الإسلام والحكم… عود على بدء
د. عمّار علي حسن
تناولت في ست مقالات سابقة قضية “الإسلام والحكم” منطلقاً من المعركة التي بدأت قبل نحو خمسة وثمانين عاماً حين ألف الشيخ علي عبدالرازق كتابه الصغير المؤثر “الإسلام وأصول الحكم” ولم تنتهِ إلى الوقت الراهن. وقد تلقيت تعليقات عدة على هذه المقالات، سواء على الموقع الإلكتروني لجريدة “الاتحاد” أو الصحف والمواقع الإلكترونية التي أعادت نشر هذه المقالات. ولاحظ البعض، ولديهم كل الحق، أنني لم أستفض في عرض النقاط الرئيسية لكتاب عبدالرازق، وما هو موقفي منه، بينما عرضت أفكاراً لآخرين دخلوا غمار هذه المعركة.
وهنا أقول إن الفكرة الأساسية لكتاب عبدالرازق تنبني على أن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام، وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية، وأن القرآن الكريم والحديث النبوي لم يوردا ما يبين، من قريب أو بعيد، كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه، وذلك لأن هذا التنظيم “اختراع بشري” أو “اجتهاد” من قبل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم اعتبر عبدالرازق الخلافة “نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر فاسد” وراح يسرد من معطيات التاريخ ما يبرهن على هذا الرأي الصادم في وقتها.
ويؤكد عبدالرازق أن الأصل في الخلافة عند المسلمين أن تكون راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد، والبيعة الاختيارية، أما الملك فمن الطبيعي أن يقوم في كل أمة على الغلب والقهر. وقد هبطت الخلافة في تاريخ المسلمين إلى ملك لأنها “لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة، وأن تلك القوة كانت، إلا في النادر، قوة مادية مسلحة”. وهذا يخالف جوهر الإسلام، الذي يؤمن بالمساواة بين سائر البشر.
ويستعرض عبدالرازق بعض الأدلة على فساد الحكم واستبداده بعد الخلافة الراشدة، ثم يبدي مرونة عالية في تصور شكل الحكم في الإسلام، فيقول: “إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحاً ما يقولون، من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان على الخلافة، بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة… أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة”. ويذهب عبدالرازق إلى أبعد مدى فيقول: “ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا، ولا لأمور دنيانا. ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد”.
وحتى يعطي وجهة نظره حول “نظام الحكم في الإسلام” وجاهة وعمقاً يرى عبدالرازق أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمارس نوعاً واضح المعالم من الحكم، أو السلطة السياسية، فيقول: “وجدنا عند البحث في نظام القضاء في عصر النبوة أن غير القضاء أيضاً من أعمال الحكومات ووظائفها الأساسية لم يكن في أيام الرسالة موجوداً على وجه واضح لا لبس فيه، حتى يستطيع باحث منصف أن يذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعين في البلاد التي فتحها الله له ولاة مثلا لإدارة شؤونها، وتدبير أحوالها وضبط الأمر فيها. وما يروى من ذلك فكله عبارة عن توليته أميراً على الجيش أو عاملا على المال أو إماماً للصلاة، أو معلماً للقرآن، أو داعياً إلى كلمة الإسلام. ولم يكن شيء من ذلك مطرداً، وإنما كان يحصل لوقت محدود… ومن المؤكد أننا لا نجد فيما وصل إلينا من ذلك عن زمن الرسالة شيئاً واضحاً يمكننا ونحن مقتنعون ومطمئنون، أن نقول إنه كان نظام الحكومة النبوية”.
ويفرق عبدالرازق بين الرسالة والملك، ويرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان رسولا فحسب، وهنا يقول: “كم من ملك ليس نبياً ولا رسولا. وكم لله جل شأنه من رسل لو يكونوا ملوكاً بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلا فحسب… محمد ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة للدين، لا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة”. وينهي عبدالرازق كتابه باعتبار أن الخلافة ليست نظاماً دينياً، وليست نيابة عن صاحب الشريعة، وأن ما قيل في هذا الاتجاه لم يكن سوى ترويج واضح لمسألة خاطئة بما يحقق مصلحة بعض السلاطين.
وفي حقيقة الأمر فإنني حين كنت أطالع هذا الكتاب سجلت على هوامشه بعض الملاحظات العامة، التي استقرت في يقيني، وهي لا تقتصر على مادة الكتاب فقط، بل تتسع لتطوق الملابسات التي أحاطت به، والمنهج الذي اتبعه صاحبه في صياغة مضمون كتابه. ويمكن سرد هذه الملاحظات على النحو التالي:
1 – اتبع علي عبدالرازق في كتابه المنهج الذي كان سائداً عند فقهاء المسلمين وكتاب السير، والذين استفادوا من طريقة القرآن الكريم في عرض حجج المشككين فيه وفي الإيمان وفي وجود الله سبحانه وتعالى ثم دحضها. فعبدالرازق كان يعرض ما يتوقع أن يقوله خصومه حول ما جاء في كتابه، ثم يتولى الرد عليه تباعاً.
2 – من يمعن النظر في تفاصيل معركة كتاب “الإسلام وأصول الحكم” وأطرافها، ربما يجد تحققاً عملياً لبعض ما جاء في الكتاب ذاته. فالسياسة طغت على الدين، عبر استغلال المتنافسين في حلبتها الضارية لمادة الكتاب بغية تحقيق مآرب أبعد ما تكون عن مسائل العقيدة والعبادة. وهذا الأمر كان من الأسباب الرئيسية التي دعت علي عبدالرازق إلى رفض الربط بين الإسلام والسلطة السياسية.
3 – لم ينجُ علي عبدالرازق من الوقوع في خطأ متكرر عند كثيرين وهو اتخاذ الممارسة التاريخية حجة على النص. فالنص يعرض المثل العليا، والممارسة تجسد الواقع، ودوماً هناك فجوة بين الاثنين، تتسع وتضيق، وتتقارب وتتباعد، لكن زلات التطبيق لا تعني أن النص فيه خلل، وهذه مسألة تنسحب على قضايا كثيرة حفل بها النص الإسلامي المؤسس وهو القرآن الكريم، ومنها عدالة الحكم، بغض النظر عن عدم وجود تفاصيل تحدد هيكل الحكم ونوعه ومساره تحديداً صارماً.
وفي الوقت نفسه ينبغي ألا تبنى الاستدلالات على إعطاء كل ما عدا القرآن حجية هذا الكتاب المنزل. فالفقه والتفسير هي منتج بشري، والصحيح من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقع في درجة أدنى من القرآن، وإن تعارض معه فلا يلزم أحداً.
4 – ينبغي إعادة التفكير في مسألة ربط الإسلام كدين بقيام دولة تعبر عنه تعبيراً محدداً، وتسهر على حراسته. فالإسلام انتشر في أفريقيا من دون دولة، وإنما عبر جهود مشايخ الطرق الصوفية والتجار، ووصل إلى أصقاع في آسيا بالطريقة ذاتها، وهو الآن يتمدد في أوروبا إلى درجة أن 63 شخصاً يعلنون إسلامهم كل يوم، حسب إحصاء مكتب الهجرة الأوروبي في النمسا، من دون أن يكون هناك إطار سياسي أو سلطوي يساعد هذا التمدد أو يحرسه.
5 – حين نتعرض لطبيعة دور الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نفرق بين “القيادة” و”الرئاسة” فالأولى ذات طبيعة اجتماعية، وهي تتأسس على سمات وصفات لدى شخص تلقى قبولا عند الجماعة التي ينتمي إليها، فيخلعون عليه مهابة واحتراماً وحباً، من دون أي تقيد رسمي حياله، ولا سلطة رسمية له عليهم. أما الثانية فذات منحى رسمي، يرتبط وجودها بوجود منصب، ولا يحظى من يشغله بالضرورة حباً واحتراماً ومهابة. وليس له من طاعة على الناس إلا بمقتضى ما يوفره له المنصب من صلاحيات. وأعتقد أن وضع الرسول الكريم كان وضع “القائد” في المسلمين، وليس وضع الرئيس، وأن تصرفاته السياسية كانت تجسد القيادة وليست نابعة من الرئاسة.
الاتحاد