ثقافة الترفيه وبـنـات الـخـطـأ: في دمشق العثمانية
محمود الزيباوي
تحت عنوان “ثقافة الترفيه والمدينة العربية في الأزمنة الحديثة”، يتناول الباحث الأردني مهند مبيضين أحوال “دمشق العثمانية” في بحث معمّق يجمع بين صرامة النهج الأكاديمي ومتعة القراءة. صدر الكتاب عن “الدار العربية للعلوم والنشر” بالتعاون مع “الصندوق العربي للثقافة والفنون”، ويتألف من ستة فصول قسّم كل منها أبواباً عدة، إضافة إلى ثلاثة ملاحق خاصة بأعلام الترفيه وأماكنه وبعض الخرائط والصور.
في الفصل الأول من الكتاب، يستعيد الكاتب مسألة “جدل الموسيقى والرقص وأهل الغناء”، والسجال الشرعي المستمر في تحليل السماع وتحريمه. نظر علماء الشام في أمر الموسيقى وسماع آلاتها في وقت مبكر، وألّف ابن القيسراني في نهاية القرن الحادي عشر كتاب “السماع”، وفيه قدّم قراءة متأنية لهذه القضية. تظهر الإشكالية التي تثيرها مسألة سماع الموسيقى في حديث شهير ورد مرفوعاً إلى عائشة وفيه: “دخل عليَّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث، وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله وذلك في يوم عيد. فقال رسول الله: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا”. وتقول رواية أخرى “إن أبا بكر دخل عليها (أي عائشة) وعندها جاريتان في أيام منى تغنّيان وتضربان ورسول الله وسلم مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله عنه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد”. استمر السجال بين من رفضوا “مزمور الشيطان” ومن جرّد الآلات الموسيقية من هذه الصفة الشيطانية، وفي نهاية القرن السابع عشر، رأى مفتي دمشق الشيخ إسماعيل الحائك أن الموسيقى والآلات مقبولة “إذا كانت لا تخرج الإنسان عن طاعة الله ولا تقوده إلى فعل معصية”.
ألّف إسماعيل بن عبد القادر اليازجي الدمشقي رسالة “الإمتاع في تحريم الملاهي والسماع”، وأجاز الشيخ عبد الغني النابلسي الدف والشبابة والسماع، لكونها تقرّب الإنسان من الله وحبه، “وهي سبب لاجتلاب السرور”، وهي محرّمة إذا ما اقترنت بشيء من المحرّمات أو اتخذت وسيلة للمحرمات، أما إذا سلمت من كل ذلك، فلا شيء يمنع من تعلمها وسماعها، لأن”سماع الآلات ذات النغمات أو الأصوات لا يمكن أن يحرّم باعتباره صوت آلة، وإنما يحرّم إذا استعين به على محرّم او اتخذ وسيلة إلى محرّم أو ألهى عن واجب”. بدوره ألّف تلميذ النابلسي الشيخ حسين بن طعمة اليتماني “رسالة في السماع”، وتحدث عن “نوبات السماع في منازل العلماء”، ومنها نوبة “ضرب فيها بالسنطير والناي والكمنجة والعود والوتر والشبابة”، وختم بجواز هذه الطرق في التعبير، لأن “السماع بالآلات كالمطر ينزل على أرض النفوس فتهتز فتنبت ما فيها من الأسرار الإلهية والتقادير العلمية الكامنة في خزائن النفوس، فإن كان طيبا نبتت طيبا، وإن كان خبيثا نبتت خبيثا”. في أواخر القرن التاسع عشر، وضع الشيخ الحمصي سعيد بن يحيى “رسالة في أحكام الذكر والسماع”، ورأى أن حكم السماع حرام ومباح ومندوب. هو حرام “لأكثر الناس من الشباب ومن غلبت عليهم لذاتهم وشهواتهم وملكهم حب الدنيا”، وهو مباح “لمن لا حظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن واستدعاء السرور والفرح”، وهو مندوب “لمن غلب عليه حب الله تعالى والشوق إليه، فلا يحرك منه السماع إلا الصفات المحمودة وتضاعف الشوق لله تعالى”، “وهذا سماع الصوفية أهل الصدق والإخلاص في كل زمان ومكان”.
مستحل الرقص
من الموسيقى، ننتقل إلى الرقص والتمثيل. ألّف إبراهيم الدمشقي “الرهص والوقص لمستحل الرقص” وفيه رأى أن التمايل عند التهليل مع القيام والقعود وارد عند أصحاب الرسول، وهم الذين “إذا ذكروا الله تمايلوا شملا ويمينا كما تتمايل الشجرة في الريح العاصفة”. من المنطلق نفسه، يجوز “حدو الحادي وشدو الشادي”، ويُحرّم إذا بدا فيه “من الفحش والخروج على قانون الأدب من ذكر الخدود والقدود والشعور والخمور والأعطاف والأرداف”. وفي حين انحصر الجدال الفقهي في رقص الصوفية، شاع الرقص “الدنيوي” في مجالس الخاصة وفي الأفراح، واعتبره البعض فرعا من فروع الموسيقى، وهو بحسب تعبير حاجي خليفة في القرن السابع عشر “علم يبحث عن كيفية صدور الأفعال التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال، والمتصفات بالظرف والكمال”. وفي حين يتأصل الرقص في تقاليد قديمة تعود إلى العصر العباسي كما يشهد المسعودي، يبدو التمثيل “مستحدثا” في دمشق، ورائده هو أبو خليل القباني الذي استمد مسرحياته من التراث العربي والتاريخ الإسلامي، وقد اندفع في نشاطه بتشجيع من الولاة الأتراك، غير أنه تعرّض للهجوم على أيدي العلماء المحافظين، واتهم بإفساد النساء والغلمان، فارتحل إلى مصر، مما شكّل نكسة كبيرة لفن التمثيل في دمشق، وهذا ما يؤكده محمد كرد علي في “خطط الشام” بقوله: “ولما كان التمثيل كما قلنا عارضا على مدنيتنا رجع القهقرى بعد أبي خليل”.
خارج السجال حول جواز الموسيقى وتحريمها، عرف الغناء انتشارا واسعا في سوريا وبات له أربابه ومشاهيره، وعرف تحولات عدة بين زمن وآخر، وتأثر بالغرب في مرحلة متأخرة، كما يشهد كرد علي في تعليقه: “بدأت الموسيقى التركية تنازع الموسيقى العربية في أواخر القرن التاسع عشر، لأنها خُدمت أكثر من موسيقانا، ثم جاءت الموسيقى الافرنجية، فأصبحت الموسيقى اقتباس الجديد لأنه ليس من مصطلحه… ولا يفوتنا القول ان الموسيقى في العصور المتأخرة كان لها في أذكار بعض أرباب الطرق الصوفية مقام رفيع، ومنهم من أتبعها بالصنوج والأوتار، ومنهم من شفعها برقص، وقد قام منهم مبرزون في صنعتهم، وماتت شهرتهم، يوم سكتت نأمتهم، والموسيقى في الكنائس على اختلاف الطوائف المسيحية وتباين العصور، ما زالت شائعة معتبرة وكم من موسيقار عندهم تقلبت به الحال حتى رقي بفضله إلى أرقى درجات الكهنوت”…
الأعراس والطهور
في الفصل الثاني، يدخل مهنّد مبيضين عالم “الفنون والتسلية في عادات أهل دمشق”، ومنها فنون الأعراس وفنون الطهور. تتميز هذه الاحتفالات بالبذخ الشديد، وفيها “تقع المفاخرة والمغايرة بين الأقران، ويستحوذ عليهم الشيطان، ويحصل العجب، فينفقون أموالهم رياء وسمعة”، كما جاء في “نسمات الأسحار”. يمشي العريس مع صحبه إلى الحمّام ومنه إلى عروسه، وترافقه أهزوجة في كل وقفة: “عريس الزين يتهنى واطلب علينا واتمنى، عريس الزين يا غالي افديه بالروح والمال”، “شو هالليلة الله يعينه ع هالليله ومن هالليلة صار له عيلة”. تشكل حفلة الختان وجها آخر من وجوه هذه الاحتفالات، وقد نقل ابن طولون الصالحي بعضا من أخبارها في “مفاكهة الخلان في حوادث الزمان”. في واحدة من هذه الزفات، حصلت “مناكر كثيرة حتى شرب الخمر على رؤوس الأشهاد، والنساء حاسرات معاصمهن ويضربن الدفوف، وأطلق بارود كثير، ولم ينكر ذلك احد حتى ولا باللسان، وذلك تزلفا للحكام العثمانيين”. في “حوادث دمشق اليومية”، يخبرنا البديري الحلاق أن والي دمشق سليمان باشا ابن العظم أقام فرحا كبيرا “لأجل ختان ولده العزيز أحمد بك، وكان في الجنينة التي في محلة العمارة، وجمع فيه سائر الملاعب وأرباب الغناء واليهود والنصارى، واجتمع فيه الأعيان والأكابر من الأفندية والأغوات ما لا يحصى، وأطلق الحرية لأجل الملاعب يلعبون بما شاؤوا من رقص وخلاعة وغير ذلك، ولا زالوا على هذا الحال سبعة أيام بلياليها. وبعد ذلك أمر بالزينة، فتزينت أسواق الشام كلها سبعة أيام، بإيقاد الشموع والقناديل، زينة ما سمع بمثلها. وثاني يوم طهّر ولده أحمد بك، وأمر من صدقاته أن يطهّر من أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فصارت تقبل الناس بأولادهم، وكلما طهّروا ولداً يعطونه بدلة وذهبين، وأنعم على الخاص والعام، والفقراء والمساكين بأطعمة وأكسية وغير ذلك”.
اللهو الحرام
في الفصل الثالث من الكتاب، ننتقل إلى طقوس اللهو الحرام، وهو اللهو الخاص ببنات الهوى والغلمان. في عرضه لحوادث عام 1480، يتحدث ابن طولون عن انتقال “بنات الخطأ” من حارة البغير إلى جوار المدرسة اليونسية، ويشكل هذا الانتقال بداية لخروج بنات الخطأ من الظل إلى العلن، وصيرورتهنّ جزءاً من المجتمع الدمشقي. بحسب البديري، أقام فتحي أفندي الدفتري فرحاً عظيماً “ما عمل بدمشق نظيره، ولا بلغ أحد أنه عمل مثله، وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: فاليوم الأول خصّه بحضرة والي الشام سليمان باشا بن العظم، واليوم الثاني إلى الموالي والأمراء، واليوم الثالث إلى المشايخ والعلماء، واليوم الرابع الى التجار والمتسببين، واليوم الخامس إلى النصارى واليهود، واليوم السادس إلى الفلاحين، واليوم السابع إلى المغاني والمومسات، وهم بنات الخطأ والهوى، وقد تكرم عليهم كرماً زائداً، ويعطيهم الذهب والفضة بلا حساب”.
في موقع آخر، يقول البديري إن بنات الخطأ كثرن في دمشق، وبتن يتبرجن في الليل والنهار، وعُرف منهن سلمون التي كانت “تعربد في الطريق وهي سكرى ومكشوفة الوجه” و”افتتن بها غالب الناس، حتى صار ينسب إليها كل حاجة أو متاع، فيقولون هذا متاع سلموني، وهذا الثوب سلموني، فأخرج المفتي فتوى بقتلها وإهدار دمها تسكيناً للفتنة، ففتشوا عليها وقتلوها، وأرسلوا منادياً ينادي في البلد، أن كل من رأى بنتاً من بنات الخطأ والهوى، فليقتلها ودمها مهدور، فسافر عدد منهن وانزوى البقية، ومع ذلك فالطاعون مخيم في الشام وضواحيها، مع الغلاء ووقوف الأسعار”. فشلت هذه السياسة المتشددة في الحد من انتشار بنات الخطأ، فأصدرت الدولة قانونا خاصا يقضي بالترخيص بممارسة البغاء مقابل دفع ضريبة مالية، ورجعت المومسات إلى البلد، ورحن “يمشين كعادتهن في الأزقة والأسواق وأزيَد”.
تزامن انتشار البغاء مع انتشار شرب الخمرة، وتصدى بعض الشيوخ لهذه “الآفة”، ومنهم مبارك عبد الله الحبشي الدمشقي الذي دفع جماعته إلى مهاجمة نقلة الخمر، فكانوا يقطعون الطريق أمامهم ويريقون خمرتهم، “فبلغ الحكام ذلك، فقبض النائب على بعض جماعة الشيخ، وحبسهم في سجن باب البريد، فنزل الشيخ مبارك ليشفع فيهم، فأمر النائب بوضعه في الحبس معهم، فبلغ الخبر إلى الشيخ تقي الدين ابن قاضي عجلون، فأرسل وشفع فيه، فأطلق، ثم هجم بقية جماعة الشيخ مبارك على السجن، وكسروا بابه، وأخرجوا من فيه من رفاقهم، فبلغ النائب، فأرسل جماعة من مماليكه، فقتل منهم نحو سبعين نفساً عند باب البريد والعنبرانية، وقرب الجامع الأموي، ثم ترك الشيخ مبارك ذلك، ولازم حضور الزوايا كزاوية الشيخ أبي بكر بن داود بالسفح”.
خرجت الخمرة إلى العلن في القرن التاسع عشر، أيام الحكم المصري. بحسب ما نقله مؤلف “مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا على سوريا”، بلغة محكية ركيكة، تم إنشاء أول خمارة في الشام بأمر من الحاكم، “وأخذوا خان المصبنة الذي في الخراب وقاعة النشا وعملوهم خمار، وتشوف الإسلام بأسوأ حال لأنه شيء مثل هذا عملاه ما صار قبلا بالشام، وتنظر الوارد على الخمارة مسلمين ونصارى ويهود، وتنظر العرق والنبيذ مبسطين فيه بالقهاوي والشوارع”.
يشكل “حب الغلمان” صنفا آخر من أصناف اللهو المحرّم، وقد ابتلي به كما يبدو رجال العلم والشيوخ في وجه خاص، ومنهم من ذكرهم المحبي في “خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر”. ابتلى أبو السعود أحمد بن السعود الدمشقي “بمحبة غلام، وأنفق عليه مالا كثيرا، وأداه ولهه وغرامه إلى قتل نفسه”. وقال حسين بن أحمد الجزري في غلام رمدت عينه:
“وما رمدٌ في عين حبي لعلة/ ولكنني أنبيكم بوجوده
أراد يرى ما في محياه من سنا/ فأثر فيه جرم شمس خدوده”
ألّف أحمد بن محمد الحصكفي كتابا بعنوان “عقود الجمان في وصف نبذة من الغلمان”، أما لطفي بن محمد بن يونس، فقد “ترك القراءة واشتغل بهوى نفسه وعاشر الغلمان”، “ومما اتفق له أنه تعشق ولدين للشرفي يحيى بن شاهين الصالحي، أحدهما يدعى إبراهيم، والآخر درويشا، وكانا بارعين في الجمال، وصرف عليهما جميع ما اقتناه من تراث أبيه وكان يوقد بحضرتهما”، وقد قال في إبراهيم: “وكانت ليالي السعد تسعدني به/ وكنا كما شاء الهوى دائماً معا”.
تسبب حب الرجال للغلمان في غيرة نسائهم في بعض الأحيان، وقد قتلت امرأة زوجها “مع جماعة من الأشقياء، بدعوى أنه ينام مع مملوكه ولا ينام معها، وبعد قتله دفنوه في دهليز البيت، والقتيل ينتسب إلى الأكراد، وله قهوة بسوق الخيل، واسمه درويش آغا، فقامت الأكراد على ساقها في سوق الخيل، فجاء ولد صغير كان حاضراً ومطلعاً على قتله ودفنه، فدلّهم على مقتله وداره، فذهبوا وألقوا القبض على الجميع، فوجدوا طبجي الباشا خليل آغا وأخا الزوجة ورجلا آخر، فجاؤوا إلى الطبجي وقطعوه قطعاً، وقتلوا الرجل وأخا الزوجة، أما المرأة فإنهم أخذوها وغرقوها في مغرق البحصة في نهر بردى، ولم يسألوا عن الحكام، والحاكم لم يتعرض لهم”.
مرهم الحزن
يأتي الفصل الرابع تحت عنوان “القهوة والمقهى”، وفيه نستكشف تاريخ شراب البن انطلاقا من اليمن، إلى الحجاز، وصولا إلى بلاد الشام في القرن السادس عشر. أثارت القهوة سجالا فقهيا طويلا، وقد عرض ابن طولون حجج الذين أفتوا بتحريمها أو جوازها في كتب حملت عناوين عدة، منها “قمع الإمارة بالسوء عن الشهوة، بيان حرام شرب القهوة”، “قمع الشهوة عن شرب القهوة”، “إزالة القدم والهفوة ممن يتعاطى شرب القهوة”، “إزالة الهفوة بتحريم شرب القهوة”، “إجابة الدعوة بنصرة القهوة”. رأى مفتي دمشق الشيخ قطب الدين محمد بن سلطان الحنفي أن انتشار القهوة ما هو الاّ مصيبة من “جملة المصائب التي عمّت البلوى بها في هذا الزمان”، وجزم بأن من قال بجواز شربها ليس “في قلبه مثقال ذرة من ايمان”، ودعا أولي الأمر إلى “منع من يتعاطى شربها وردعهم وزجرهم بالضرب والحبس وغير ذلك”.
على الرغم من هذا المنع، شاع شرب القهوة في دمشق، وارتبط احتساؤها بالألعاب التي تُمنع شرعاً، مثل الغناء والرقص، ونادى الكثير من العلماء بإبطالها، غير أن هذا النداء لم يحد من انتشارها. قيل في مدحها:
“قهوة البن أضحى/ بها الحمى غير عاطل
لكنهم شربوها/ بالدور والدور باطل”
وقيل في المعنى المعاكس:
“إشرب هنيئاً قهوة البن التي/ تحلو مع الإخوان والخلان
سوداء في المبيض من فنجانها/ تحكي سواد العين للإنسان”
تحوّلت قهوة البن إلى “مرهم الحزن وشفا الأنفس”، وأبيح شربها في البيوت، بينما حرّم شربها في البيوت الخاصة حيث يجتمع مع شربها لعب النرد والموسيقى. يخبرنا ابن طولون أن علي بن محمد الشامي “اشهر شرب القهوة بدمشق”، وذلك في القرن السادس عشر، “فاقتدى به الناس، وكثرت من يومئذ حوانيتها، ومن العجب أن والده كان ينكرها، وخرب بيتها بمكة”. في نهاية القرن التاسع عشر، انتصرت القهوة، وباتت شرابا مقبولا، بل مباركا، “فهي شراب أهل الأدب والمدرسين والعلماء، وباختصار شراب أهل الله”. انتشرت المقاهي في دمشق بأعداد كبيرة، وذلك في الأسواق داخل المدينة، كما عند أبوابها القديمة. كان لهذه المقاهي فنون خاصة بها، وأبرزها فن الحكواتي.
الحمّامات والحارات
في الفصل الخامس، يدخل الباحث عالم الحمّامات، ويمثل هذا العالم “حالة نادرة من الخصوصية التي استطاعت المرأة الدمشقية أن تتساوى فيها مع الرجل”. يشكل الفصل الأخير ما يشبه الخلاصة لهذا البحث المعمق، وفيه يتناول الكاتب عوالم الحارات والحكايات وحرف الترفيه، مقارناً بين السيرة التراثية المحكمة والسيرة الشعبية بلغتها العامية: “بيبرس في السيرة الشامية ما هو إلا بطل خيالي، وهو بعيد في صورته عن الملك الظاهر بيبرس العلالي البندقداري الصالحي رابع سلاطين المماليك”. مهّد فن الحكواتي لولادة فن جديد هو فن تمثيل الروايات الذي راج رواجا عظيما في مرحلة متأخرة. عادت حرفة التمثيل لتلمع من جديد، وترافق هذا التحول مع وصول الفرق الفرنسية إلى دمشق في عهد الانتداب حيث شهدت “دمشق العثمانية” آخر أيامها ¶
النهار الثقافي