صفحات مختارةطيب تيزيني

هيجل والشرق “ذو البعد الواحد”

د. طيب تيزيني
كان هيجل واحداً من أهم من أسس لما سيعرف بـ “الاستشراق الحديث”. ولم يكن هذا الأخير ممكن النشوء فقط لمجرد وجود رجال كبار في حقل الفكر والثقافة، من حيث الأساس. كان الأمر مرتبطاً بالمرحلة التاريخية التي عاش فيها وفي آفاقها هيجل (من 1770 الى 1831ميلادية)، أي بمرحلة كانت منعطفاً في تاريخ العالم، تحقق فيها في الغرب تحول كبير باتجاه التكوين البورجوازي والتأسيس للنظام الرأسمالي. وفي سياق ذلك، كان هذا الغرب يحقق سلسلة مترابطة من “الثورات”، الثورة الصناعية والأخرى العلمية والثالثة السياسية والرابعة الثقافية.. .الخ، ويلاحظ أن ذلك راح يتحقق عبر اكتشاف “العالم الآخر” – وهو بكيفية خاصة عالم الشرق، الذي سيوسع لاحقاً تحت عنوان “الجنوب”.
وقد تكثف ذلك مع تعاظم الحاجة الاقتصادية خصوصاً لأسواق ذلك الأخير. ومن الطريف أنه جرى وضع هذه الحاجة في إطار اقتصادي استراتيجي بدا كأنه “جزء من نشوء الغرب الحديث وتطوره، نعني الاعتقاد بأن الشرق تجسيد لـ “المجال الحيوي” لذلك الغرب.
فإذا كان الغرب الأوروبي قد راح يصطدم بـ “ضيق أسواقه”، فإنه كان من الممكن تجاوز هذه العقبة عبر النظر الى أسواق الشرق الأوسط مع أنها امتداد حيوي له في نموه وتعملقه الاقتصادي. هكذا راح الشرق الأوسط يظهر بصفته ذا علاقة بالغرب، تتقلص إلى الامتداد والتبعية الاقتصادية له. وشيئاً فشيئاً تبلورت هذه التبعية بمثابتها إمكانية لـ “تحضر الشرق” وإدخاله تحت مظلة الغرب، لكن دون أن يكون أهله قادرين على الخروج من جلودهم. وهذا ما عبر عنه (كابلان) حين أعلن بوضوح قاطع :إن الشرقيين -ومن ضمنهم بطبيعة الحال العرب- ليس لديهم قابلية للتطور، وهم دائمو الخداع لأنفسهم.
وكان هيجل، الفيلسوف الكبير والغارق حتى أذنيه في لوثة “المركزية الأوروبية”، قد وضع يده، كما رأى آخرون، على ما اعتبره العلّة الحاسمة والكامنة وراء كون الشرقيين على النحو الذي قُدموا فيه. فهم – وفق ذلك – لا يملكون مبدأ آخر غير (الوحي). وهذا الأخير أمر ثابت قاطع لا يتطلب أكثر من انصياع الناس إليه والعمل بمقتضى ما يتطلبه.
وفي ضوء ذلك “المبدأ الثابت – الوحي” الذي يملكه اثنتان، هما ـ كما أعلن عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر – “شعوب أصيلة وأخرى غير أصيلة”. فإذا كان (الوحي) مبتدئ الموقف لدى الشرقيين، فإن (العالم المفتوح) هو مبتدئ الموقف لدى الغربيين، ومن ثم، يغدو مفهوماً أن تُصنف شعوب العالم الى فريقين اثنين، فريق يملك “وحيه”، الذي يقدم إليه الأسئلة والأجوبة جاهزة، وعليه أن ينصاع إليه بطواعية تلقائية وعفوية، وفريق آخر يملك العلم وطاقته المفتوحة والخلاقة، إضافة الى أن أصحاب العلم، الغربيين، هم الذين يكتشفون الأسئلة الكبرى والصغرى المتصلة بوجودهم الاجتماعي والطبيعي، كما يسعون إلى اكتشاف الأجوبة عليها، دونما وجود حواجز أو محرمات ومحظورات. وبحسب ذلك، فإن من يحاول تجاوز حدوده المرسومة مُسبقاً، إنما هو كائن مخادع لنفسه وللآخرين، ومن ثم يجب أن يُعاد تكوينه وتربيته.
في ضوء ذلك يغدو تصنيف ماكس فيبر للشعوب صحيحاً، فهؤلاء هم إما شعوب أصيلة وإما شعوب غير أصيلة، وكما هو واضح وفق قول فيبر، فإن “أصلية” الزمرة الأولى من الشعوب تتأتى من أنها – في مجموعها – تمتلك طاقات عقلية وحضارية “في جِبِلتها”، تتيح لها أن تتطور وتُحدث تحولا أو آخر على صعيد حياتها. ومن ثم هي تعيش الحداثة التي تتجلى في حالات النهضة والإصلاح والثورة والتغيير عموماً وإجمالا. ومثل هذه الشعوب هي الجديرة بأن تعيش ما ينجلي عن الحداثة بعجرها وبجرها، وخصوصاً ما انجلى عنها في هذه المرحلة العولمية، وهو “ما بعد الحداثة”. وهذا يعني أن شعوب الحداثة تمتلك هي كذلك أخطاء، ولكن من النمط الجدير هو بها، أي أخطاء نابعة من العقل والحضارة، في حين أن الشعوب الأخرى، شعوب الشرق أو شعوب “الجنوب”، وفق الدلالات الجديدة الغربية، والعولمية بخاصة، تعيش أخطاءها المتحدرة من مرجعية مغلقة، هي مرجعية “الثبات على نفسها”، لذلك فهي نابعة من “ما قبل العقل والحضارة”. في مجال ذلك يبرز الغرب بصفته عالم التقدم والحرية، الذي من حقه التاريخي والإنساني أن يضع الشرق الأوسط على الطريق الصحيح “عبر” إلحاقه به. وهنا يغدو (الاستعمار) نمطاً من المساعدة العالمية المطلوبة لتلك الشعوب المذكورة، خصوصاً حين تصر هذه الأخيرة على السير قدماً في الكفاح من أجل استقلالها، وفي سبيل إنجاز مشاريعها الخاصة في النهوض والتقدم والتنوير، ومن هنا فإن هذه الشعوب ترى في شرقها وفي انتمائها لـ “الجنوب” حالة من الحُطام، ولكن الحُطام المحكوم بشروط تاريخية جعلت منه ما هو عليه. وهي – من ثم تدرك أن ما يُلصق بها من “عدم قابلية للتطور” ومن أنها مصابة بمرض “خداع الذات” إنما هما مظهران من تخلف تاريخي مأزوم ومن تخليف تاريخي قَصْري أسهم في إنتاجه الغرب الاستعماري ذاته.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى