السلام والإرادة السياسية
طيب تيزيني
يتضح شيئاً فشيئاً ما كنَّا توجَّسنا خيفة منه، حين اضطرب العالم مع الأحداث الثلاثة الكبرى، التي أفصحت عن نفسها مع مقتبل نشوء النظام العالمي الجديد، نعني النتائج الحاسمة والمدمّرة لحرب الخليج الثانية أولا، وثورتا المعلومات والاتصالات ثانياً، وتفكك الاتحاد السوفييتي واستفراد العالم أميركياً، ومن ثم نشوء العالم ذي القطبية الواحدة ثالثاً، لقد كان ما توجّسنا منه خيفة هو ظهور الهم الجديد المرعب أمام الولايات المتحدة، بصفتها القطب الكوني الوحيد، الذي فقد خصمه التاريخي السابق، ليجد نفسه الآن أمام ضرورة التلفيق لـ “عدوّ-خصم” جديد لـ “الداخل الأميركي” كما لشعوب العالم، والسبب في ذلك يعود إلى العمل على وضع هذين الحقلين الكبيرين كليهما دائماً تحت القبضة “العولمية” الجديدة. فترويض الشعب الأميركي عبر تهديده بخطر محتمل مفتوح (كان الشيوعية)، أنتج الآن الإسلام، الذي ستتحدد هويته -بعدئذ- عبر كونه إسلاماً أصولياً إرهابياً، يُدخل العالم في حالة من خطر دائم، وخصوصاً بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية شعباً ودولة.
في هذا السياق تأتي أهمية ما عبر عنه (آتالي)، حين قال، بصيغة المفارقة التالية: أميركا إنما هي شرطي بلا لصوص، أو تعبيرنا: هي المهددَّة مَمَّن لا يملكون الخبز، ناهيك عن السلاح. وإذا أدرجنا هذه المفارقة في سياق علاقة محتملة مع “الديمقراطية الليبرالية”، بحسب نظر أطراف من “اليسار” الأميركي، فإن رأياً آخر ينفيها (أي المفارقة)، ويناقضها، وهو: إن انتشار الديمقراطية الليبرالية إنما هو نفي لدور أميركا نفسها. وإذا تابعنا الأمر كما نستنبطه من هنتنجتون، وجدنا أنفسنا أمام النتيجة المنطقية المرعبة: يجب أن تكون حدود الولايات المتحدة مع الإسلام دامية بامتياز. ولما كان الإسلام المُضمر هنا هو إسلام النفط، فإن اللاحقة التالية تصبح أيضاً ضرورية: كذلك مع النفط يجب أن تكون الحدود بينه وبين الولايات المتحدة دامية، وذلك على نحو لا سبيل فيه إلى إطفاء الحروب والمشكلات في العالم. أما الوضعية الراهنة في فلسطين، فيراد لها أن تكون واحدة من أخطرها.
مشكلة فلسطين تنتمي إلى مرحلة الحرب الباردة، وقبلها إلى المرحلة الممتدة من أواخر الدولة العثمانية إلى مرحلة تأسيس المشروع الصهيوني- الإسرائيلي. فهي مرحلة طويلة مركّبة وقف الغرب الاستعماري الامبريالي وراءها تأسيساً ودفعاً وتطويراً. وإذا كان ذلك يشكل جزءاً من تاريخ هذا الغرب ومن تاريخ الحرب الباردة، فإن الأمر لا يعود مستقيماً، إذا ظلت المشكلة المذكورة خارج أجندة مَنْ يرغب من الغربيين والأميركيين في تصفية الحيْف، الذي يلحق بالشعب الفلسطيني. وواضح أن بلداناً وشعوباً أخرى تعيش منذ عقود في أفريقيا وآسيا، مثلا، تحت قبضة الاقتصاد الاستعماري والسياسة الاستعمارية. بيد أن ما يمنح المشكلة الفلسطينية خصوصية خطرة، يتمثل في أن المشروع الصهيوني الاستيطاني يعمل على إبادة الشعب الفلسطيني بوسائل أخطبوطية إجرامية، مثل رفض حق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم، وتوسيع الاستيطان اليهودي في فلسطين إلى درجة يسعون إلى إخراج فلسطينييِّ الـ48 من فلسطين، فتغدو فلسطين بقعة مهوَّدة تحت قمع السلاح.
ما نرمي إليه، ها هنا، يتمثل في أن الدعوة التي أطلقها أوباما لاستيلاد سلام عادل في الشرق الأوسط، تحتاج إلى إرادة سياسية هائلة منه ومن أنصاره هناك، وذلك على نحو يمكن أن يُعيد النظر في الواقع الراهن في الشرق المذكور، وبحيث ننتهي إلى اجتراح خطوة عظمى على طريق التوازن والعدل والحرية والاستقلال بخصوص فلسطين. وهذا قد يعني أن أوباما إذا ما وطَّن العزم على إعادة بناء أميركا لصالح الشعب الأميركي وشعوب العالم، فسوف يتبين أن ثمن ذلك يتمثل في عمل عملاق يُفضي إلى عالم جديد بلا أسلحة نووية من قِبل الجميع دون استثناء، وإلى الاقرار بحقوق الشعوب في تقرير مصائرها. إضافة إلى دفع قوى الحرية والعدالة والتقدم الاجتماعي في الولايات المتحدة نفسها. وهذا، بحق، مشروع كبير عظيم يأتي رداً من الداخل والخارج على نظام السوق السلعية الكونية، ومن أجل إحياء التراث الوطني لرواد الحركة الكفاحية أنفسهم في الولايات المتحدة.
الاتحاد