الطائفية وضياع الانتماء والأوطان
وهيب أيوب
كُلما اشتد التأكيد على الانتماء الطائفي والتعصّب الديني والمذهبي في أي مُجتمعٍ من المجتمعات، كُلما ابتعد حُكماً عن انتمائه الأرحب والأوسع، سواء كان الانتماء الوطني أو القومي وحتى الإنساني. وهذه بالتأكيد عملية ارتدادٍ حضاري وإنساني وفشل ٌ ذريع في إنجاز الدولة المدنية والمجتمع الحر الذي يحكمه القانون، الذي يحمي جميع مواطنيه دون التمييز في العرق واللون والدين. ولتبقى مسألة الدين والإيمان بين الفرد وربّه. وكل الدول والمجتمعات التي فشلت بتحقيق تلك المعادلة، مؤهّلة لصراعات طائفية دموية تأخذ فيها الجميع إلى كارثة مُحقّقة، وتمزيق مُجتمعاتها شرّ تمزيق.
تسعى إسرائيل على التأكيد كونها دولة يهودية. وهي تحاول استصدار قوانين في “الكنيست” لتثبيت ذلك، ومن ثم إلزام الآخرين الاعتراف بها على هذا الأساس، ومن ضمنهم طبعاً عرب الـ 48 المتنوّعين طائفياً، وعليه فإن ازدياد شعورهم – الموجود أصلاً – كغرباء في وطنهم الأصلي يدفع البعض منهم إلى التشبّث بانتمائهم الطائفي والمذهبي، متولداً لديهم شعور أنه الملاذ الآمن والوحيد لحماية أنفسهم والمحافظة على وجودهم وكينونتهم. مما يُحفّز تلك الطوائف على التعبئة الدائمة لتاريخها وتراثها الطائفي، وهو بالتأكيد مُتصادمٌ مع الآخر من الطوائف المختلفة، وهذا بالتأكيد نتيجته كراهية الآخر ونشوب نزاعات وصدامات كالتي رأيناها في الآونة الأخيرة بين الدروز والمسيحيين من عرب الـ 48. وإذا لم تُتَدارك الأمور بانتهاج ثقافة الانتماء الأوسع والأرحب، فالنتائج المستقبلية قد تكون أخطر وأشدّ إيلاماً.
ولا تكفي هنا الخطابات والمحاضرات من فوق المنابر، بل بقناعة حقيقية بوحدة الانتماء والمصير وانتهاج هذه الثقافة داخل البيوت وفي إطار العائلة الواحدة، حتى لا يصبح الأمر مجرّد نفاق متبادل وحسب. وهنا تُصبح المسؤولية مُضاعفة على زعماء الطوائف ورجال الدين والمتنفّذين فيها إضافة للدور الأساسي للمثقفين على اختلافهم، ليساهموا بفاعلية في مسألة التوعية داخل طوائفهم ونبذ التعصّب الطائفي فعلاً، لا قولاً ومسايرة فقط. وإشاعة مبدأ التسامح وتعزيز الانتماء الأوسع المشترك. والذي من دونه سيخسر الجميع.
وقد حظيت إسرائيل بما لم تحلُم به سابقاً، إذ بات العالم العربي والإسلامي من حولها يدفع بهذا الاتجاه بأكثر مما تدفع. في لبنان والعراق وأفغانستان والصومال وإيران ومصر والسودان واليمن…. والحبل على الجرّار. وها هي حركة “حماس” إلى جانبها تدعو لتطبيق الشريعة الإسلامية وتقوم بفرض الحجاب على النساء قسراً. باختصار فإن حماس تدعو للدولة الدينية الإسلامية وتطبيق الشريعة، وهذا أفضل ما يدعّم رؤية الإسرائيليين بالتأكيد على الدولة اليهودية………. إنها خِدمة صافية للدولة العبرية.
في العقدين المنصرمين أخذ عدد المسيحيين في غزّة والضفة والقدس وبيت لحم بالتناقص والهجرة بشكل لم يسبق له مثيل، خوفاً من أبناء وطنهم “الإسلاميين” ومن نشوء دولة إسلامية. إذاً بات التهجير من الوطن لبعض أبنائه يأتي من طرفين الإسرائيلي و”الإسلامي”….فأين المفرّ….؟ وفي العراق ولبنان والسودان ومصر وغيرها يحدث ذات الشيء. ونحن عندما نُدين ادّعاء “اليهود” كونهم ( شعب الله المختار) ننسى أننا كمسلمين ندّعي بأننا (خيرُ أُمة أُخرجت للناس) فكيف نُدين الشيء ونأتي بمثله؟! وعندما نُدين دعوة الإسرائيليين لجعل “دولتهم” الدولة اليهودية، فكيف لا نُدين دعوة الحركات الإسلامية الأصولية للدولة الإسلامية؟!
ما تفعله الحركات الإسلامية اليوم في عالمنا العربي، في دعوتها للدولة الدينية القائمة على تطبيق الشريعة واعتبار باقي الطوائف أهل ذمّة والبعض الآخر كفّار، هي بشكلٍ مباشر شرعنة الدعوة الإسرائيلية وتغطيتها أخلاقياً على الصعيد العالمي والدولي.
العرب لا يتعلّمون من التاريخ ولا يتّعظون! لقد اكتوت أوروبا على مدى ألف عام – سُمّيت بالعصور الوسطى الظلامية- بنار الطائفية والتعصّب الجاهل الأعمى. وعاث الكاثوليك والبروتستانت تقتيلاً وذبحاً بعضهم ببعض حتى ارتوت أرض القارة العجوز بدمائهم. وفي ما سُميّ بحرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، من عام1618 حتى العام 1648 ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر. ففقد التشيك ثلث سكّانهم وفقدت ألمانيا لوحدها في هذه الحرب 7.5 مليون من مواطنيها أي ثلث سكّانها أيضاً حينذاك ، إضافة لتدمير 2000 قلعة و 18000 قرية و 1500 مدينة، وأتوا على الأخضر واليابس ولم يبقَ ما يأكلوه. ولم تستفِق أوروبا من تعصّبها وهمجيتها إلا بعد عصر التنوير والتسامح الذي خطّه عُقلاؤها وفلاسفتها ومفكروها وأدباؤها وفنانوها، الذين دفع بعضهم حياته ثمناً، حتى وصلوا إلى ما هُم عليه الآن من دولة مدنية يسودها القانون والانتماء الوطني العام، دون التمييز بين الطوائف والأديان.
فهل من عُقلاء ومفكرين عند العرب والمسلمين…؟؟
خاص – صفحات سورية –