون تشرشل!
بعدها حذر نتنياهو الأمم المتحدة أنها عليها أن تختار بين الوقوف إلى جانب الإرهابيين أو إلى جانب إسرائيل. وأنه لكي تأخذ إسرائيل قرارات جريئة في مسار السلام فعلى الأمم المتحدة دعمها والاعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها! وعاد وذكر بأن الأمم المتحدة سبق لها أن صوتت في العام 1947 على قرار تقسيم فلسطين دولة عربية ودولة يهودية، لكن العرب رفضوا في ذلك الوقت القرار، وأن على الفلسطينيين اليوم القبول بما رفضوه قبل 62 عاماً، ألا وهو يهودية دولة إسرائيل! وأعلن في المقابل عن استعداده للقبول بأن يحكم الفلسطينيون أنفسهم بأنفسهم في دولة منزوعة السلاح لاتهدد أمن إسرائيل!
مقابل هذا الكلام الإسرائيلي الممعن في كذبه وافترائه، ماذا قال الرئيس الفلسطيني محمد عباس وفعل؟ انه ويا للاسف بدلا من أن يتكلم كممثل لشعب حي أمضى ما يقارب القرن وهو يقارع أعتى أنواع الاستعمار الاستيطاني في العالم، تكلم وتصرف كما يجدر بموظف تكنوقراطي في الأمم المتحدة لجهة الدعوة الخجولة لإحترام القرارات الدولية. بل أكثر من ذلك فإن أبو مازن قدم القضية الفلسطينية على أنها قضية احتلال بدأ في العام 1967، هذا في الوقت الذي لم ينفك نتنياهو يذكر في كلمته أن شعبه القديم عمره 3500 سنة وأنه عاد إلى أرضه التاريخية، أرض أبائه وأجداده وصولا إلى أنبياء إسرائيل. كان يمكن لأبو مازن المولود في صفد في الجليل، أن يقارع نتنياهو وخرائط أوشفيتز، لا كما فعل أحمدي نجاد في سجالاته البائسة في معاداة السامية، ولكن من خلال إخراج مفتاح بيت أهله في صفد من جيبه وتذكير العالم من على منبر الأمم المتحدة أنه هو وعائلته كما مئات آلاف العائلات الفلسطينية التي لا علاقة لها بالنازية، هجرت قبل 62 عاما من بيوتها وقراها ومدنها ولا تزال تنتظر حلا لمآساتها. كان يمكن أبو مازن في مواجهة خطاب نتنياهو المغرق في استغلال مآسي الهولوكوست للتعمية عن المجازر التي ترتكبها دولته بحق الفلسطينيين، أن يبدي تعاطفه مع هؤلاء الضحايا ويحذر في الوقت ذاته من أن من هو مهدد اليوم بالاقتلاع والتهجير والإبادة، ليس من يملك الرؤوس النووية المخزنة في مفاعل ديمونا، ولكنهم الفلسطينيون، ضحايا الضحايا بامتياز. كان يمكن ابو مازن أن يذكّر العالم بأسماء الضحايا الفلسطينيين وقصصهم وحيواتهم وأجسادهم التي فتكت بها قنابل الفوسفور في العدوان الأخير على غزة. كان يمكنه أن يورد أسماء وأعمار بعض العائلات الغزاوية التي أبيدت عن بكرة أبيها بحجة أن المقاتلين الفلسطينيين يحتمون بمنازلها!
الطريف والمفجع أن أبو مازن لم يعجز فقط أن يعطي للضحية إسمها، بل تقاعس عن تسمية الجلاد بإسمه. ففي الكثير من المرات التي حاول فيها التطرق في كلمته للانتهاكات الإسرائيلية الفادحة بحق الشعب الفلسطيني جاءت أفعاله مبنية للمجهول وكأن لا فاعل يقف وراء هذه الجرائم المرتكبة بحق شعبه! فإذا بعباراته تنساق على الشاكلة الآتية: “قطاع غزة الذي تعرض قبل شهور لعدوان مدمر أدى الى سقوط آلاف من الضحايا من المدنيين”، أو “إن شعبنا المتمسك بحقوقه بالبقاء في أرضه رغم كل ما يُعانيه من اعتقالات وحصار وقتل”.
طبعا لم يفت عباس على ما جرت العادة أن يدعو في سياق كلمته إلى تطبيق القرارات الدولية وإنهاء الاحتلال بمساعدة المجتمع الدولي ودعمه من خلال الضغط على إسرائيل للقبول بالتزاماتها. لكن ما فات الرئيس الفلسطيني أن يشير إليه في خطابه هو ضرورة أن يتجسد هذا الضغط بعقوبات اقتصادية وديبلوماسية حتى تذعن النخبة الإسرائيلية الحاكمة لمتطلبات السلام الحقيقي في المنطقة. فكلمة “عقوبات” لا وجود لها في قاموس عباس، كذلك هي الحال مع كلمات من مثل “التفرقة العنصرية” و”الأبارتايد” و”المقاومة”، ولو السلمية منها! هذا مع أنها كلمات غاية في الأهمية ليس فقط لأنها تشكل توصيفا دقيقا لواقع الحال في فلسطين، ولكن لأنها في مواجهة إصرار نتنياهو على لعب دور الضحية واستحضار التجربة النازية البشعة، تعيد تذكيره وتذكير العالم من حوله بواقع النظام السياسي الحالي في إسرائيل اليوم.
لم يكن الهدف من هذه المقارنة بين خطابي نتنياهو وعباس أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، التجريح بالقيادة الفلسطينية والتشفي بها، بل هي محاولة لإظهار خبث أعدائنا ودهائهم وقدرتهم على إبتزار المجتمع الدولي، في المقابل يظهر عجزنا الفاضح في الدفاع عن قضايانا المحقة في مواقع لا تتطلب لا تقدم تكنولوجي ولا هيمنة عسكرية، بقدر ما تتطلب قيادات تاريخية تعبر حقيقة عن لسان حال شعبها.
النهار