مَنْ يصنع التاريخ العربي؟
طيب تيزيني
يُدخلنا السؤال الذي يتصدر هذه المقالة, في حيز القضايا الإشكالية. فهو سؤال يبدو انه يتأسس على “مُفارقة” ذات طابع منطقي وتاريخي. انه يتحدر من الحقل العربي, ويتجه كذلك نحو الحقل العربي? هكذا الامر كما يُفصح عن نفسه اولياً. لكن فحصا عينيا له ولمدى احتمالاته يمكن ان يخربط تلك العلاقة الناظمة بين الحدّيْن المذكورين, العربي والعربي. فها هنا نتبين ان من يصنع التاريخ المذكور ليسوا هم العرب, بل قوم او اقوام اخرى, واذا ضبطنا هذه الحالة بالاعتبار السياسي الرائج, وجدنا انها قائمة على نمط من التبعية.
في ذلك المنعطف من المسألة, يُفصح عن نفسه احتمالان اثنان للاجابة عن السؤال المقدم هنا. أما اولهما فيتمثل في القول المعروف بأن من يصنع التاريخ- والعربي من ضمنه- هم الاقوياء, لكن الاحتمال الثاني ينطلق من مرجعية اخرى تتجلى في ان صُنّاع التاريخ المذكور هم الاقوياء حقا ولكن من خارج النسق الوطني او القومي, وبصيغة اخرى محددة, ان صُنّاع التاريخ المعنيين ليسوا هم العرب, وانما هم اولئك الذين اعادوا بناءه ومنحاه باتجاه مصالحهم التاريخية الكبرى, ها هنا ينبغي الانطلاق من نموذجنا الذي حددنا, نعني بنرمان.
كان بنرمان ذاك رئيس وزراء بريطانيا قبل مئة عام ونيّف (1907). وكان ذا حسّ مرهف بمصالح الامبراطورية البريطانية الهرمة, بقدر ما كان يرى في العلوم الاجتماعية والسياسية اداة مهمة للبحث, خصوصا في ظاهرات التصدع والافول, ومن ثم, كان يؤمن بدور هذه العلوم وغيرها في مواجهة العواصف. ففي العام المذكور جمع علماء بارزين بهدف التداول في ذلك عبر الاجابة عن مثل التساؤل فيما هو ضروري للانجاز بغية ايقاف التفكك الوشيك للامبراطورية. وقد جاء ذلك كما يلي: “ان الامبراطوريات تتكون وتتسع وتقوى ثم تستقر الى حدّ ما ثم تزول” .. فهل لديكم اسباب ووسائل يمكن ان تحول دون سقوط الاستعمار الاوروبي .. وقد اصبحت اوروبا قارة قديمة استنفدت مواردها وشاخت معالمها, بينما لا يزال العالم الآخر في صرح شبابه يتطلع الى مزيد من العمل والتنظيم والرفاهية. هذه هي مهمتكم أيها السادة وعلى نجاحها يتوقف رخاؤنا وسيطرتنا.
جاء جواب العلماء, الذي نُشر بعد سبعة اعوام, على النحو التالي: “الإبقاء على المنطقة العربية في آسيا وافريقيا في حال التأخر والتفكك والتناحر والعمل على فصل الجزء الافريقي من هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي” ويتم ذلك عبر اقامة “حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري …” اما كيف, فيتم من خلال زرع كيان قوي وغريب …الخ وسيتضح بعد عشرة اعوام ما هذا “الكيان”, حيث يظهر وعد بلفور وغيره.
في ضوء ذلك كله, يتضح ان تاريخ فلسطين الحديثة صنعه رواد الاستعمار البريطاني خصوصا والعربي عموما, اضافة الى ان هؤلاء هم الذين كتبوا تاريخه. ومن ثم, فان ما أتى لاحقا كان بمثابة استمرار لذلك الإرث الثقيل, اما الإنزياحات التي حصلت حيال الخط الاساسي المهيمن فلم تتمكن من قلب الطاولة بكيفية حاسمة. فظل الامر في أيدي الآخر. وما نعيشه الآن من انكسارات كبرى على صعيد الوطن عامة وفلسطين بالخصوص, ليس آتيا من الجدار. ان غياب بل تغييب المشروع العربي الديمقراطي انما هو “كلمة السرّ”0
مَنْ يصنع التاريخ العربي? بنرمان نموذجا
العرب اليوم