هيرتا مولر الألمانية تفوز بجائزة نوبل للآداب لعام 2009
علاينة عارف
علاينة عارف من ستوكهولم: فازت الألمانية هيرتا مولر بجائزة نوبل للآداب لعام 2009. والغريب انها رُشحت للجائزة قبل يومين. أيعني هذا ان الأكاديمية اعترضت على مرشح دائم لسبب أخلاقي، ام أرادت فعلا ان تفاجئ الجميع. المهم أن الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل لهذا العام، قررت فعلا العودة الى تكريم الشعر، خصوصا أن آخر مرة كان عام 1996 عندما أعطيت الى الشاعرة البولندية فيسلافا شيمبورسكا. وكان على حق شتيفان ايكلوند مسؤول الصفحة الثقافية في صحيفة سفينسكا داغبلاديت عندما كتب: “نسمع كثيرا ان الوقت حان لمكافأة شاعر، لذلك ربما يكون الفائز هذه السنة شاعرا”. ووصفت الاكاديمية موللر (56 عاما) بانها كاتبة “عكست حياة المحرومين من خلال الشعر والنثر الصريح”. فعملها يتلخص في كلمة واحدة هي “جماليات المقاومة”. ومن بين اشهر رواياتها “جواز السفر” التي نشرت العام 1986 في المانيا وترجمت في العام 1989، و”الموعد” التي نشرت العام 2001 وتصف القلق الذي تعيشه امرأة بعد ان استدعتها مديرية امن الدولة. وذكر ايوان ماسكوفيسكو رئيس بلدية قرية نيتشدورف التي تتحدر منها مولر، ان المنزل الذي ولدت فيه اصبح الان من املاك الدولة، لكنها لا تزال تملك ارضا ورثتها هناك رغم انها لم تزرها مطلقا. ووصفت مولر الديكتاتور الروماني السابق تشاوشيسكو في مقال نشرته صحيفة “فرانكفورتر روندشاو” العام 2007 بانه “محدث نعمة يستخدم الصنابير وادوات الطعام المصنوعة من الذهب كما ان لديه ضعفا خاصا تجاه القصور”. وقالت ان رومانيا اصيبت “بفقدان الذاكرة الجماعي” لماضيها القمعي. وقالت ان سكان رومانيا “يتظاهرون بان ذلك الماضي اختفى، ان البلاد جميعها مصابة بفقدان الذاكرة الجماعي”، واضافت “ان (رومانيا) كانت مأوى لاعتى الطغاة في شرق اوروبا واكثرهم شرا بعد ستالين، خلق (تشاوشيسكو) لنفسه صور بطل توازي ما يحدث في كوريا الشمالية”. وقد بينت مولر في كتاباتها كيف الدمار البشري سببه نظام
في ما يلي اسماء الفائزين في السنوات ال15 الاخيرة بجائزة نوبل للاداب التي منحتها الاكاديمية الملكية السويدية الخميس للروائية الالمانية هيرتا مولر:
– 2009: هيرتا مولر (المانيا)
– 2008 : جان ماري غوستاف لو كليزيو (فرنسا)
– 2007 : دوريس ليسينغ (بريطانيا)
– 2006: اورهان باموك (تركيا)
– 2005: هارولد بينتر (بريطانيا)
– 2004: الفريدي يلينيك (النمسا)
– 2003: جون ماكسويل كوتزي (جنوب افريقيا)
– 2002: ايمري كرتيس (المجر)
– 2001: في.اس. نايبول (بريطانيا)
– 2000: غاو سينجيان (فرنسا)
– 1999 غوتنر غراس (المانيا)
– 1998: جوزيه ساراماغو (البرتغال)
– 1997: داريو فو (ايطاليا)
– 1996: ويسلاوا سيزمبورسكا (بولندا)
– 1995: سيموس هيني (ايرلندا)
تشاوشيسكو الديكتاتوري.
ولدت هيرتا ملر في قرية نيتزكيدورف الرومانية في العام 1953 الواقعة في مقاطعة بانات ذات الأصول الألمانية. وكانت قد درست الأدب الألماني والأدب الروماني وعملت لفترة طويلة كمترجمة، حتى أضطرت الى مغادرة البلاد برفقة زوجها ريشارد فاغنر الى ألمانيا بعد أن تعرضت للعديد من المضايقات من قبل المخابرات الرومانية وكذلك في عملها الأدبي، حيث نشرت عملها الأول “منحدرات” تحت إشراف الرقيب. أثناء إقامتها في ألمانيا عملت في العديد من الجامعات كـ “كاتبة ضيفة” وعملت في جامعة برلين الحرة كبروفيسور ضيف متخصصة بأعمال هاينر ملر. ولحد العام 1997 كانت هيرتا ملر عضوا في “مركز PIN الألماني” ثم أصبحت عضوة في أكاديمية اللغة والشعر الألماني. ومن الجدير بالذكر أن هيرتا ملر قد تخلت عن عضوية الـ “PIN” بعد أن قامت هذه المنظمة بدعوة كاتبين كانت لديهما علاقات بالمخابرات الرومانية “سيكوريتاتا” لقراءة ادبية في المانيا. ومما يلفت النظر أن أغلب أعمالها تتعرض للحياة في رومانيا أثناء فترة تشاوتشيكو وتحت هيمنة الـ “سيكوريتاتة”. وقد حصلت هيرتا ملر على العديد من الجوائز الأدبية ومنها جائزة “ريكاردا هوخ” -1987- وجائزة “ماري لويز فلايسنر” -1989 – وجائزة “اللغة الألمانية”- 1989- وجائزة “دوبلين العالمية للآداب” لروايتها “حيوان القلب” وجائزة “فرانس كافكا” إضافة الى العديد من الجوائز العالمية والألمانية.
ومن أهم أعمال ملر:
“منحدرات”،- 1982
“فبراير العاري القدمين” -1987
“مسافرون على ساق واحدة” – 1989
“الشيطان يجلس في المرآة” – 1991
“الوطن هو ما ننطقه” – 2001
“الملك ينحني ويقتل” – 2003
“السادة الشاحبون وفناجين القهوة” – 2005
ولا شك بأن سلسلة الأعمال الروائية والقصصية التي نشرت للكاتبة تتعدى ماذكرناه بكثير، وذلك إضافة الى عدد من المجموعات الشعرية.
ايلاف
مـن ردود الفعـل علـى فـوز هيرتـا مولـر
عديدة هي ردود الفعل التي تناقلتها أمس وكالات الأنباء حول فوز الكاتبة هيرتا مولر بجائزة نوبل للآداب العام 2009، حيث نبدأ بالكاتبة نفسها التي قالت عبر بيان صحافي وزعه ناشرها في ألمانيا: «أنا سعيدة بذلك حتما، لا أعرف ماذا أقول الآن…». وقد نقل السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، بيتر انغلوند أمام الصحافيين، أجواء ردة فعل الكاتبة حين ابلغها بفوزها بالقول: «إنها سعيدة جدا. قالت لي إنها فقدت القدرة على التنفس وبأن كلّ ذلك يبدو غير واقعي». وأضاف إنغلوند: «لقد وعدتني بأننا حين نلتقي في كانون الثاني المقبل (يوم توزيع الجائزة) ستكون قد استردت أنفاسها».
من جهتها أعربت والدة الأديبة الألمانية عن سعادتها وفخرها الشديدين بابنتها. وقالت والدة مولر(84 عاما):«أشعر بالفخر الشديد بها وأنا سعيدة بشدة من أجلها فهي كانت ترغب دائما في النجاح». وأضافت: «سبق وقلت لها إنها واحدة من المرشحين (للفوز بالجائزة) ولكنها قالت لي: نعم واحدة من ضمن ستة».
واعترفت كاترينا مولر بأنها سعيدة بابنتها ولكنها كانت تتمنى في الوقت نفسه أن تواصل طريقها في العمل كمدرسة حتى تتمكن من قضاء وقت أطول معها وأضافت: «لم أرجح مهنة الكاتبة في البداية لأن المرء كثيرا ما ينام في أسرة أخرى غير سريره، بسبب كثرة المحاضرات والندوات».
الروائي الألماني غونتر غراس (نوبل للآداب 1999) أعرب عن تفاجئه بفوز مولر، لكنه كان أعرب عن سعادته الكبيرة «إذ إنها كاتبة كبيرة». وكان غراس يتحدث من غدانسك، حيث يقيم معرضا لأعماله الفنية، وأضاف: «أعترف أن المفضل لدي كان الكاتب (الإسرائيلي) عاموس عوز، لكني أريد أن أسجل أن اللجنة الملكية السويدية اتخذت قرارا صائبا».
أما في ميونخ فقد عبر بعض ناشري كتب هرتا مولر عن سعادتهم بفوزها بالجائزة، وقالوا إن القرار جاء مفاجئا لهم. وقال فولفجانج ماتز مدير دار نشر هانسر: «بالطبع أشارك المؤلفة الفرحة نظرا إلى أنها مرتبطة بقوة بدار النشر. في الحقيقة كان لدي أمل ولكن كنت متشائما في أن يأخذها شخص آخر. معظم الوقت كان من الممكن لشخص آخر أن يحصل عليها. إذا كان هناك شخص هو المرشح المفضل لفترة طويلة.. لعدة سنوات.. وتحدث المفاجأة عندئذ يكون ذلك تكريما لمثل هذا الكاتب العظيم.»
وأضاف ماتز: «نعم. تحدثت إليها وكانت تطير من الفرح. نحن أيضا طرنا من الفرح وكان الشعور أقوى لدى الكاتبة. لقد رشحت لثلاث أو أربع سنوات وبعد ذلك حصلت عليها. هذه ليست جائزة صغيرة. إنها الأكبر حتى لو كنت تعرف انك قد تف`وز بها.. فور أن تحصل علــيها لن تصدق أنك فزت بها.
وفي برلين قال أحد الزبائن في واحدة من أكبر دور بيع الكتب في برلين إن مولر أديبة رائعة وبسيطة للغاية ووصف قرار فوزها بالجائزة بأنه شجاع. وقال أندرياس جالنجستلر «أشعر بإثارة بالغة لهذا القرار. أعتقد انه بعد عدة سنوات انه قرار شجاع. قبل عدة سنوات قرأت كتابها (الأراضي الوطيئة) وهو ما أثر فيّ بقوة. مقالاتها أيضا عظيمة ولغتها قوية. هذه المرأة بسيطة جدا. إنها ليست مثل (الروائية النمساوية) الفريدي يلينيك (الفائزة بنوبل للآداب العام 2004 أعتقد أن هذا رائع.»
كلنا أجانب
اسكندر حبش
تابعت مثلي مثل كثيرين غيري، مساء الخميس الفائت، نتيجة جائزة نوبل للآداب، التي فازت بها الكاتبة هيرتا مولر (تناولنا التفاصيل نهار أمس في «السفير الثقافي»)، مثلما تابعت يوم أمس، ما كتب من مقالات صحافية، أكانت عربية أم غربية، حول فوز مولر باهم جائزة أدبية في العالم.
لأقل إن ثمة أمرا لفت نظري، من بين العديد من التعليقات التي قرأتها. هذا الأمر كان في تساؤل البعض حول جنسيّة الكاتبة، هل نعتبرها ألمانية أم رومانية؟ والسبب في طرح هذا التساؤل، كما أصبح معروفا، يعود إلى أن مولر ولدت في رومانيا، لكنها تنتمي إلى الأقلية الجرمانية فيها، أيّ أنها تكتب الألمانية، وفي ما بعد غادرت مسقط رأسها، لتعيش في برلين الغربية حيث حازت الجنسية الألمانية.
ثمة سؤالان يجتازان العالم منذ نشوئه: هل الجنسيّة هي مسقط الرأس أم اللغة التي نتكلمها؟ تضعنا التجارب البشرية أمام العديد من الأمثلة، التي تفيد بأن «اللغة هي وطني» أو «أنني أسكن لغتي فهي بلدي». بهذا المعنى، لا نستطيع أن نفسرّ تجارب بعض الكتّاب، وحيواتهم، إلا عبر اللغة التي يتكلمون ويكتبون بها، على الرغم من أن مسقط الرأس يبقى حاضرا في كتبهم، وغالبا ما يعودون إلى زيارته مجددا. بهذا المعنى، كيف نفهم الذين يكتبون بالأرمنية مثلا، أو بالكردية، أو غيرهما من اللغات، التي بقيت، بينما المكان الجغرافي، غير موجود مطلقا، أو على أقل تعديل غير معترف به. أقول ذلك، وفي ذهني بالتأكيد، العديد من الكتّاب الفرنكوفونيين والأنغلوفونيين وغيرهم، من الذين يفترضون أن اللغة فُرضت عليهم بسبب الاستعمار أو ما شابه من ظروف تاريخية، جعلتهم يتخلّون عن لغتهم الأم، ليكتبوا بلغة أخرى، وهذا طبعا أمر آخر، يقود إلى مسارب مختلفة.
لكن السؤال الذي أجدني منساقا إليه، هو: لمَ نصر دائما على تحديد هذه الهويّة، أكان عبر اللغة، أم عبر الوطن، أم عبر أيّ شيء آخر؟ لماذا لا يكون لدينا الحق، في رفض هذا التحديد، لنكون فقط مجرد مواطنين في هذا العالم؟ لا أريد أن أتحدث هنا عن «طوباويات» ولا عن أحلام، بل فقط عن هذه الفكرة البسيطة، التي ترفض أن تؤطر الكائن البشري، الذي أعتبره، برأيي المتواضع، أهمّ من كلّ هذه التصنيفات، وبخاصة إن كان كاتبا، أي أنه يحيا في العالم بأسره، إذ لا بدّ من أن يجد في أقصى أقاصي الأرض، من يتقاطع مع تطلعاته ورؤاه.
بهذا المعنى تبدو هيرتا مولر، وبخاصة أن الأمين العام للجنة السويدية، اعتبر أن أدبها ينتمي إلى ما يعرف اليوم، باسم «أدب العالم»، وهي العبارة التي تطلق مؤخرا على هذا الأدب، الذي ينتمي إلى أكثر من مكان وثقافة.
في أحد أعداد مجلة «النقطة» التي كان ينشرها الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي، كتب مرة نصا ينتهي «طز في الأوطان، في الأعراق، كلنا أجانب». فعلا من يريد أن يبقى منغلقا على «أزمات الهوية»؟
جائزة “نوبل” للآداب للكاتبة الألمانية من أصول رومانية هرتا موللر
أدب الحماسة اليائسة والخراب البشري
عندما تستبق الكتابة الفن، تنجز الوصف والتشخيص الشاملين. وعندما تجيء في اعقابه، غالبا ما تغطّ ريشتها في حبر الفروق الدقيقة، لتصير عندئذ سطوة المناخ والتفاصيل اعظم من سطوة الناس.
هذا جزء مما تمثله حرفة الكتابة بالنسبة الى الكاتبة الألمانية من اصول رومانية هرتا موللر، التي حازت امس جائزة “نوبل” للآداب لسنة 2009، وهي التي لا تنفك مرارا وتكرارا “تقلّد” الرسام الفرنسي النيو- الانطباعي جورج سورا، على قولها. في نص موللر يطلّ الغصن من الخندق ليغدو شوكاً مسنّناً قبل ان يلتوي في اقتفاء الضوء، في حين تترك الشخوص في مهبّ الظروف. اما فكرة التغيير او الفرار فمغمّسة في الاستغلال النظامي او الزوجي او اللصوصية المثيرة للشفقة.
تتخذ المقابلة بين الفرنسي جورج سورا وهرتا موللر فسحتها الأرحب في مكان بإسم رومانيا، تحت مقصلة سلطة العام اللاشخصي، وفي ركاب اقصاء الفردي. وفي حين أن الثيمة مكرورة ومستعادة ومألوفة، فإن موللر تذكّرنا بأن الأدب هو الـ”كيف” وليس الـ”ماذا”. قد يقول قائل ان ميتافيزيقية الانسان هي عينها في الدائرة الشخصية كما في الدائرة العامة. بيد ان ثمة اضافة لا يجوز اغفالها، اضافة منوطة بالنسيان، او الرغبة فيه، او القدرة عليه.
تتسرق لغة موللر في هذا السياق على ألمها، فيما يغدو السرد في اسلوبها تقصياً للترحال وميزانا للرواية او القصة القصيرة. وفي دار المواجهة بين المرء والسلطة، يشذَّب القص الأنوي على وقع السياسة، من دون ان يفيد ذلك ارتطاماً للحوادث السياسية بالتجارب المبعثرة. ثمة في نصها اظهار للحوادث السياسية المحكومة بالقوانين، والتي تحرك التفاصيل الذاتية، فيصير عندذاك القول ضرباً من ضروب التحليل الشخصاني في مضمار السياسة.
والحال ان نثر موللر لم يولد من بقايا نمط ديكنزي، نسبة الى الانكليزي ديكنز، بل اشاحت الكاتبة بنفسها عن اسلوب اجهاد القارئ الى حد التهلكة. تحدّت المنحى السائد من طريق نصوص بيّنت قدرتها على الالتفاتات النفسانية. تصحّ المعادلة هذه في “القاع”، مجموعة هزيلة من خمس عشرة قصة تعبد الرجوع الى احياء رومانيا المسلوبة والمعوزة، وحيث تخلق موللر صوتا استثنائيا تعسا ولا يوارب. وفيما الملاحظات مسوقة في بساطة، لا تخشى الكاتبة شيئاً، جاعلةً الاعتداءات الكلامية على النواة الأسرية التي ترصدها، مؤلمةً للقارئ بقدر الوجع المفروض على الطفل الذي تتحدث عنه. في حدقة الطفل والقارئ، في آن واحد، يصير المكان – القرية – الريف صنواً للعالم برمته، في سواده كما في عجبه. غير ان وصفاً مماثلاً لا يعفي هرتا موللر من ممارسة سرد مدرك، هو اقرب ما يكون الى مقاومة منطق الأنظمة المؤامراتي. تستقدم اسلوبا كتابيا هو من صنف التيار الجارف او الضوضاء الخالصة، حيث الخيانات المتواترة والخيبات مكامن تفخيخ في حاضنة روائية مغرقة في الظلمة.
في احدى قصصها بعنوان “السفر على ساق واحدة”، صدرت في اواخر الثمانينات من القرن الماضي، رسمت الكاتبة هرتا موللر التضعضع في وجهات المنفى من طريق تشتت ايرين، سيدة في الثلاثينات، استقيت ظروفها جزئيا من سيرتها. ذلك ان ايرين، مثل موللر، هاجرت الى غرب برلين، من “البلد الاخر”.
تطفو كتابة موللر على ايقاع ومضات الدغل والتربة الزاحفة وانسحاب المدّ، وهذه قافلة من الرموز تصير بدائل من الاشتياق. ثمة فائض الى حد الاختلال، وشاعريّة قلقة متكئة على مشاهد من تجزئة او احتيال على السائد. وليس من باب المصادفة ان تكتب موللر: “تمشي ايرين على رأسها”، وان ترى شخصيتها المحورية في الصورة التي التقطت لها “ايرين سواها”، الايغو الآخر (الأنا الأخرى) يظلّل حياتها. الوجهات المعكوسة واللعب الغريزي الاصلي، هما مختبر موللر، وأدوات الغش التخييلي في كنف مسعى تقريري واقعي.
لا تختار موللر اليسير الواضح، بل تؤثر عليه نسق البارانويا والعصاب والالتباس. في “الموعد” مثلاً، يصعب الجزم ما اذا كنا نقرأ عن ناس اصيبوا بالخبل كنتيجة محتمة ومنطقية لجنون النظام، او كنتيجة عوامل خارجية على تراتبية الحكم. ليس من السهل اللحاق بخيط “الموعد” الروائي اذاً، وفي حين قد لا يسمح الكتاب بسؤال عميق، فهو يستطيع بلا ريب، ان يغطي شريحة واسعة من الأعراض فحسب.
تنتمي موللر الى خاتمة اجيال من الكتاب الرومانيين باللغة الالمانية، ويقول أدبها ان ثمة جمالية في المقاومة، هي التي انفلشت قريحتها في عزلة تامة بسبب الاطار اللغوي الاستثنائي الذي نشأت فيه، ناهيك بالخواءين السياسي والتاريخي. فيما لا يمكن التغاضي عن اضطرار موللر الى تجريب حقيقة ثقافية اخرى، اجتماعية وسياسية، عند مغادرتها مسقطها الى المانيا الفيديرالية. وفي حين شكّل لسان غوته لغة موللر الام، ذلك ان قريتها الرومانية في منطقة بانات، تحدثت بالالمانية، ولكنها مكثت “لغة اقلوية”، واجهت من خلالها لغة النظام الخشبية التي حوّرت البلاغة حتى، مطيةً لإمرار المصالح الضيقة. غير ان هرتا موللر استطاعت في ادبها ان تفقأ دملة القرية المثالية، على شاكلة مكسيم غوركي، فحطمت واجهة المطرح الزهري لتظهر تبعات خشونة القمع على نماذج طرية العود.
في مؤلفاتها المتأخرة، ركّزت موللر على الشخوص الراشدة، في حين خلقت في “ارض شجر البرقوق الاخضر” روايةً تعدّ الاكثر ذاتية في رصيدها الى هذا التاريخ، حيث تجادل نثار ذكريات الطفولة الغضة، في خط قصصي يبدأ مع سنوات دراسة الراوية في جامعة تيميشوارا. اماطت الرواية الستار عن الخراب البشري بسبب ديكتاتورية رئيس روماني مخلوع يحمل هوية نيقولاي تشاوشيسكو، وانبأت بالأسوأ. من خلال اطلالات على ماضي نموذجها المتخيل المحوري، اظهرت كيف يغدو استبداد الدول امتدادا لاستبداد موروث في القرى المصروفة الى تاريخها. على هذا النحو تشنق طالبة جامعية نفسها مستخدمةً حزام فستان الراوية. هذه لحظة يقظوية تسرقها الى ماضيها، الى دُرجة امها يوم كانت تربطها بحزام فستانها الى كرسي، فيما تشرع في تشذيب اظفار الطفلة. اصوات ومناظر وتصور، مسارات ثلاثة تدل الى طريق رواية، الى طريق مجتمع.
لا تنضب النماذج الروائية في ادب موللر، بل تحمل معها الى المدن رواسب الضواحي. يحملها القرويون المبعدون معهم حرفيا، من طريق أشجار العليق التي يزرعونها في باحات منازل المدينة. غير انهم يحملون امكنتهم في وجوههم ايضا، على ما تشير موللر. ليست المدن اذاً اطالة للضواحي وانما هي تنزيل لها. ها هنا في المدن الكبرى، الجميع قروي. الرأس لا يغادر المسقط، في حين ان الاقدام فحسب تقف في مطرح مختلف. غير ان مرمى موللر النهائي ليس استبقاء القرية في معركتها الخاسرة ازاء الحداثة. مبتغى القول انه لا يمكن ايّ مدينة ان تنمو في ظل الديكتاتورية، “ذلك ان كل شيء يظل صغيرا تحت الرقابة”.
في وسط حيث ليس ثمة رابط ابدي وليس من ولاء سرمدي، يصير الوطن فكرة مجردة، كئيبة في معظم الحالات. تلك الفكرة عينها التي تحدث عنها التشيكي ميلان كونديرا في مقابلة نادرة اجراها مع فيليب روث. قال الكاتب للكاتب يومذاك، في سبعينات القرن الماضي، وكأنه يحاور صورة ذاته في صفحة نهر، “عرفت بلادي خلال نحو نصف قرن الديموقراطية والفاشية والثورة والستالينية والاحتلالين الروسي والالماني، والابعادات الجماعية. ماثلَ الأمرُ الغرقَ تحت ثقل التاريخ، والنظر الى العالم من منظور التشكيك”.
لا يمكن القول ان هرتا موللر رومانية، غالب الظن ان ما يربطها بالرومانيين هو حسٌّ ما لحماسة يائسة.
سيرة وأعمال
وُلدت هرتا موللر في 17 آب 1953، في مدينة نيتزكيدورف الرومانية. سرعان ما هاجرت من بلدتها لدراسة الأدبين الألماني والروماني في جامعة تيميشوارا. هناك، أصبحت عضواً في مجموعة من الأدباء الرومانيين- الألمان، الذين يبحثون عن حرية التعبير في ظلّ الديكتاتورية. بعد إتمام دراستها، عملت مترجمة في مصنع للآلات، إلى أن طُردت منه بسبب رفضها التعاون مع البوليس السري. في ذلك الوقت، كتبت قصصاً قصيرة، غير أنها واجهت مشكلات مع الرقابة، فلم تُنشر هذه القصص إلا عام 1982، مع بعض التعديلات عليها. تصوّر فيها خبث الحياة في الريف، وقمعها غير المنصاعين للسلطة. كما لم تتوانَ عن إظهار العقلية الفاشية للأقلية الألمانية، فسادها وتعصّبها. إلا أنها انتُقدت على أثر تحطيمها الصورة المثالية للحياة الريفية الألمانية في رومانيا.
عملت هرتا معلّمة، حين هُرّب مخطوطها المنشور في “نيديرانغن” إلى الغرب، ونُشر في دار “روتبرش فرلاغ”. بعد مشاركتها في معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا، ومهاجمتها النظام الديكتاتوري في رومانيا، مُنعت من النشر في رومانيا. مع ذلك، استمرّت في الكتابة، إلى أن هاجرت إلى ألمانيا، مع زوجها، ريتشارد فاغنر، عام 1987. ومنذئذ، استقرّت في برلين، حيث لا تزال تقيم حتى الآن.
يعكس العديد من أعمال هرتا موللر ملامح من حياتها الخاصة. في “جواز السفر” (1986) تروي جهود عائلة رومانية – ألمانية من الفلاّحين للحصول على جواز سفر لمغادرة المنطقة. وكما في روايات موللر الأولى، تتطرّق هذه الرواية إلى الفساد في المدن، من خلال إظهار الحسّ المادي الذي يلازم المسؤولين والكهنة، إذ يطلبون خدمات جنسية ومالية مقابل مساعدة من يودّ الرحيل عن مدينته. إشارة إلى أن موللر كتبت روايتها هذه، إضافة إلى “شهر شباط الحافي القدمين” (1987)، في الوقت الذي كانت فيه تنتظر جواز سفرها إلى ألمانيا.
أما روايتها “السفر على ساق واحدة” الصادرة عام 1989، فتلقي الضوء على مشكلات الاغتراب في ألمانيا، التي خصّصت لها موللر دراسات، من مثل “كان الثعلب هو الصيّاد” (1992) التي تبرز فيها الأحداث السياسية. صدر بعد ذلك الجزء الثاني من دراسات “الشيطان يجلس في المرآة” عام 1991، ويضمّ تأمّلات في الكتابة كانت ألقتها موللر على شكل محاضرات في جامعة “بادربورن” في 1989-1990. وهي جدّ أساسية للإحاطة بالضغوط والنزاعات التي صقلت الصورة الشعرية في أعمالها. كما يضمّ الجزء الثاني عدداً من الكولاجات، واضعاً بذلك الصورة جنباً إلى جنب مع النص. نشرت موللر بعد ذلك مجموعة كاملة من الكولاجات، تحت عنوان “الحارس يأخذ مشطه” عام 1993. بقيت، مع ذلك، الصور الشعرية مركّزة في هذه المجموعة، مشكّلةً وحدتها. أما رواية “بطاطا دافئة هي سرير دافئ” (1992)، فإعادة صياغة لسيناريو فيلم كتبته موللر بالاشتراك مع هاري موركل. البطل الرئيسي فيه هو أستاذ يتعرّض إلى مضايقات البوليس السري الروماني. وقد توسّلت موللر بالسخرية في وصفها الإنسان في وطن يتحكّم بأبنائه بواسطة الخوف.
تُعدّ رواية موللر الأخيرة “أرض الخوخ الأخضر” الصادرة عام 1994، وصفاً ثرّاً للحياة تحت الديكتاتوية الرومانية، وهي تربط الطفولة المقموعة للكاتبة نفسها، بالقمع الممارَس في الوطن ككل. أما كتابها الأحدث، “الجوع والحرير” (1995)، فمجموعة دراسات تعكس مقاومة الروائية وعدم خضوعها في تيميشوارا ونيتزكيدورف.
تتميّز أعمال هرتا موللر باللغة الصافية والشعرية، فضلاً عن الاستعارات. غالباً ما يخفّف جمال النثر لدى موللر، والسخرية التي تتوارى خلف بعض صورها، من حدّة المواضيع التي تصف القمع. وتواصل موللر، من خلال أفعالها وأقوالها، إثبات استقلاليتها عن عقيدة الكنيسة والدولة.
تلقّت عروضاً عدة لإلقاء محاضرات في جامعات من المانيا والخارج. كانت عضواً في الأكاديمية الألمانية للأدب والشعر عام 1995.
بعثت موللر برسالة مفتوحة إلى رئيسة المعهد الثقافي الروماني، هوريا رومان بتابيفيسي، تنتقد فيها دعم المعهد لمدرسة رومانية- ألمانية تضمّ مخبرَين يعملان لحساب الجهات الأمنية.
ترجمة ماريا الهاشم
رلى راشد
النهار
نوبل الآداب للألمانية هيرتا مولر: نـهـايـة الـعـالـم الـقـديـم
اسكندر حبش
هل فعلا يشكل فوز الروائية والشاعرة الألمانية (من أصل روماني) هيرتا مولر بجائزة نوبل للآداب للعام 2009، مفاجأة حقيقية؟ كانت كلّ الترشيحات التي سبقت إعلان اسم الفائز، تشير منذ أيام، إلى احتمال فوز أسماء غير مولر، على الأقل، لأنها لا تتمتع بشهرة كبيرة خارج بلادها، وإن كان الجميع في ألمانيا، يعتبرونها كاتبة كبيرة. لكن مثل العادة، يأتي خيار اللجنة الملكية السويدية من مكان لا يتوقعه أحد.
لنستدرك، نحن من لم يكن يتوقعها، إذ أنها تملك كل «التوابل» التي تجعل منها كاتبة تحظى باهتمام لجنة نوبل: روائية من أصل روماني (تنتمي إلى الأقلــية الألمانية التي تعيش في رومانيا)، منــشقة على نظام تشاوشيسكو، إذ كانــت قريبة من مجموعة أدبية اتهـــمها النظام بأنها «خميرة المعارضة». تعرضت للتحقيق والملاحقة، رفضت التعامل مع البوليس السياسي، فطــردت من عملها (كمترجمة في مصنع للسيارات)، عاشت في «الرعب» الستاليني، هرّبت مخطوطات كتبها إلى الخارج، إذ كان ممنوعا عليها أن تنشر في رومانيا، فقررت مغادرة بلادها حين حانت لها الفرصة، وكان ذلك قبل سقوط الجدار بسنتين، لتختار العيش في برلين الغربية.
والدتها، إحدى المعتقلات السابقات في مخيمات العمل الإجباري التي أقامها الاتحاد السوفياتي في أوكرانيا، حيث أمضت خمس سنوات. أدبها يحمل «رعب» وقلق ذلك العصر، على الرغم من أنه أصبح من الماضي، إلا أن الكاتبة، تجد غير ذلك، ففي مقالة نشرتها مؤخرا تجد هيرتا مولر أن نظام البوليس السياسي (السيكوريتات) لا يزال موجودا في رومانيا لكنه يعمل حاليا باسم مختلف.
أضف إلى ذلك كله، أن ألمانيا تحتفل هذا العام بالذكرى العشرين على انهيار جدار برلين كما على إعادة توحيد ألمانيا، من هنا تبدو الفرصة مناسبة للأكاديمية السويدية بتذكير العالم بأسره «بنهاية التاريخ» القديم، وببدء «التاريخ الجديد»، لتحتفل على طريقتها بالذكرى العشرين، مثلما احتفلت الأكاديمية عينها بالذكرى العاشرة، العام 1999، حين منحت الجائزة إلى الكاتب الألماني غونتر غراس الذي حيا الكاتبة واصفا إياها بالكاتبة الكبيرة، على الرغم من اعترافه، أمس، بأن مرشحه المفضل هو الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز (ولا أعرف لماذا أتذكر بيان بعض «المثقفين العرب» الذي تضامنوا معه منذ سنوات قليلة، بعد الحملة التي تعرض لها، إثر اعترافه في مذكراته بأنه انتمى في مطلع صباه إلى الشبيبة الهتلرية).
هيرتا مولر، المرأة الثانية عشرة التي تحوز نوبل، والكاتب الثالث باللغة «الألمانية»، التي يفوز بها في غضون 10 سنوات، أي بعد غراس 1999 وإلفريدي يلينيك في العام 2004. لا بأس هو زمن الأدب الألماني، لعل في سنوات قادمة، تتذكر اللجنة، آداب الشعوب الأخرى…
هيرتا مولر عن ماضٍ لا شفاء منه
بيار أبي صعب
ربّما كانت هيرتا مولر، صاحبة رواية «الاستدعاء»، تأمل الفوز بـ«جائزة الكتاب الألماني» التي تمنحها سنويّاً «مؤسسة الاتحاد الألماني لتسويق الكتاب»، لأفضل عمل أدبي صادر بلغة غوته (في ألمانيا والنمسا وسويسرا). كتابها الجديد Atemschauel أو «أعرِفُ أنّك ستعود» وصل إلى التصفية النهائية، وتربّع على لائحة تضم ستة أعمال جديدة. ولم يبقَ سوى أيّام قليلة على القرار الحاسم (12 ت1/ أكتوبر الحالي) الذي سيحدّد إذا كان عليها الاكتفاء بالألفي والخمسمئة يورو، أو إذا كانت ستفوز بالجائزة الكبرى (25 ألف يورو) وتتسلّمها في احتفال مهيب يوم افتتاح «معرض فرانكفورت». لكنها لن تنتظر تلك الجائزة بعد الآن: لقد اختارتها الأكاديميّة السويديّة الشهيرة ظهر أمس، لتكون صاحبة جائزة أكبر وأرفع وأكثر انعكاساً على انتشار كتبها العشرين في مجال الرواية والقصّة والشعر والنظريّة والصحافة. نقصد طبعاً «نوبل للآداب» 2009 التي كافأتها، حسب إعلان الجائزة، على نجاحها «عبر كثافة الشعر، وصراحة النثر، في إعادة تشكيل مشاهد الهجران والاقتلاع والتخلّي».
وإذا كانت تجربة البريطانيّة دوريس ليسينغ (نوبل، 2007) قد اقترنت بالخيارات اليساريّة والنبرة النقديّة والنسويّة، وقبلها وقفت النمساويّة يلفريد يلينك (نوبل، 2004) لتفضح بفجاجة المؤسسة الذكوريّة والقمعيّة، فإن مولر لا تبتعد عن تلك الخيارات الراديكاليّة. لكن هناك فارق أساسي، هو أنّ زميلتيها تمرّدتا في «العالم الحرّ» وعليه، فيما هي ابنة التجربة الشيوعيّة، وشاهدة على التوتاليتاريّة في رومانيا تشاوشيسكو. وهذا الجرح الأصلي هو المنبع الذي يكاد يغذّي عالمها الأدبي بأكمله. لنبدأ من Atemschauel أحدث إصداراتها، وهو يكاد يختصر أدبها: في نهاية الحرب، حالة رعب تحاصر الأقليّة الألمانيّة في رومانيا التي تنتمي إليها الكاتبة، ومنها ينحدر ذلك الشاب الذي يأخذه الروس إلى أحد معسكرات الاعتقال… آخر جملة سمعها من جدّته، «أعرِفُ أنك ستعود»، هي التعويذة التي تبقيه على قيد الحياة. من خلال حياته اليوميّة في معسكر روسي، يختصر بطلها معاناة جماعة إثنية وثقافيّة خاصة في ترانسيلفانيا: هكذا تضيء مولر على فصل منسيّ في تاريخ أوروبا الحديث.
قصّة هيرتا مولر مع الكتابة، هي أولاً قصّة غربة عن العالم الخارجي، عن البيئة والمحيط والوطن، وانسلاخ عن المكان، لتصبح اللغة هي الموطن الحقيقي. اللغة الأم الحميمة، في مواجهة اللغة
غربة عن العالم الخارجي، وانسلاخ عن المكان لتصبح اللغة هي الموطن الحقيقي
الرسميّة المفروضة، لغة الآخر. (نحن أمام إشكاليّة تعرفها المجتمعات العربيّة وتعيشها بعنف وألم أيضاً، في أكثر الأحيان). والكتابة قصّة هرب دائم إلى الذات التي تفلت باستمرار، واغتراب دائم لا تمكن معالجته إلا بإعادة امتلاك العالم عبر الكتابة. الكتابة هنا ـــــ في قصصها وكولاجاتها الشعريّة ورواياتها ـــــ هي لملمة الذات المفتتة، ومحاولة ترميم العالم المتصدّع في أعماقها، من خلال شعريّة قائمة على المجاز. تكتب المنفى والاقتلاع والرحيل، الإحساس الأقلّوي بالقمع والاضطهاد والاغتراب، وطأة السلطة والاستخبارات والديكتاتوريّة، تشاوشيسكو والشرطة السريّة الفظيعة في عهده: «سيكوريتات».
«رواياتها ترسم بدقّة تفصيليّة صور الحياة اليوميّة في ظلّ ديكتاتوريّة متخثّرة» يلاحظ بيان الأكاديميّة السويديّة الذي يراها كاتبة «المحرومين»، فيما تتحدّث موسوعة «يونيفرسالس» بشأن أدبها عن «جماليّات المقاومة». «الإنسان طائر تدرج كبير على الأرض» (1986)، «فبراير الماضي» (1987)، عملان يستوحيان السيرة المباشرة في بيئة ريفيّة مسكونة بهاجس الفقد، والخوف من المجهول. ثم جاء كتابها الأوّل في ألمانيا «السفر برجل واحدة» (1989) ليحكي عن صعوبة التكيّف مع عالم جديد يفلت باستمرار من وافد جديد لا يملك أياً من مفاتيحه أو طقوسه. قد يكون الحب جسراً للعبور، لكن كلمات البلد المهجور لا تصلح للإحاطة بالواقع الجديد. ولا بد من التوقف عند «الاستدعاء» (2001) التي تصوّر تداعيات تلك المرأة التي دسّت نداء استغاثة في جيب السروال الفخم الذي تخيّطه، ومن يومها لم تعد تفعل سوى تلبية استدعاءات ضابط الاستخبارات وإذلاله…
قد يستغرب المرء: اثنان وعشرون عاماً في ألمانيا ولا تزال تكتب عن رومانيا وكوابيسها. ربّما لأن الحاجة إلى الكتابة ولدت لديها تحت الديكتاتوريّة. ربّما لأنّها «تعلّمت الحياة وهي تكتب، لا العكس». من هنا هذه العلاقة الصداميّة مع الرومانيّة، لغة الشعب والحكي والعفويّة والفولكلور، فيما الألمانيّة لغة الثقافة والكتابة. ذات يوم قال لها الكاتب الكبير إميل سيوران إنه لدى وصوله إلى باريس، امتنع عن نطق كلمة رومانيّة واحدة… لكنّه بعدما شاخ عاد يحلم بتلك اللغة المرذولة. هيرتا مولر، أيضاً، أسيرة ماض لن تشفى منه أبداً.
تلك الآلة القمعيّة القائمة على الترهيب والإذلال
أول من أمس، انتقل اسمها فجأة إلى المرتبة الرابعة على موقع المراهنات «لادبروك»، لكن لا أحد اكترث للأمر، إلا مدوّناً واحداً هو Literary Saloon الذي أخذ الأمر على محمل الجدّ. ليس فيليب روث، إذاً، صاحب الحظّ السعيد هذا العام، رغم ما قيل عن التجاهل النوبلي الطويل للأدب الأميركي… ولا اللغة الإسبانية التي أُهملت كثيراً منذ أوكتافيو باث كما تردّد، ولا العرب الذين ما عادوا ينتظرون شيئاً (أدونيس من هنا وآسيا جبّار من هناك)، ولا الكاتب الإسرائيلي آموس أوز، صاحب الخطاب الصهيوني المقزز، لحسن الحظ، بل هيرتا مولر التي ما زالت شهرتها محدودة، رغم المكانة المرموقة التي تحتلّها منذ أكثر من عقد بوصفها واحدة من أبرز وجوه الأدب الألماني الجديد.
تنتمي الكاتبة المولودة في نيتشيدورف عام 1953، إلى جالية الـ Souabes، وهي أقليّة ناطقة بالألمانيّة في محافظة Banat التاريخيّة غرب وجنوب غرب رومانيا. الثورة صادرت أراضي جدّها، وأمّها اقتيدت إلى معسكر أشغال شاقة في الاتحاد السوفياتي. تروي أنه لا أحد كان يتكلّم الرومانيّة في قريتها إلا بعض موظفي الدولة، لذا لم تتعلّمها إلا متأخّرة في الخامسة عشرة، فإذا بها تعيش غربة مضاعفة. تقول سيرتها إنّها في عام 1973 باشرت دراسة الأدب الألماني والروماني في الجامعة، في تيميشوارا. ثم عملت مترجمة في مصنع «تيكنوميتال»، إلى أن طلب إليها ذات يوم أن تتعاون مع الشرطة السريّة فرفضت، ما أدّى إلى صرفها من الخدمة عام 1979. تلك المرحلة كانت الأصعب عليها في رومانيا، إذ تعرّضت لمطاردة الاستخبارات وتضييقاتها واستجواباتها. راحت تعطي دروساً في
كل كتبها تحكي المأساة نفسها
الألمانيّة، وانتمت إلى مجموعة كتّاب معارضين، وكتبت مجموعة قصصيّة بعنوان «حضيض» لم تتمكّن من نشرها إلا في عام 1982، ثم جاءت مجموعتها القصصيّة الثانية بعنوان «تانغو القمع» (1984) لتلفت إليها أنظار النقاد. وذات يوم من عام 1987 حزمت عتادها، وسافرت إلى ألمانيا الغربيّة مع زوجها القاصّ ريتشارد فاغنر. لقد اشترتها الديموقراطيّة الغربيّة من نيكولاي تشاوشيسكو في آخر عهده، ضمن صفقة لـ«إنقاذ» الأقليات الناطقة بالألمانيّة.
كل كتب مولر تحكي المأساة نفسها من زوايا مختلفة: «كيف يعيد الإدراك إنتاج نفسه» (1990)، «الشيطان جالس في المرآة» (1991)، «كان الثعلب قد أصبح الصيّاد» (1992). هنا نقرأ «كل ليل، كل نهار، بل العالم بأسره يتكوّن من الذين يمارسون التعذيب، والذين يلزمون الصمت». قصّة Herztier أو «بلاد الخوخ الأخضر» (1994) تحكي عن قدرة السلطة على الإيذاء المجاني، لمجرّد الإخضاع والقهر. وبعد «الفخ» (1996) جاء «الاستدعاء» (2001) ليحكي كابوس الفرد، المجرّد من أي إمكانات دفاعيّة، في مواجهة الآلة القمعيّة القائمة على الترهيب والإذلال.
الأخبار
نوبــل الآداب لهيرتــا مولــر الروائيــة/ الشــاعرة الرومانيــة/ الألمانيــة
اسكندر حبش
الحياة اليومية للمقتلعين والمنشقين في أزمنة التحجر الاستبدادي
خلافا لجميع التوقعات ـ (وحده الكاتب والناقد الفرنسي في صحيفة «لوموند»، بيير أسولين، طرح اسمها، قبل يومين كمرشحة حقيقية، في مدونته الإلكترونية) ـ التي احتدّت قبل أيام من إعلانها، (من قبل اللجنة الملكية السويدية)، والتي تناولت العديد من الأسماء، ذهبت جائزة نوبل للآداب لهذا العام (2009) إلى الكاتبة «الرومانية»، التي تكتب بالألمانية، هيرتا مولر لأنها ـ وفق بيان الجائزة – «عكست حياة المحرومين، من خلال تركيز الشعر وموضوعية النثر، لترسم بهما المناظر المهملة».
جملة غامضة بعض الشيء، لكنها تخبرنا عن نشاطيّ الكاتبة كما عن الخلفية الآتية منها: هي إذا شاعرة وروائية، مثلما هي واحدة من تلك الرومانيين الذين يكتبون بالألمانية (لنتذكر الشاعر الكبير باول تسيلان). في الواقع، تنحدر هيرتا مولر من الأقلية التي تنتمي إلى «الجالية» الجرمانية في رومانيا حيث ولدت في العام 1953، وقد عاشت هناك لغاية عامها الرابع والثلاثين، من دون أن ننسى بالتأكيد «تعرضها إلى الرقابة الشيوعية» زمن تشاوسيسكو، إذ كانت مقربة من مجموعة كُتّاب «جرمافونيين» (يكتبون بالألمانية) اعتبرهم النظام يومها أنهم يشكلون «خميرة المعارضة».
II
تشكلت مجموعة «l’Aktionsgruppe Banat» (مجموعة العمل في بانات) في النصف الثاني من ستينيات القرن المنصرم، بعد أن شهد نظام تشاوسيسكو انفتاحا صغيرا على السياسة الخارجية كما على العمل الثقافي. في هذا الجوّ الذي بدا «ليبيراليا» بعض الشيء، استطاعت مجموعة من الكُتّاب الشبان الذين يكتبون باللغة الألمانية، أن تؤسس «مجموعة العمل في بانات»، لكن سرعان ما أدرك أعضاؤها، أن النظام لا يرغب في مسامحة أيّ تعبير أو تفكير حرّ. من هنا، أصبح هؤلاء الكُتّاب – النقاد، موضع شبهة، وتحت مراقبة البوليس السياسي، حيث تعرضوا للضغوطات والابتزاز والتهديد، كما مُنعوا من النشر، لتحلّ المجموعة نفسها في نهاية الأمر. ضمّت المجموعة يومها كتابا مثل «ورنر سولنر» (Werner Söllner) و«ريتشارد فاغنر» (Richard Wagner) و«إرنست فيشنر» (Ernst Wichner) بالإضافة إلى بعض كتاب ترانسلفانيا (الذين يكتبون بالألمانية أيضا) كان أبرزهم فرنتز هودجاك (Franz Hodjak). صحيح أن مولر لم تكن قد نشرت أيّ كتاب، في تلك الفترة، لكنها اقتربت منهم كثيرا وهي تتذكر تلك المرحلة بالقول: «كانت تلك المجموعة ناشطة جدا، لكنها لم تعمّر طويلا. لم أكن قد كتبت بعد في تلك الفترة، إلا أنني كنت قريبة من بعض أعضائها وأقاسمهم مفاهيمهم الأدبية، ومواقفهم السياسية. استطاع البوليس السياسي أن يتسّرب إلى داخلها، ليحلها، وليبعد أفرادها الذين تأثروا بهذا الأمر، إلى مراكز متفرقة، حيث عاش كل واحد منا في مكان يبعد كثيرا عن الآخر. بعد افتراقنا عاش كل واحد منا، بطريقة مختلفة، حتى أن البعض استنكروا التزاماتهم السابقة، ربما بسبب الانتهازية. منذ بداية وجودها، اعتبر النظام هذه المجموعة بمثابة «خميرة المعارضة» في حين أنها لم تتبنَّ يوما هذا الموقف. ببساطة كانوا يطالبون بأن يكون الأدب لنقد الحياة اليومية بشكل واضح كما أن يكون عامل تغيير في المجتمع. أضف إلى ذلك كله، لا بدّ أن نضيف بالطبع تلك المواجهة الدائمة مع الجيل الأسبق، الذين كان كتاب جيلي يأخذون عليه مأخذ عدم تحليه بالروح النقدية كما خضوعه السهل للإيديولوجيات المهيمنة».
أمام ذلك، اختارت المنفى في العام 1987، لتذهب إلى «ألمانيا الغربية»، وهي تعيش اليوم في برلين. لكن هذا المنفى، لم يدم طويلا، إذ بعد سنتين انهار الجدار، و«انتهى تاريخ» ومعه انتهت العديد من الأقاصيص على أرض الواقع، لكنها لم تنته في الكتب، إذ كثيرون اليوم ممن يكتبون عن تلك الفترة وعن زمن «الرعب» الاشتراكي وما رافقه، ومولر واحدة منهم، إذ غالبية رواياتها، تدور عن ذلك المكان الذي جاءت منه. وبخاصة كتابها النقدي «استيتيقا المقاومة» الذي تتحدث فيه عن أدب آخر الأجيال الرومانية التي كتبت بالألمانية. أدب ولد في العزلة التامة، عن محيطه القريب، وذلك عائد، في الوقت عينه، للسياق اللغوي التاريخي الذي تميز به كما للفراغ السياسي والتاريخي. من هنا حين غادر بعض هؤلاء الكتاب موطنهم الأصلي ليعيشوا في ألمانيا الاتحادية (أو الغربية، وفق تعبير تلك المرحلة) وجدوا أنفسهم داخل تجربة جديدة: تجربة واقع ثقافي مختلف، كما ضمن واقع اجتماعي وسياسي، وحتى ضمن سياق لغوي آخر، على الرغم من أن «لغتهم الأم» هي الألمانية. «إنها ألمانية أقلويتي»، هكذا وصفتها هيرتا مولر في نص لها عائد إلى العام 1988 قبل وقت قليل من إقامتها في برلين الغربية. وتضيف: «لكن ألمانية أقلويتي أصبحت موصولة الآن. هذه الوصلة أصبحت حبلا اليوم. لقد تخلصت منك، أنت حاميتي الآن. فجأة صار وعيي في مكان آخر».
III
ربما من هذه الزاوية نستطيع أن نقول إن اختيار اللجنة لمولر في هذه السنة بالذات، ليس سوى تذكير آخر: تذكيرنا «بوحدة ألمانيا وبوحدة لغتها»، أقصد أنه لا بدّ لنا من أن نلتفت إلى أنه اليوم تصادف الذكرى العشرين لانهيار الجدار، بعد أن كانت اللجنة عينها، قد احتفلت بالذكرى العاشرة، العام 1999، حين منحت نوبل للكاتب الألماني غونتر غراس، وبينهما لا بدّ أن نتذكر إلفريدي يلينيك في العام 2004 (نمساوية، تكتب بالألمانية بطبيعة الحال). وفي الاختيار أيضا، وبعيدا عن مناسبة انهيار المعسكر الاشتراكي، تختار اللجنة شاعرة، إذ كانت الأصوات قد ارتفعت بأنه منذ العام 1996، يوم حصول البولندية فيتسوافا شيمبورسكا على الجائزة، لم يتم تكليل أي شاعر.
لا أعرف إن كان اختيار هيرتا موللر مفاجأة (على الرغم من أن اسمها طرح لمرتين قبلا). قد يقول ذلك كثيرون، وبخاصة إنها لم تكن معروفة من قِبل الجمهور العريض، قبل العام 2000، على الرغم من أن النقد حياها وتحدث عنها في العام 1984، حين أصدرت مجموعة أقاصيص بعنوان «أحياء البؤس»، وهو كتاب نجحت في إخراجه بالسرّ من رومانيا.(صدر كتابها الأول العام 1982).
بعد ذلك توالت كتبها، فأصدرت «الإنسان ذاك المشبوه الكبير على الأرض»، و«الثعلب كان هو نفسه الصياد» – الذي يروي عن الحياة اليومية في بلد توتاليتاري ـ و«حيوان القلب» – الذي يروي عن مجموعة من المنشقين الرومانيين. أما في كتابها «الاستدعاء» فتتحدث عن كرب امرأة وقلقها بعد أن يتم استدعاؤها من قبل «السيكوريتات» (البوليس السياسي في عهد تشاوسيسكو)، روايات «تعطينا عبر تفاصيلها المرصعة والمحفورة، صورة عن الحياة اليومية، في ظل دكتاتورية متحجرة»، مثلما تضيف الأكاديمية السويدية في بيان حيثيات الجائزة. قد تكون إحدى الأفكار الكبيرة التي لا تنفك هيرتا مولر في العودة إليها عبر رواياتها، فكرة الاقتلاع من الأرض، كما مسألة اللغة. توصف رواياتها عادة، بأنها تستوحي الكثير من سيرتها الذاتية، لكنها تعرف من خلال ذلك، كيف تعبر إلى توصيف الحياة اليومية في رومانيا زمن الحقبة الدكتاتورية، كما مواقف المنشقين وحيواتهم، بالإضافة إلى المواقف الميكافيالية التي انتهجتها أجهزة الأمن الدافعة إلى الذل في سياق سياسات تلك الفترة.
صحيح أن نوبل هي أهم الجوائز الأدبية التي يمكن للكاتب أن يحصل عليها إلا أنها لم تكن الأولى، إذ حازت العديد من الجوائز الأدبية المهمة من بينها «ريكاردا هاتش» و«كلايست» و«جوزف بريتباخ» و«الإيمباك دبلن» و«ليتيريري أوارد».
IV
ولدت هيرتا مولر في 17 آب من العام 1953 في نيتشيدورف (Nitchidorf)، بالقرب من «تيميزوارا (Timisoara) في مقاطعة «بانات» (Banat) «الأسطورية» وهي المنطقة الجرمانية التي تمتدّ بين غرب وجنوب غرب رومانيا. هيرتا مولر حفيدة مزارع كبير وابنه تاجر ميسور الحال قبل أن تصادر أملاكه من قبل الشيوعيين، أما والدتها فقد رحلت إلى أحد مخيمات العمل الإجباري في الاتحاد السوفياتي (السابق). درست الألمانية والأدب الروماني في تيميزوارا، قبل أن تعمل كمترجمة في أحد مصانع المدينة (معمل تصنيع سيارات) لتعفى من مهامها العام 1979 لرفضها التعاون مع «السيكوريتات»، لتكسب عيشها بإعطاء دروس خصوصية في اللغة الألمانية.
مضت أكثر من عشرين سنة منذ أن غادرت مولر مسقط رأسها، إلا أنها تستمر لغاية اليوم بالكتابة عن تجربتها في رومانيا، والسبب في ذلك كما تقول: «في ما يخصني، فإن التجربة الأساسية التي عرفتها في حياتي، كانت في رومانيا تحت الدكتاتورية. من هنا لا يمكن لواقع أنني أعيش على بعد مئات الكيلومترات من رومانيا أن يجعلني أنسى ما عشته هناك. حين رحلت، حملت ماضيّ معي وعلي أن أضيف، برغم أنني في ألمانيا إلا أن الخوف من الدكتاتورية لا يزال موجودا». وتضيف الكاتبة التي تعتبر واحدة من كبار كاتبات ألمانيا المعاصرات، في أحد حواراتها الصحافية، أن الحاجة إلى الكتابة تولدت عندها في ظل الدكتاتورية، تقول: «توجب عليّ تعلم العيش وأنا أكتب، لا على العكس من ذلك. رغبت في العيش على مستوى ارتفاع أحلامي، هذا كل ما في الأمر. من هنا شكلت الكتابة بالنسبة إليّ طريقة للتعبير عمّا لم أستطع عيشه في الواقع». كذلك كانت اللغة الرومانية، بالنسبة إليها، «لغة غريبة»، إذ تصف هذا الأمر بالقول: «في القرية التي نشأت فيها، لم يكن هناك من رومانيين، باستثناء بعض الموظفين الحكوميين، أما باقي السكان فكانوا من الألمان. لم أتعلم اللغة الرومانية إلى حين دخلت إلى المدرسة، تعلمتها مثلما نتعلّم لغة أجنبية عنا».
V
من كتب هيرتا مولر الأخيرة، مجموعة شعرية بعنوان «في جديلة الشعر تسكن امرأة».. وتصفه بأنه «شعر – كولاج»، وتقصد بذلك أنها قطعت من الصحف العديد من الكلمات وأعادت تجميعها على هواها. بدأت مولر بالاهتمام بالشعر – الكولاج منذ عشر سنوات. جاءتها الفكرة ذات يوم وهي في عطلتها السنوية، إذ رأت أنه بدلا من أن ترسل إلى أصدقائها «البطاقات البريدية التافهة» لِمَ لا ترسل إليهم أشياء أخرى مميزة؟ استلت مقصها وبدأت بتقطيع الجمل، لتعيد تركيبها. بهذه الطريقة ولد أول كتاب «شعر – كولاج» عندها، العام 2005، ليحمل عنوان «أين هو، إنه ليس إيون». الغريب في الأمر أن هذا «الكتاب» جاء باللغة الرومانية، وهي تتحدث عن ذلك بالقول: «أنا سعيدة جدا بأن كولاجاتي نجحت باللغة الرومانية. لقد كان الأمر رائعاً.. قطعت الكلمات بالمقص وشعرت بأن اللغة تساعدني. كان هذا حسابي الأول الذي توجب عليّ تصفيته مع اللغة الرومانية. ومع ذلك لا استطيع أبدا أن أكتب باللغة الرومانية. الأمر مختلف حين تكون الكلمات في متناول يدي. أستطيع أن أدرك كل هذا المحتوى غير المحسوس، المعاني الخبيئة في داخله. لا أتحدث سوى رومانية الناس العاديين. إن أجمل جزء من اللغة الرومانية هي اللغة اليومية التي تعلمتها في المصنع حيث عملت. يسألونني اليوم ما الذي تعلمته من الطليعة، وأجيب بأنني لم أتعلم سوى الأغاني التراثية. حين استمعت للمرة الأولى إلى ماريا تاناس، بدت لي أمرا خرافيا، وللمرة الأولى فهمت أن ذلك يدعى الفولكــلور. إن الفولكلور الروماني مرتبط بالوجود، بينما الفولكلور الألماني لا يعني لي أي شيء».
VI
آخر روايات هيرتا مولر، « Atemschauke» الصادرة منذ فترة قصيرة، تروي لنا فيها عن تلك الحقبة المجهولة جدا عند «الغربيين»، وهي فترة المخيمات السوفياتية التي كانت موجودة في أوكرانيا، والتي رُحّل إليها عشرات الآلاف من المدنيين الرومانيين ذوي الأصل الألماني، في العام 1945. مدنيون تم اعتقالهم، ما إن دخل الجيش الأحمر إلى تلك البلاد في شهر كانون الثاني من العام 1945، ليقضوا ما يقارب الخمس سنوات في السجون السوفياتية. مواطنون منحدرون من الطائفتين الألمانيتين الرئيسيتين في رومانيا وهم «السكسون» (من الطائفة البروتستانتية، وقد استقروا هناك مع بداية القرن الخامس عشر) و«السواب» (من الكاثوليك الذين استقروا هناك في القرن الثالث عشر).
بدون شك، تستوحي هيرتا الرواية هذه من سيرة والدتها، التي كانت من «السواب» وقد تم ترحيلها إلى المخيمات السوفياتية. في اصل هذه الرواية، كانت رغبة من الكاتبة في أن تكتب الرواية، بالاشتراك مع أوسكار باستور، وهو شاعر روماني من أصول ساكسونية، وقد عرف فيما مضى المصير عينه، أي رحل إلى مخيمات التعذيب والعمل الإجباري. لكن غياب باستور منذ سنوات قليلة، دفع مولر إلى كتابة الرواية بمفردها، على شكل تحية إلى هذا الشاعر الروماني. إننا أمام سيرة شاب في السابعة عشرة من عمره، تعرض لتجربة الجوع في المعتقل، لكنه ينجح في تخطي الذل والرعب عبر الشعر. فحين كانت «تتكلم الطبيعة، كانت تساعد السجين».
السفير
الروائية هرتا موللر تصطاد نوبل الآداب بثعلب الشعر وصراحة النثر
الشيطان يجلس في المرآة
عمر عجمي
كان علينا أن ننتظر الساعة الثانية من بعد ظهر الخميس الفائت لكي نتعرّف الى شخصية أديبة جديدة، تمنحها الأكاديمية الأسوجية جائزة نوبل للآداب.
لم تكن الكاتبة الألمانية من أصل روماني، هرتا موللر (من مواليد 17 آب 1953)، معروفة جيداً، لا في بلادها ولا في أوروبا ولا العالم. مكانتها الأدبية شبه المغمورة، جعلت فوزها أشبه بمرآة منتشلة من تحت الأنقاض المهملة والمنسية. مرآة لا بد أنها ستحتاج الى من ينظّفها جيّداً ويلمّعها جيّداً ويغوص فيها جيّداً، قراءةً وترجمةً، لكي نتمكن من أن نتملّى فيها لا الشظايا والكسور فحسب، وإنما خصوصاً صورة الشيطان الذي يجلس فيها.
هذه المرة، كانت المفاجأة هي الفائز الأكبر في ستوكهولم. فقد جاء الفوز من جهة غابت عن أذهان المتكهنين الكثر الذين ذهبت مضارباتهم وتخميناتهم جميعاً أدراج الرياح. وحسناً فعلت الأكاديمية الأسوجية. وحسناً تفعل. فهي بذلك تستعيد بعضاً من ضرورات الجدية والرصانة والتحفظ والكتمان والشغل الدؤوب والبحث المتأني في أعماق الأدب العالمي، والتي يجب أن ترافق هذه العملية، بعيداً من تصوّرات الدوائر الإعلامية والثقافية، وتخيّلاتها وترّهاتها.
صحيح أن اسم هرتا موللر لم يكن في عداد الشخصيات التي جعلتها المراهنات الأدبية تحتل الواجهة الإعلامية، طوال الأسابيع التي سبقت إعلان الجائزة، لكن الصحيح أيضاً أن هذا الإسم، ارتفع فجأةً في اليومين الأخيرين، لـ”يحتل” مكانه في صدارة الأسماء المتنافسة.
مرةً جديدة، يأتي الفوز من اللامتوقع. وهذا شأن جيّد على كل حال، بصرف النظر عن القيمة الحقيقية التي ينطوي عليها أدب هذه السيدة “النوبلية” الجديدة.
فلقد نبشت الأكاديمية الأسوجية المرآة الادبية لهذه الكاتبة من تحت أنقاض الديكتاتور الشيوعي الروماني نيكولاي تشاوشيسكو، لتُرينا فيها صور المحرومين والمقموعين، كما صور رجال المخابرات وشياطين التعذيب والترهيب المتلفعين بهواجس الشيطان الجالس في خفاياها وبين كسورها وشظاياها.
ليس لنا أن نكتب عن الروائية هرتا موللر كمن سبق له الإطلاع على مكنونات تجربتها الأدبية، ففي ذلك ادعاء منفوخ، لا حاجة بنا اليه. لكن ذلك لا يحول دون تتبع ما رافق إعلان الفوز، من معطيات تثبت رسوخ نوع من الكتابة، عملت الفائزة على الغوص في أعماقه، مترصدةً خطى الثعلب الذي يبحث عن طريدته في الأماكن الشريدة من الحياة نفسها، في الذات الفردية، وفي الذات الجماعية، وفي المجتمع، وبين الجماعات، والعائلات، وفي الأقبية والزنازين، وفي الشوارع الممهورة برائحة الدم والرحيل واليأس، وفي العقول والأفئدة المكوبسة، وعلى مدى الطبيعة، على حد سواء.
شيءٌ من “تركيز الشعر وصراحة النثر”، يملأ أدب هذه الكاتبة الروائية التي شغفت بحياة المضطدين والمحرومين والمعذّبين والفلاحين والفقراء، في ظل النظام القمعي الذي لفّ بلادها الأولى رومانيا، أيام الظلام، قبل أن تعثر على المطمئن من الحياة في الرحاب الألمانية الغربية، التي فرّت اليها.
ليس باطلاً أن نقول إن الثعلب هذا، الذي تكتبه هرتا موللر، هو نفسه “السفر على ساق واحدة”، وهو نفسه “الموعد” و”جواز السفر” و”شهر شباط الحافي القدمين” و”تانغو القمع” و”أرض الخوخ الأخضر” و”الأراضي الخفيضة” و”الجوع والحرير” و”الشيطان الذي يجلس في المرآة”. فـ”الثعلب كان هو الصيّاد” نفسه، الباحث عن صيده. ولكن أين؟ في أقبية الوجدان والعقل، في أقبية الحياة، بل في أقبية اللغة الروائية الرهيبة، وفي رحابها المشمسة، معاً وفي آن واحد.
يُستشَفّ مما نستنبطه من بين سطور المراجع، ومما تجود به المصادر المعلوماتية، أن هرتا موللر تنتمي الى “الناس”، والى الأدب الحيّ المتورّط، لا الى الأدب المحايد. هي، في هذا المعنى، إنسانة “ملتزمة” و”مناضلة”، وإن لم يكن التزامها النضالي هو السبب المرئي في منحها الجائزة. فهي لا تنال هذه الجائزة لأن أدبها ينطوي على “خدمة سياسية”، بل لأنه أدب إنساني. علماً أن التوقيت “مدروس”، ويتزامن وعشية الذكرى العشرين لسقوط جدار برلين. لكنْ، ثمة ما هو أبعد من ذلك. صحيحٌ أنه أدب في خدمة الإنسان والحرية، إلاّ أننا نستشفّ أيضاً ما هو أبعد من ذلك، وخصوصاً حين يتحول هذا الهمّ الوجودي همّاً أدبياً خلاّقاً، يمكّن الكاتبة، فنياً، من الدخول الى أعماق المرآة نفسها، التي يعشّش فيها الشيطان، ويقيم فيها مملكته، لتحتل بالفنّ، بملكتي السرد والشعر، مكانه، ولغته، وتتماهى به، من أجل ان تكسر صورته، وتُحلّ مكانها صورة الإنسان الأديب الذي يُحرز الانتصار على الشيطان نفسه. بل صورة الأدب الذي ينتشل الحياة واللغة من تحت الأنقاض.
هو أدب اللحم الإنساني المعذَّب والحيّ، لكن الأدب المنضوي تحت “تركيز الشعر وصراحة النثر”. وإذ أشدّد على هذه العبارة التي استخدمتها الأكاديمية الأسوجية في البراءة المرافقة لمنح الجائزة، فلأن الكثافة الشعرية المركّزة هي التي تجعل السرد النثري الصريح قادراً على ولوج أكثر الأماكن والحالات والمشاعر والأفكار والقضايا “مباشرةً”، لانتشالها وتحريرها من براثن النثر المباشر واليومي والزائل.
بدون الصراحة، لا يمكننا أن نقول الحقيقة. هذا ما تقوله الأكاديمية الأسوجية. وهذا ما يجب أن نلفت اليه. فلا بدّ إذاً من إعلاء شأن هذه الصراحة، التي تمثل كشرط أساسي في العملية الأدبية النثرية.
بيدين عاريتين، صريحتين، تنبش هرتا موللر حقيقة الجريمة الإنسانية التي عاشها شعبها في كنف الديكتاتور الروماني. لكنْ، بيدين مضمّختين بالحقيقة الشعرية.
مرةً جديدةً، أعود الى إبراز دور الشعريّ في الأدب والحياة. الأكاديمية الأسوجية نفسها، هي التي تلفت الى “تركيز الشعر” في عمل هرتا موللر الروائي والسردي. هذا “النسغ” العظيم، “نسغ التركيز الشعري”، هو الذي يمثل وراء القدرة على رواية الفجيعة الإنسانية، بطريقة تجعل “صراحة” فعل السرد النثري أشبه بصراحة النبع حين يفصح عن نقائه الأبهى، غير المرئي بالعين.
أعتقد أنه ينبغي البحث عن هذا اللقاء الذي لا غنى عنه داخل الرواية نفسها، بين النثر الصريح والشعر المركّز، في تجربة هرتا موللر، والذي يمثل كذريعة كاملة في قرار الكرادلة داخل الأكاديمية الأسوجية، المانحة للجائزة.
بل أعتقد أنه ينبغي البحث أيضاً عن الشعر، صافياً ومطلقاً، والمناداة به على رؤوس الأشهاد. كما ينبغي البحث عن اللقاء الذي لا غنى عنه داخل الشعر، بين الشعر نفسه والسرد، في عمليةٍ “تصحيحية” دؤوبة، متأنية، لإعادة الإعتبار الإنساني والأكاديمي الى الشعر، الذي يعامَل كحيوان أجرب في الدوائر الأدبية والثقافية المعنية.
وإذا كان من عجبٍ أبديه حيال الإعراض عن الالتفات الى الشعر والشعراء في قرارات الأكاديمية الأسوجية، خلال الأعوام الأخيرة المتلاحقة، كما في غيرها من الدوائر الأدبية المرموقة في العالم، فذلك لكي أقول إن هذا الإعراض يدلّ على عطب جوهري في قوامنا الحياتي والثقافي والنقدي مطلقاً.
على كل حال، ألا يشكّل “تركيز الشعر” الدفةَ الثانية للميزان الذي زانت به الأكاديمية الأسوجية قرارها وبراءتها، فجعلت “زنة” هذا “التركيز الشعري” تناصف “زنة” الدفة الأولى التي هي “صراحة النثر”؟
أياً يكن ما كانت تقصده هرتا موللر، فأنا يحلو لي أن أقترح التساؤل الآتي: ألا يكون “تركيز الشعر” هو أيضاً الثعلب الذي يصطاد صراحة النثر و… الشيطان الذي يجلس في المرآة؟ ¶
النهار