صفحات سوريةياسين الحاج صالح

جيل ثالث أمام الواقعة الإسرائيلية

null

ياسين الحاج صالح

بعد جيل أول من إجماع سياسيين وثقافي عربي معلن على رفض الواقعة الإسرائيلية وإعلان العزم على إزالتها، أظهر جيل ثان من السياسيين والمثقفين استعدادا لمسالمة إسرائيل والتفكير في سبل التعايش معها. واليوم، في الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية، ليس في رصيد الجيل الثاني (1978-2008) ما يثبت أن نهجه أجدى من نهج الجيل الأول (1948-1978) الذي قد يمكن تعيين نهاية هيمنته بالصلح المصري الإسرائيلي عام 1978. ولعل المناسبة، التي يحتفل بها الإسرائيليون كعيد استقلالهم الستين أيضا، تصلح نهاية اصطلاحية لمقاربات الجيل الثاني وبداية لتفكير وسياسات جديدة، ربما لن تتضح ملامحها قبل سنوات من اليوم.

مثّل تحرير فلسطين مشروع الجيل الأول الذي خاض أربع حروب غير مثمرة، انتهت أولاها (1948) بقيام إسرائيل، وثالثتها (1967) بتوسعها لتشمل كل فلسطين وأراضي من دول عربية مجارة، فيما هزمت أطراف عربية عسكريا في الثانية (1956) والرابعة (1973)، لكن تحققت لها مكاسب سياسية ملتبسة. بعد الحرب الرابعة انتهت حروب الدول وبدأت حروب المنظمات، الأمر الذي يؤشر على انتهاء زمن الإجماع العربي الفاعل على رفض إسرائيل.

شهدت سنوات ما بعد الصلح المصري الإسرائيلي مبادارت عربية من أجل السلام وتفاعلا عربيا إيجابيا عموما مع مبادرات أجنبية. وفي تسعينات القرن العشرين شاركت الأطراف العربية جميعا في «عملية السلام» التي أطلقها مؤتمر مدريد عام 1991.

كما أظهرت الثقافة العربية استعدادا للتجاوب مع مشاريع السلام، وأعلن بعض أبرز المثقفين العرب موقفا إيجابيا من عملية مدريد والصلح مع إسرائيل، فيما كان عدد كبير منهم مترقبا، قد يتحول إلى موقف إيجابي إن وعدت العملية بنتائج كريمة. ورغم أن مثقفين آخرين ثابروا على الولاء للمقاربة القديمة، إلا أن هذه فقدت هيمنتها وباتت رأيا بين آراء.

نتائج سياسة الجيل الثاني معروفة. تحقق نوع من السلام على الجبهة الأردنية التي قلما كانت جبهة أصلا. وتعذر السلام مع سورية. وفي فلسطين حصل تقدم وقتي لم يبن عليه. كان ثمة أخطاء فلسطينية بلا ريب، إلا أن إسرائيل أظهرت على الدوام أن السلام في مفهومها هي حرب أقل كلفة فحسب. وفي المحصلة كان نصيب جيل السلام العربي من السلام منافسا لنصيب جيل الحرب من الحرب، لا شيء ذا قيمة تقريبا.

إسرائيل لا تريد السلام لأنها متفوقة في الحرب. بالحرب تكسب، وبالسلام تخسر لأنه يقيد ميزتها التفاضلية الكبرى: التفوق العسكري. الحرب لعبة إسرائيل، فلماذا تجنح للسلم؟ وهي لن تسالم حقا إلا إذا كان من المحتمل أن تخسر الحرب. وهذا احتمال يتكفل الدعم الأميركي المطلق العسكري والاقتصادي والقانوني بتجنيبها إياه. وإلى الدعم هذا يعزز الاحتضان الغربي، الثقافي والأخلاقي، نزوعا إسرائيليا متأصلا إلى رفض المساواة مع الفلسطينيين والعرب، لا في الأمن أو السيادة فقط، وإنما كذلك في الاحترام والقيمة الإنسانية. وهذا يقوض أساس السلام، ويحرم تطلعات السلام العربية من أية أرضية أخلاقية وثقافية، ويطعن في صدقية وشرعية المسالمين من العرب.

واليوم يبدو أن ثلاثين سنة بعد السلام المصري الإسرائيلي، و17 عاما بعد مدريد و15 بعد أوسلو، كانت كافية لإنضاج شعور بامتناع السلام مع إسرائيل أو بقلة جدواه. ولعل هذا سيكون عنصرا أساسيا في تشكيل خبرة الجيل الثالث، العربي والفلسطيني، بالواقعة الإسرائيلية.

نرجح أيضا أن خبرة الجيل هذا ربما تكون تركيبا هيغليا من خبرتي الجيل الأول والجيل الثاني. فهي تسترجع اعتراض الجيل الأول على إسرائيل، لكن سند الاعتراض هذه المرة هو حس العدالة والمساواة، وليس القومية والصراع الوجودي بين العرب و»الكيان الصهيوني». ومن خبرة الجيل الثاني ربما تأخذ رفض الحرب، لكن دون أوهام حول السلام. لا يتعلق الأمر هذه المرة برفض مطلق للواقعة الإسرائيلية ذاتها بالضرورة، بل برفض سياسي وأخلاقي يشمئز من العنجهية والعدوانية الإسرائيلية. إنه رفض لحق إسرائيل في معاملتنا كبشر ودول من مرتبة أدنى، دون أن يتورط حتما في رفض وجودي لها. وهو، تاليا، لا يتعارض مع وجود إسرائيل في صيغة معدلة، أي كدولة مثل غيرها ومساوية لغيرها.

وبعد أن تمثلت سياسة الجيل الأول في اللاسلم مع إسرائيل، وسياسية الجيل الثاني في اللاحرب معها، قد تتمثل سياسة للجيل الثالث في «اللاحرب واللاسلم»، لكن في صيغة معدلة: نمتنع إلى أقصى حد عن محاربة إسرائيل، ونمتنع بالدرجة نفسها عن تقديم أي تنازل لها، و.. نبني بلادنا. إنها «حالة اللاحرب واللاسلم»، التي ثلبت كثيرا في أوقات سابقة، لكنها ليست متمحورة هذه المرة حول إسرائيل، وإنما حول البناء الداخلي. أي هي أثر لتحول السياسة نحو الداخل بعد جيلين من المحورية الإسرائيلية لسياسة الدول العربية المعنية. ومن شأن التحول هذا وحده أن يجعل الزمن يعمل في صالح العرب.

وبعد دولة واحدة في فلسطين، هي فلسطين، في سياسة الجيل الأول؛ ودولتين، فلسطين وإسرائيل، في سياسة الجيل الثاني، نرجح أن يعود الجيل الثالث إلى دولة واحدة أيضا، لكن ثنائية القومية، في فلسطين. هذا ما يترتب تحديدا على السياسية الإسرائيلية التي لا تكف عن تقويض شروط حياة دولة فلسطينية. لكن هذا ما هو صحيح وأخلاقي أيضا. ففلسطين لا تحتمل دولتين، حتى وإن أمكن أن تحتمل شعبين. ومحصلة أوسلو طوال خمسة عشر عاما، وبالخصوص انقسام فلسطين قبل أن تقوم، في نظرنا البرهان الأقوى على إفلاس «عملية السلام» وانطواء عهد جيل السلام. وأكثر من كون الانقسام هذا نتاجا لسياسات فلسطينية خرقاء، هو نتاج لاستحالة السياسة فلسطينيا. أعني لتساوي خيارات الفلسطينيين في سوئها.

وكما لم تتلاش سياسة الجيل الأول في زمن صعود سياسية الجيل الثاني، فإن من غير المحتمل أن تزول سياسة الجيل الثاني السلمية في زمن الجيل الثالث الذي لعله بدأ لتوه. فإن كان ذلك قريبا من الصحة، على ما نرجح، كان من المتوقع أن تظهر مبادرات السلام ومشاريعه ومؤتمراته عقما متزايدا، على نحوٍ ربما يمثل عليه أحسن تمثيل مؤتمر أنابوليس قبل أشهر. فالمشكلة ليست في الإجراءات التي ترتد إليها حصرا تلك المبادرات والمشاريع، بل في الافتراضات الأساسية لعملية السلام برمتها كما عرفناها خلال جيل كامل. ومن هذه الافتراضات مشروع الدولتين ذاته، ومنها قرارات الأمم المتحدة التالية لحروب 1948 و1967 و1973، وهي المرجعية القانونية للسلام، ومنها بالتأكيد السيادة الأميركية على العملية المزعومة بمجملها.

التاريخ يسير بنا وحولنا، لا يتوقف، ورغم كل شيء فإنه لا يسير نحو الأسوأ.
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى