صفحات مختارةعبدالله تركماني

معوّقات السلام العربي – الإسرائيلي وآفاقه (*)

null
” القديم يحتضر والجديد ولادته عسيرة ”
(أنطونيو غرامشي)
الدكتور عبدالله تركماني
كثيرة هي الجهود ومحاولات الوساطة التي قامت بها أطراف إقليمية ودولية من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، ولا مبالغة في القول إنّ هذا الصراع قد شهد فيضاناً في الخطط والمبادرات ومشروعات التسوية السياسية‏,‏ كما تم توقيع العديد من الاتفاقات وخطط التسوية‏,‏ ورغم كل ذلك مازالت المنطقة بعيدة عن التسوية السياسية الحقيقية التي يمكن أن تقود إلى سلام عادل وشامل ودائم.‏
فبعد مضي ما يقرب من ثمانية عشر عاماً على مسيرة مدريد للتسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي يبدو أنّ العملية قد وصلت إلى مأزق خطير ومرحلة حرجة نتيجة لسياسات الحكومات الإسرائيلية المتطرفة، التي أرادت أن تترجم ” توازن القوى ” إلى ” أمر واقع “، في حين أنّ سلام ” توازن المصالح ” هو الذي يوفر الاقتناع لدى الشعوب للمحافظة عليه، أما سلام ” توازن القوى ” فهو مؤقت يحفّز الأجيال القادمة على تغييره لتصحيح ما فرطت فيه الأجيال السابقة نتيجة لعوامل ضاغطة غير مواتية.
وفي الواقع، لم يكن السلام فرضاً نظرياً‏,‏ ولا كان بالنسبة للأطراف العربية والإسرائيلية والدولية حلماً‏,‏ لكنه كان عملية واقعية‏,‏ بُنيت على لقاءات واتفاقات وتعاقدات‏,‏ عبر اجتماعات ومفاوضات‏,‏ بوجود الولايات المتحدة الأمريكية وسيطاً وشريكاً وضامناً للالتزام بأسسها ومرجعياتها‏,‏ وقطعت العملية شوطاً,‏ كان في انتظاره الشوط النهائي لتستكمل وتختتم‏.‏
إنّ السلام الشامل والعادل والدائم له شروط تحققه التي تنتظم في مستويين: أولهما، المستوى الداخلي، ضمن حدود الدول القومية، ويستلزم جملة من الشروط تحقق مركباته في جملة قوانين تقر بتمتع الأفراد بحقوقهم غير المنقوصة وبالتعددية والديموقراطية ضمن مجال المجتمع المدني. وثانيهما، المستوى العالمي، الذي يستلزم مؤسسات عالمية تشرعن له وفق مصالح وحقوق مختلف دول العالم وشعوبه، وتسهر على تحقيقه، مما يولد الشعور بالانتماء إلى الهوية العالمية والقانون الدولي العام. وهذا يرجعنا إلى دعوة الفيلسوف الألماني ” كانط ” لمشروع سلام دائم في القرن التاسع عشر، حيث بنى مشروعه للسلام الدائم على مفهوم ثلاثي للحقوق: الحق المدني، وحق الشعوب، والحق العالمي، وربط ما بين السلام المدني والسلام العالمي.
إنّ نظرية السلام الدائم، أو السلام الديموقراطي، ناقصة بشكل خطير عندما تطبق كإطار لتوجيهات السياسة, في الحالات التي يكون فيها الصراع مشتعلاً. وإنّ الشرق الأوسط هو إحدى هذه الحالات حيث لا يمكن تحقيق سلام مستقر من دون حل عادل وشامل للصراع العربي – الفلسطيني – الإسرائيلي.
وفي الواقع ينطوي مشهد الصراع العربي- الإسرائيلي على مفارقات مركبة ومعقدة. فمن جهة، حالة شعبية فلسطينية تتميز بوضوح الهدف: تحقيق الحرية والاستقلال. ومن جهة ثانية، مزاج شعبي عربي محتقن ومُحبَط ومتوتر ومتحفز. ومن جهة ثالثة، سلوك عربي رسمي متهافت على أي حل. ومن جهة رابعة، عنف عسكري إسرائيلي متزايد، مع ارتباك سياسي واضح. ومن جهة خامسة، مجتمع دولي، في مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، مستنكف عن التعاطي الجدي مع هذا المشهد، خاصة بعد فشل إدارة الرئيس أوباما في استمرار بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
إنّ ما يجري على أرض فلسطين، متزامناً مع حماسة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتكرار الحديث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، لا يعني أبداً إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية (كما يتوهم البعض) بل تصفية نهائية لهذه القضية، وفقاً للخرائط السياسية الجديدة، التي يبدو أنها ستحكم المنطقة وتتحكم بها، لنصف قرن قادم، كما تحكم التأسيس الأول لإسرائيل بمصائر المنطقة طيلة نصف القرن المنصرم.
فما يبدو – حالياً – هو أنّ المجتمعين العربي والإسرائيلي يتباعدان أكثر فأكثر على المستويين النفسي والمادي، فالذي نشهده اليوم هو ظاهرة رفض عنيف ومتبادل، خاصة بعد مجزرة غزة والتعثر الأمريكي في فرض مداخل حقيقية لتسوية مشرفة.
لقد حان الوقت لبذل جهد رئيسي إزاء عملية السلام العربي – الإسرائيلي، إذ أنّ العمل الأساسي الذي من المقرر أن يرتكز عليه هذا الجهد، يجب أن يبدأ الآن، إلا أنّ العقبة الأساسية هي جوهر القضية وليس إجراءات العملية في حد ذاتها.
ولكن، قبل التوجه نحو جوهر عملية السلام العربي – الإسرائيلي لا بد من التساؤل عن المعوّقات التي اعترضت إمكانية تحقيق هذا السلام حتى الآن ؟
إذ يمكن تحديد هذه المعوّقات في ثلاث مجموعات هي: معوّقات عامة، ودور الطرفين العربي والإسرائيلي إضافة إلى دور المجتمع الدولي، والمعوّقات الراهنة. كما يمكن استشراف الآفاق على المسارين الفلسطيني – الإسرائيلي والسوري – الإسرائيلي على ضوء تجربة المفاوضات السابقة والمعطيات الراهنة.
معوّقات عامة للسلام العربي – الإسرائيلي
تعود صعوبة السلام العربي – الإسرائيلي إلى عدة معوّقات عامة من أهمها: طبيعة الصراع العربي – الإسرائيلي، والثقافة السياسية السائدة لدى الطرفين العربي والإسرائيلي، وهيكل المفاوضات التي تمت بين الأطراف العربية وإسرائيل منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر/تشرين الأول 1991.
(1) – طبيعة الصراع العربي – الإسرائيلي
يبدو أنّ تعقيد وصعوبة التسوية السياسية للصراع العربي ـ الإسرائيلي تأتي من طبيعة هذا الصراع الذي يندرج ضمن ما يسمى بـ ” الصراعات الاجتماعية الممتدة “‏‏ وهي نوعية من الصراعات تسودها لغة صراع الوجود لا الحدود، وتضرب هذه الصراعات بجذورها في عمق التركيبة السكانية‏,‏ وتتبلور صور للعداء بين البشر الذين يبحثون عن أسس للانقسام والعداء‏,‏ وعادة ما تتم العودة فيها إلى عوامل الانقسام الأولى وفي مقدمتها العرق والدين‏.‏ وأنّ تسوية هذه النوعية من الصراعات تتطلب وقتاً أطول وتتم على مراحل زمنية طويلة‏.‏
وبالفعل يعد الصراع العربي – الإسرائيلي‏,‏ خاصة على المسار الفلسطيني، صراعاً اجتماعياً ممتدا‏ً,‏ فالشعب الفلسطيني وهو صاحب الأرض‏,‏ تم طرده وتشريده‏,‏ ورأى الوافد من الخارج أنّ فلسطين ” أرض بلا شعب‏ “,‏ وجب منحها لـ ” شعب بلا أرض‏ “.‏
ومن خلال دراسة واسعة لنمط التسويات السياسية التي تمت في بعض الحالات المشابهة (البوسنة وأيرلندا وكوسفو‏),‏ تم التوصل إلى العوامل الرئيسية المحددة لتسوية هذه الصراعات والتي يمكن اعتبارها بمثابة شروط مسبقة لتسوية هذا النمط من الصراعات وتتمثل هذه العوامل في أربعة هي‏:‏
1‏ ـ إقرار طرفي الصراع باستحالة الحل عن طريق القوة العسكرية.‏
2 ـ توافر القيادات السياسية المستعدة للتسوية السياسية لدى الأطراف المتصارعة‏.‏
3 ـ غياب الانحياز من جانب القوى الدولية لطرف من الأطراف‏,‏ أو توزيع الانحيازات الدولية على النحو الذي يحيّدها.‏
4 ـ توافر الرغبة لدى قوى دولية فاعلة في التوصل إلى تسوية سياسية لهذا الصراع‏.‏
وبالعودة إلى الصراع العربي – الإسرائيلي‏,‏ نجده يعاني من غياب العناصر اللازمة لاستكمال تسوية سياسية حقيقية تقود إلى سلام شامل وعادل ودائم‏,‏ ويشمل الغياب معظم العناصر المطلوب توافرها على النحو التالي‏:‏
1 ـ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بعد معاهدتي السلام المصرية – الإسرائيلية والأردنية – الإسرائيلية، مازالت تؤمن بالقوة العسكرية لحسم الصراع على المسارين  الفلسطيني والسوري‏.‏
2 – لم تتوافر قيادات سياسية إسرائيلية مؤمنة بالتسوية السياسية للصراع‏,‏ وربما يكون رابين آخر من كان لديه استعداد لتسوية سياسية ما على النحو الذي جسده اتفاق أوسلو‏ على المسار الفلسطيني و” وديعة رابين ” على المسار السوري.
3 ـ الانحياز الأمريكي لإسرائيل‏,‏ ولا وجود لطرف معادل يوازن هذا الانحياز أو يحد من تأثيراته‏.‏
4 ـ غياب الرغبة لدى الإدارة الأمريكية في فرض تسوية سياسية عادلة بإمكانها أن تتحول إلى سلام حقيقي دائم.‏
ولعل اكتساب الصراع العربي – الإسرائيلي طابعاً دينياً قد صعّب إمكانية الوصول إلى ” الحل الوسط التاريخي “. إنّ الرداء السياسي العلماني الذي تلبسه الحركة الصهيونية الرسمية، يبدو قناعاً تتخفى وراءه رؤية دينية تصر إسرائيل من خلالها على تحديد مواقفها من الصراع استناداً إلى اعتبارات تمليها عقائد دينية بأكثر مما تمليها اعتبارات سياسية. ولأنّ المعتقدات الدينية لا تقبل بطبيعتها حلولاً وسطاً، فمن الطبيعي أن تصبح الصراعات المبنية على معتقدات من هذا النوع مستعصية على الحل وعلى التسوية. فأية تسوية قابلة للحياة هي بطبيعتها حل وسط بين حقوق ومصالح متعارضة، وما لم تبدِ أطراف الصراع جميعها استعداداً حقيقياً ومتكافئاً لتفهم حقوق الآخرين ومصالحهم، والقبول بصيغة تحقق التوازن بين حقوق ومصالح الجميع، يصبح إمكان التوصل إلى أرضية مشتركة، أي صالحة لبناء اتفاق نهائي فوقها، مسألة بالغة الصعوبة. وحين يكون هناك طرف يرى الصراع من منظور سياسي، وهو منظور براغماتي – مرن بطبيعته، وآخر يراه من منظور ديني ( الإصرار الإسرائيلي على يهودية الدولة وبقاء القدس موحدة عاصمة لإسرائيل )، وهو منظور عقائدي – جامد بطبيعته، يصبح من الصعب جداً التقريب بين مواقف الطرفين للاتفاق على مرجعية واضحة للأسس التي يقوم عليها الحل.
ومن المؤكد أنه إذا أصرت إسرائيل على رؤيتها هذه فلن يكون هناك سلام شامل وعادل ودائم. ففي مواجهة رؤية لحقوق يهودية مستمدة من التوراة، لا بد أن تبرز رؤية مقابلة لحقوق إسلامية تعتبر فلسطين كلها أرض وقف وجزء من دار الإسلام الذي لا يجوز لأحد التفريط في شبر واحد منه.
(2) – الثقافة السياسية
إنّ عدم القدرة على تجاوز الإرث التاريخي سوف يكبل قدرة الساسة وصناع القرار علي إبرام اتفاقات للتسوية السياسية‏,‏ ويمنع بالتأكيد تحول هذه الاتفاقات إلى معاهدات سلام تتغلغل في نفوس الشعوب‏,‏ ومن ثم تبقى الاتفاقات بين الحكومات وتحفظ للشعوب قدرتها علي استدعاء الذاكرة التاريخية‏. ‏
إنّ أخطر تطورات القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي في العقود الماضية وأهمها تنامي أهمية البعد الديني، وقد كانت سنة 1967، وما حملته من انتصار إسرائيلي ساحق على العرب، بمثابة معلم في هذا المنظور. فقبل عام 1967 كانت الصهيونية حركة تغلب عليها العلمانية، وقد تآكلت هذه العلمانية منذ تلك السنة، فللمرة الأولى وقع ” كامل أرض إسرائيل “، وفي جملتها القدس بكاملها و” جبل الهيكل “، تحت السيطرة العسكرية اليهودية الكاملة المنتصرة. وقد اعتبر ذلك توكيداً لـ ” الرضى الإلهي “، ودليلاً على صحة كون الشعب اليهودي ” شعباً مختاراً “، وأفضى إلى نشوء حركة الاستيطان القومية الدينية ” غوش إيمونيم ” أو ” كتلة المؤمنين “، المصممة على بناء الهيكل واستيطان كامل ” أرض الميعاد ” إلى الأبد، إتماماً للعهد المقطوع مع يهوه (الله).
وفي الجانب الآخر، يبدو أنّ العرب مغرومين بلعبة التطابق، فالتطابق الذي حصل بين المسألة الفلسطينية وبين الإسلام كظاهرة عالمية يبدو كأنه سدرة المنتهى للعالم العربي ولقسم من النخب الفلسطينية، حتى عندما صار هذا التطابق مهلكاً بسبب من التحولات في العالم الإسلامي ونزوع حركات فيه إلى المواجهة العنيفة مع الغرب ورموزه، فلم نرَ أي جهد يذكر لفض هذا التطابق وتأكيد التباين والاختلاف بين المسألة الفلسطينية، بوصفها قضية شعب يسعى إلى الحرية واستعادة جزء من وطنه التاريخي، وبين الإسلام الجهادي الذي انزلقت أوساط فيه إلى العنف الصريح تحت مسميات وأغراض لا علاقة لها بالمسألة الفلسطينية التي تم تجييرها على غير إرادة منها. تضامن العالم الإسلامي مع النضال الفلسطيني شيء مستحب وضروري، لكنّ المسألة الفلسطينية ليست قضية إسلامية حصراً.
وهناك تطابق حصل في الجهة الأخرى من اللعبة، فقد بدا العرب والفلسطينيون مستعدين للتعاون مع كل جهة تقف في موقع المعاداة لإسرائيل. وهذا سهّل تصنيفنا في كثير من المناسبات على أننا ” معادون للسامية “، منكرون لحصول ” المحرقة “. وهكذا يتم زجنا في خانة التاريخ البشري الأسود وفي سياق تاريخي كان اليهود فيه ضحايا بامتياز!
إذ يعتقد البعض في الساحتين الفلسطينية والعربية أنّ كل ما نأتي به في إطار مقاومة إسرائيل مشروع لأننا ضحيتها بامتياز، وهذا الاعتقاد يفسر تقادم مفهومنا للمقاومة في سبيل التحرر، بل أنّ هذه القيمة – المقاومة سعيا إلى الحرية – تحولت سريعاً إلى تبرير لكثير من الأفعال البائسة التي راحت ضحيتها قيم لا تقل أهمية، مثل: حياة الإنسان الذي نقاوم لأجله ولأجل حفظ كرامته. كثير من الموت في الطرف الفلسطيني كان عبثياً ولا داعي له، لكن تم تزيينه بصنوف الإنشاءات اللغوية المأخوذة مرة من الموروث التراثي ومرة من الموروث الديني حتى صار موتاً جميلاً ومعقولاً يمكن تصنيفه على أنه موت مستحب من دون اكتراث إلى السؤال الكبير حول الاحتمالات الأكيدة لمنعه !
لقد بدا بعض الأخوة متحمسين لدخول مباني التصورات الإسرائيلية أو الخانات التي تكرسها المؤسسة الإسرائيلية لنا في الذهنية العامة بمقولات وفرضيات وقعنا فريسة في شباكها غير مدركين أنّ قول شمشون الجبار، بعد قص شعره ووقوعه في الأسر، لم يعد نافذاً في زمن ثورة الاتصالات وإنتاج ” الحقيقة ” من خلال الشاشات والمرئيات، فتصير قابلة كأي شيء للتصرف خاضعة بالكامل لعلاقات القوة. فلنعترف، ما دامت حال ” الحقيقة ” آلت إلى هذا المآل، أنه لم يعد في هذه الدنيا قضايا مفهومة ضمناً أو مفروغ منها أو بديهية.
وفي الواقع، تبدو إسرائيل اليوم، مجتمعاً ونخباً سياسية، أبعد عن السلام من أي وقت مضى منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993. إذ أنّ الأوساط الصهيونية الحاكمة تعيش منذ سنوات حالة من التخبط السياسي، نجمت عن المأزق الوجودي الذي تواجهه إسرائيل، والذي برز للعيان بوضوح خلال الاحتفالات التي جرت في ربيع العام 1998 بمناسبة الذكرى الخمسين لقيام إسرائيل: وهو مأزق يعود بجذوره التاريخية إلى الهوة الواسعة التي برزت بين الآمال التي عقدتها الحركة الصهيونية على ” دولة اليهود ” وبين ما أنجزته هذه الدولة على أرض الواقع. ففي نظر رواد الصهيونية الأوائل كان على إسرائيل أن تتحول إلى موقع يتجمع فيه كل يهود الشتات ويعيشون فيه في أمن واستقرار بالاعتماد على قدراتهم الذاتية، كما كان عليها أن تكون مركزاً يعزز وحدة ” الشعب اليهودي ” ويحافظ على ” هويته المتميزة “، ويحمل رسالة ” إنسانية وأخلاقية ” للعالم بأسره.
غير أنّ إسرائيل أدركت، في الذكرى الخمسين لقيامها، بأنّ هذه الأهداف لم تتحقق. فدولة اليهود التي ظهرت إلى حيز الوجود أخفقت في العثور على ” الأمة ” التي كانت تنتظرها، فلم تنجح الحركة الصهيونية في تجميع أكثر من 37 % من مجموع عدد اليهود في العالم في إسرائيل. وبرزت، في المقابل، ظاهرة خطيرة تتمثل في تزايد عدد اليهود الذين يتركون إسرائيل ويستقرون بصورة نهائية خارجها.
وإحدى مفارقات التاريخ أنّ اليهود، الذين ساهموا بقسط يفوق حجمهم في الكفاح من أجل حقوق الإنسان العالمية والحريات المدنية، ونظروا إلى عودة اليهود القومية إلى فلسطين بطريقة تنسجم مع هذه القيم، أيدوا سياسات حكومات إسرائيلية يمينية عنصرية. خاصة وأنّ الهاجس الديمغرافي يسيطر على أغلبية النخبة الإسرائيلية، إذ توقع خبير إسرائيلي أن يتفوق الفلسطينيون عددياً على اليهود في فلسطين التاريخية في العام 2020.
وفي المقابل، يبدو أنّ انتقاد إسرائيل بدأ يشق طريقه في أوساط النخب اليهودية في العالم، ولاسيما في أوروبا وأمريكا، فهذه النخب باتت تتبرأ من سياسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحملها مسؤولية ازدياد نعرة العداء لليهود في العالم، رافضة في ذلك ادعاءات إسرائيل المتعلقة بالمساواة بين أي نقد لها وبين ” اللاسامية “، معتبرة نقد إسرائيل شرعيا ًوينسجم مع نقد أي اتجاه عنصري. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نفوذ الحاخامية اليهودية الإصلاحية والمحافظة، ثمة تبرم من سياسات إسرائيل.
وليست ثمة مبالغة في هذه المواقف، ففي إسرائيل ذاتها مواقف مشابهة:  فإذا تركنا الاتجاهات اليسارية المؤيدة للسلام مع الفلسطينيين، فثمة أوساط عديدة باتت تبدي ميلاً للتبرم من السياسات الإسرائيلية، التي تنتهك أية معايير إنسانية وتفتقد لأي أفق سياسي.  ومن المهم التعرف على أطروحات المدرسة التأريخية الإسرائيلية ” ما بعد الصهيونية ” التي يذهب روادها في كتاباتهم إلى أنّ على إسرائيل أن تختار ما بين حكم قائم على العرق والنبوءة الأسطورية الدينية ” الماشيحانية ” والديمقراطية الليبرالية ما بعد الصهيونية. ويرى رواد هذه الدعوة أنّ الصهيونية يمكن أن تتحول من مخطط لدولة قومية متجانسة عرقياً إلى مشروع أكثر تنوعاً مدني – ليبرالي – ديمقراطي إذا ما استطاعت تغيّرات العولمة تقويض العلاقة بين الإقليم والجماعة والانتساب لهما.
وهكذا، يمكن تفسير الإحجام الإسرائيلي عن الاستجابة لاستحقاقات عملية السلام بانقسام المجتمع الإسرائيلي على نفسه في هذا الموضوع. فعلى رغم الإجماع الإسرائيلي على أمن إسرائيل وهويتها اليهودية ورفض حق العودة للفلسطينيين والتمسك بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل والعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ ثمة طيفاً واسعاً من الخلافات في شأن مساحة الأراضي التي ينبغي الانسحاب منها وقضايا الحدود والمستوطنات والدولة الفلسطينية والتعاون الإقليمي.
ومن كل ذلك يتبين أنّ عملية السلام العربي – الإسرائيلي ليست سهلةً أو مسلماً بها، فثمة إشكاليات عدة تعاني منها إسرائيل وتجعلها حذرة وأكثر ميلاً إلى الإحجام عنها، وأهم هذه الإشكاليات تكمن في الجوانب الآتية:
1 – إنّ الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس صراعاً بين الشعب الفلسطيني والدولة الإسرائيلية المغتصبة، فحسب، وإنما هو أيضاً صراع مع المجتمع الذي ينتمي لهذه الدولة، ويتماهى مع إيديولوجيتها وسياساتها. أي أنه لا يقتصر على الجوانب العسكرية أو الأراضي، وإنما يشمل الرموز والرواية التاريخية والمعتقدات الدينية، وهذا الصراع في الإدراك الإسرائيلي يبدو كأنه صراع على الأرض ذاتها، وعلى الوجود (يختلف عن الانسحاب من سيناء أو الجولان أو جنوب لبنان).
2 – الترابط بين الاستحقاقات الداخلية والخارجية، فالتسوية مع الفلسطينيين تتطلب من إسرائيل تعريف حدودها وهويتها ودورها، في المنطقة، وهو ما يفسر التعقيدات المتعلقة بهذه العملية. فالانسحاب من الأراضي الفلسطينية يقوّض أسطورة ” أرض الميعاد ” والاعتراف بالشعب الفلسطيني يقوّض أسطورة ” أرض بلا شعب “.
3 – الطابع التاريخي والسياسي الملتبس لإسرائيل، فهذه الدولة لم تنشأ نتيجة التطور التاريخي الطبيعي للتجمع اليهودي في فلسطين، وإنما بفعل عمليات الهجرة الاستيطانية – الإحلالية، وعلى رغم إرادة أهل الأرض الأصليين، وبفضل القوة والهيمنة والعون الخارجي. وبسبب ذلك فإنّ إسرائيل، على خلاف الدول العادية، تتهرب من إيجاد أجوبة حاسمة على الأسئلة المطروحة عليها.
4 – طوال المرحلة الماضية اتضح أنّ قوى السلام الإسرائيلية غير ناضجة تماما لعملية التسوية، وأنّ حزب العمل تبنى التسوية للتكيّف مع المتغيّرات الدولية والإقليمية، ومع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة لانتزاع أكبر قدر من المكاسب والمكافآت، من العرب ومن الولايات المتحدة، في مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة، على شكل قبول العرب برواية إسرائيل للصراع في المنطقة والدخول معها في علاقات وترتيبات أمنية وسياسية واقتصادية وأمنية ثنائية وإقليمية، وتعزيز العلاقة الإسرائيلية – الأمريكية. وهذا التيار ينطلق من دعمه للتسوية من واقع الحفاظ على إسرائيل وهويتها اليهودية وصورتها الديموقراطية، وهو يرى بأنّ الانسحاب من الأراضي المحتلة يجنب إسرائيل المخاطر الديموغرافية الناجمة عن وجود ثلاثة ملايين عربي في الضفة والقطاع، ويحافظ على ” نقاوة ” الدولة اليهودية ويخلصها من الأعباء السياسية والأمنية والأخلاقية الناجمة عن الاحتلال. وفضلا عن هذا الاتجاه، وبسبب من تطورات العولمة الاقتصادية والتغير في عناصر القوة لدى الدول، لم يعد يرى أنّ مساحة الدولة مهمة لاستقرار إسرائيل وازدهارها، بمقدار ما بات يرى ذلك في ميدان التطور الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي، خصوصا بعدما ضمنت الولايات المتحدة الأمريكية أمن إسرائيل وتفوقها في المنطقة.
ومن المؤكد أنّ إشكاليات الثقافة السياسية لا تقتصر على الإسرائيليين، فحسب، فلهذه الثقافة إشكالياتها لدى الفلسطينيين، أيضا. وتتمثل هذه الإشكاليات، كما حددها الباحث الفلسطيني ماجد كيالي، في النواحي التالية:
1 ـ أنّ انخراط الفلسطينيين في عملية التسوية ناشئ: أولاً، من الصعوبات والتعقيدات المحيطة بهم: الفجوة في موازين القوى وفي المعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية لهم بالقياس لإسرائيل. وثانياً، من الإحباطات التاريخية التي مروا بها في تجربتهم الوطنية. وثالثاً، من المعاناة اليومية التي يعيشونها. هكذا تنعكس عملية توسل الفلسطينيين للتسوية في وعيهم السياسي بكونها مجرد محاولة للتحايل على الواقع البائس، والخروج من دوامة الوضع الراهن، والتعويض عن الخلل في موازين القوى، أكثر من كونها محاولة لتجاوز مأساة الماضي والحاضر، والتأسيس لمستقبل جديد مفتوح الآفاق والأبعاد.
2 ـ بالنسبة لغالبية الفلسطينيين كانت عملية التسوية بمثابة عملية افتراضية يأخذون فيها حقوقهم بالتمام والكمال، على اعتبار أنهم تنازلوا عن جزء من وطنهم، فيأخذون الجزء الباقي ويبنون دولتهم ويعيدون اللاجئين إلى أرضهم وممتلكاتهم التي شُرِّدوا منها قبل نصف قرن. ولكنّ هذه التسوية العادلة والشاملة في حقيقتها هي تسوية متخيلة، ليس لها سند في عالم السياسة الواقعي الذي لا يعترف إلا بموازين القوى، أو بالمعطيات الدولية والإقليمية، التي قد تعوض الطرف الأضعف عن الخلل في القوى الذاتية.
3 ـ غالبا ما يتم التعامل مع قضية التسوية في إطار النصوص، أي الاتفاقات، التي يجري التوصل إليها بين الطرفين، بدلاً من التعامل معها في إطار موازين القوى الذاتية للجانبين والمعطيات المحيطة بهما. إزاء ذلك لا يوجد سبب يدعو أحد لاعتبار أية وثيقة على اعتبارها وثيقة مخلدة، وكأنها رسالة من السماء، وهذا ما ينبغي على الفلسطينيين أخذه بالاعتبار في مناقشاتهم الداخلية الصاخبة، لعل شيئا من العقلانية يهبط عليهم، بدلاً من اعتماد لغة التخوين والتكفير السهلة التي لا تخدم إلا امتهان كرامة الفلسطينيين وتسطيح عقليتهم السياسية وإثارة غرائزهم وزرع الشقاق في صفوفهم.
4 ـ في الواقع فإنّ النقاش الفلسطيني، من حول عملية التسوية، هو نقاش مبتور لأنه لا يصل إلى نهاياته المنطقية والطبيعية. فمثلا، حتى الآن، لا يوجد نقاش مكتمل أو ناضج حول حل ” الدولة الديمقراطية العلمانية ” ولا حول حل ” الدولة ثنائية القومية “، ولا حتى حول حل الدولتين، وكل ما هنالك ليس أكثر من شعارات أو مناقشات جانبية.
5 – جاء قصور العقل الأصولي الفلسطيني ليردف قصور العقل السياسي الفلسطيني حين تم خطف الانتفاضة الثانية وعسكرتها، وتكفل إلغاء السياسة واعتماد العمليات الاستشهادية بوصول غلاة اليمين الاستئصالي والاستيطاني إلى الحكم في إسرائيل، وإلى دمغ المقاومة الفلسطينية عالميا بـ ” الإرهاب “، وتدمير البنى التحتية، واحتلال مزيد من الأرض.
أما الموقف العربي فهو أقرب إلى الثقافة السياسية الفلسطينية، إذ يعتمد في كثير من مواقفه على قرارات ونصوص الشرعية الدولية بشكل عام، دون أن يدرك أنّ هذا الموقف هو شق واحد من المعادلة التي تفترض العمل على مستويات أخرى مكملة أبرزها الرأي العام العالمي في الدول المحورية على الساحة الدولية، ربما لأنّ الثقافة السياسية العربية على العموم لا تشمل في بنيتها ” مادة ” الرأي العام وكسب الشرعية والولاء من المواطنين بفعل إرادي وحر. كأننا نتصور الغرب يعمل بطرق الثقافة العربية، أنظمة يدين لها المواطنون بالولاء وراثةً أو وضعياً لمجرد أنها سلطة ؟ وهذا ما يقودنا إلى عمليات صنع القرار كجزء من مبنى في الثقافة السياسية عندنا.
وهكذا، من الواضح للعالم أنّ لإسرائيل مشروعها السياسي المحدد وأنّ صراعها مع العرب يأتي ضمن هذا المشروع، لكن ما هو المشروع العربي أو جملة المشاريع العربية ؟
التعامل العربي والفلسطيني مع هذا السؤال على تفرعاته يقلق على نحو خاص، فكأنه من المفروغ منه أنّ الأمور واضحة، وأنّ العالم الذي اتخذ القرارات الدولية في شأن الصراع مع إسرائيل لن يهدأ ولن يستكين إلا بتطبيق القرارات بحذافيرها ! وهنا تبدو أهمية تجديد المشاريع السياسية العربية لتصير مشاريع بلغة الثقافة السياسية السائدة عالمياً، بلغة المفاهيم التي تتضمنها المواثيق الدولية ونصوص الأدبيات السياسية والأخلاقية المستحدثة التي تتخاطب بها المجتمعات العالمية الحديثة في ما يتعلق باستحقاقات شعب على شعب ودولة على دولة. علينا أن نخرج تماماً، وليس نصف خروج كما هي الحال حتى الآن، من نفي إسرائيل وإنكار وجودها بالكلام والصياغات، من الانتصار عليها معنوياً وإنشائياً، من إزالتها وتدميرها بخطب نارية إلى محاولة تفكيكها كظاهرة تاريخية سياسية فاعلة بقوة.
إنّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي، مثله مثل كل نظائره في العالم، لا يمكن حسمه حرباً مهما طال الزمن، حيث تختلط فيه اعتبارات الجغرافيا والتاريخ والثقافة والدين والهوية والمصالح. فإذا اقتنع الرأي العام العربي والإسرائيلي بهذه الاستحالة، سيجدّ صناع القرار ويجتهدون في الوصول إلى تسويات ومصالحات تاريخية، تحفظ ماء الوجه وكذلك الحد الأدنى من المصالح والكرامة لكل الأطراف، وتضع حدا لسفك الدماء والخراب.
(3) – هيكل المفاوضات
بعد مرور قرابة ثمانية عشر عاماً على انطلاق المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية في مؤتمر مدريد يبدو من الضروري جدا استيعاب دروس وعبر خبرات المفاوضات وفهم معطيات الواقع الراهن وتخطيط الموقف التفاوضي العربي على أسس موضوعية، خاصة بعد أن وصلت عملية التسوية إلى المأزق حين تم الانفصام بين أهدافها وتفاصيل تطبيقها، وبين المرجعية القانونية والدولية لأسس ومبادئ التسوية والممارسات الإسرائيلية باسم عملية السلام، وحين أوقعت الإدارة الأمريكية نفسها في فخ السياسة الإسرائيلية وفشلت في الجمع بين دور الوسيط الشريك للطرفين العربي والإسرائيلي وبين الحليف لإسرائيل.
وحين نقوم برصد نتائج مسيرة التفاوض على المصلحة العربية يجدر بنا أن نستحضر عناصر عملية التسوية: الإطار المرجعي والأساس والأطراف والخطوات. ففيما يخص العنصر الأول ” الإطار المرجعي “، نرى أنّ المصمم الأمريكي جعله ” مؤتمرا دولياً ” يعقد بعيداً عن المنظمة الأممية مفتقداً من ثم مرجعية الشرعية الدولية، ومعتمداً مرجعيته الخاصة به التي حددها مصمم العملية الأمريكي وألزم الأطراف العربية بقبولها، بعد أن استلهم جل مطالب إسرائيل وضمنها فيها.
نلاحظ فيما يخص العنصر الثاني وهو ” الأساس “، أنه قرارا مجلس الأمن 242 و 338. والثاني يتضمن اعتماد التفاوض، أما الأول فينص في مقدمته على مبدأ عدم ” جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة ” ويتعامل مع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967، ويدعو إلى الانسحاب منها، وإلى ضمان أمن جميع دول المنطقة، وإيجاد تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين. وقد تعذر تطبيقه منذ صدوره في خريف 1967،  واختار مصمم العملية الأمريكي هذا القرار من بين العديد من القرارات الدولية التي تحدد الحقوق الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف للشعب العربي الفلسطيني. ولم يكتفِ المصمم الأمريكي بذلك، بل قبل وجهة النظر الإسرائيلية في أنّ لهذا القرار تفسيرات مختلفة ويحق لكل طرف أن يتمسك بتفسيره.
أما العنصر الثالث وهو ” الأطراف “، فقد لبى مصمم العملية الأمريكي في تصميمه الطلب الإسرائيلي في أن تتفاوض إسرائيل مع كل طرف عربي على حدة. وكان قد وفى من قبل بتعهده لإسرائيل أن تتفاوض من موقع القوة، بحيث تتفوق قوتها على الأطراف العربية مجتمعة.
نصل إلى العنصر الرابع في العملية وهو ” الخطوات “، فنجد أنّ المصمم الأمريكي حدد بداية فترة ثلاث سنوات تكون إسرائيل طوالها مطلقة اليد في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وعمد إلى تأجيل البحث في موضوعات القدس والاستيطان واللاجئين والحدود، وهذا ما تم الاتفاق عليه في اتفاق أوسلو، وباشر منذ انعقاد مؤتمر مدريد إجراء مفاوضات متعددة الأطراف تستهدف إقامة نظام إقليمي جديد يكون لإسرائيل مكان خاص فيه.
وهكذا، فإنّ المأزق الراهن للمفاوضات العربية – الإسرائيلية هو نتيجة منطقية للهيكل التفاوضي الذي تبلور في مؤتمر مدريد، إضافة بالطبع للشكوك حول نيات إسرائيل وسياساتها ومحركاتها الأساسية: نزعة احتقار العرب، ونزعة عبادة العنف، وفجوة الشك وعدم التصديق النابعة عن مخاوف لا حصر لها، والعقيدة الأمنية التي تتصور إمكانية السيطرة الأبدية على كل مفاتيح الأمن بالوسائل العسكرية.
وفي سياق ذلك مارست إسرائيل لعبة ابتزاز تناقضات الأطراف العربية، فقد علمتنا تجارب السنوات الماضية أنّ إسرائيل تستخدم المسار الفلسطيني للضغط على المسار السوري، وعندما لا تحقق مراميها في هذا المسار تتحول إلى المسار السوري وتمارس الضغط نفسه.
وهكذا، فإنّ المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية افتقرت إلى رؤية واضحة محددة للهدف، مما دفع الطرفين إلى تناول المرحلة الانتقالية ليس على أنها مهلة للاستعداد لاتفاق نهائي بل مجرد تمهيد للمفاوضات النهائية، وليس على أنها فرصة لبناء الثقة بل لتحسين الموقف التفاوضي. النتيجة أنّ كلاً منهما حرص على الحفاظ على مكتسباته لحين الوصول إلى المفاوضات النهائية. وهكذا غذّى موقف كل من الطرفين تصلب الطرف المقابل، مما أدى إلى حلقة مفرغة من التهرب من الالتزامات، والانتهاكات الواضحة، والاتهامات المتبادلة.
ومع تزايد الالتزامات التي وافق عليها الطرفان أدت الاتفاقات المرحلية المتتابعة إلى تزايد إمكان المخالفات والتراجع عن المواعيد المحددة للتنفيذ، وأصبح كل اتفاق مؤقت محوراً للخلاف المقبل وصورة مصغرة للصراع في شموليته، وقاد ذلك إلى إعادة التفاوض مراراً وتكراراً وتراجع الاحترام لنصوص الاتفاقات نفسها. وأغرى ذلك قيادتي الطرفين باتخاذ مواقف تعويضية، مثل الخطب النارية من قبل الفلسطينيين مقابل إنشاء المزيد من المستوطنات من قبل الإسرائيليين، مع إعراض كل من القيادتين عن تهيئة شعبيهما للتنازلات التي لا بد منها في النهاية. وكان لهذه الخطوات التي هدفت إلى ترضية الرأي العام على الجانبين نتيجة غير مقصودة هي المزيد من نفور كل منهما من الآخر، وهو ما زاد من صعوبة التوصل إلى صفقة نهائية.
بل أنّ من بين أكثر المغالطات غرابة في قاموس السياسة الدولية‏,‏ ذلك الزعم الذي تردده إسرائيل‏,‏ بأنها مضطرة للتصرف بمفردها بشأن مستقبل الضفة الغربية‏,‏ نظرا لعدم وجود شريك فلسطيني قادر علي التفاوض معها‏,‏ بشأن ما تعتبره ـ من وجهة نظرها ـ أراضٍ متنازعاً عليها وليس أراضٍ محتلة.
والحقيقة أن التسليم بحق إسرائيل في أن تحدد ما إذا كان في الجانب الفلسطيني شريك تفاوضي أو لا يمثل ارتداداً عن كل ما تحقق ـ على مدى أكثر من عقدين ـ لنشر أجواء السلام وبناء روح الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين‏.‏ إنّ خطورة ما تصر عليه إسرائيل هو أنّ هناك ردة إسرائيلية عن خيار السلام الذي مازال يمثل خياراً استراتيجياً للفلسطينيين والأمة العربية بأكملها‏.
وهكذا، يبدو أنّ العرب كانوا حسني النية في تصورهم أنهم دخلوا عملية تنتهي بإغلاق ملف الصراع العربي – الإسرائيلي نهائياً.‏ لكنّ المشكلة لم تنشأ نتيجة أنّ لإسرائيل أطماعاً خفية‏,‏ أو لأنها ارتدت عما كانت قد تحركت في اتجاهه لأسباب كانت قائمة وقتها‏,‏ وإنما المشكلة نبعت من اختلاف النظرة إلى طريق بلوغ هدف السلام‏,‏ بين كل من العرب وإسرائيل.‏ فالعرب منذ دخلوا عملية السلام بانعقاد مؤتمر مدريد عام‏1991,‏ وضعوا في حساباتهم أنّ عجلة السلام تحركت‏,‏ وستواصل تحركها بتلقائية وبقوة الدفع‏,‏ وكل ما عليهم عمله هو أن ينتظروا بلوغها محطتها النهائية‏.‏
أما إسرائيل فقد اعتبرت عملية السلام نزالاً حاداً بين طرفين‏,‏ حتى ولو كان نزالاً من أجل السلام.‏ وهذا يعني أن تصيغ لنفسها استراتيجية تدير بها هذه العملية‏،‏ فإذا كان عليها أن تسلم للطرف الثاني بشيء عن طريق المفاوضات‏,‏ فليكن بأقل القليل‏,‏ وأن تستخلص منه أقصى ما تستطيع استخلاصه‏,‏ عن طريق الضغط السياسي والديبلوماسي‏,‏ والنفسي‏,‏ وخلق عقبات وعراقيل تحبط الطرف الآخر في المفاوضات‏،‏ وتضعضع مركزه التفاوضي‏.‏ أي أنها جهزت نفسها لما اعتبرته صراعا‏ً,‏ أو حسب الوصف الذي استخدمه شيمون بيريز في محاضرة بجامعة ” جورج واشنطن ” في عام ‏1998,‏ في تعريفه لعملية السلام بقوله‏:‏ نحن في حرب من أجل السلام.‏ وفي سياق ذلك استثمرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ” الرأي العام ” لديها كوسيلة إضافية للضغط على المفاوض العربي على أساس أنها شديدة المرونة بالمقارنة بمواطنيها المتشددين الذين يقاومون ” تنازلاتها “، في حين أنّ المساندة العربية للمفاوض العربي مفتقدة تماماً.
دور الأطراف
حيث لعبت الأطراف المعنية ( إسرائيل والقيادة الفلسطينية والحكومات العربية )، والمجتمع الدولي، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية، أدواراً معطلة لاستكمال عملية السلام العربي – الإسرائيلي.
(1)    – الموقف الإسرائيلي
بانعقاد مؤتمر مدريد للسلام، صار السؤال المطروح: ما هو مضمون السلام الذي تريده إسرائيل ؟ ومع الوقت صار يتضح بأنّ السلام الذي تريده يقوم على قاعدة ” جزء من الأرض في مقابل السلام الكامل “. أما القناعة التي كانت تقبع في خلفية هذا التصور للسلام، والتي شكلت إحدى ثوابت الفكرة الصهيونية على مدى تاريخها، فهي أنّ الأرض العربية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 هي ” ملك الشعب اليهودي ” وأنّ تنازل إسرائيل عن جزء منها هو للخروج من المأزق ولضمان وجود إسرائيل ومستقبلها والحفاظ على طابعها اليهودي على المدى البعيد. وبينما كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تتردد وتمانع في الاستجابة لشروط السلام الدائم والشامل والعادل، كان المجتمع الإسرائيلي، الذي تبين بأنه يخشى السلام أكثر مما يخشى الحرب، يتجه نحو التطرف أكثر فأكثر في ظل الدور المتزايد في حياته السياسية لقوى إثنية ودينية واجتماعية: اليهود الشرقيون، والمهاجرون الروس، والمتدينون الأرثوذكس والمستوطنون، يجمع بين أطرافها عدم الثقة بالسلام مع العرب، والاعتقاد بأنّ المواجهة الشاملة هي ” البديل الأفضل ” للصهيونية، وهي الوسيلة الفعالة التي تحافظ على متانة ووحدة ” القلعة ” وتمنع انفجار التناقضات الداخلية المعتملة داخل المجتمع الإسرائيلي.
وقد كان الفوز الساحق، الذي حققه نتنياهو وتحالفه اليميني المتطرف، في الانتخابات الأخيرة دليلاً واضحاً على أنّ هذه القوة اليمينية المتطرفة التي صارت تتحكم بالسياسة الإسرائيلية قد استقطبت تأييد القسم الأعظم من الإسرائيليين، وأنّ حزب العمل، الذي أضاع نصف قوته الانتخابية، مقارنة مع الثمانينات، بات أسير هذه القوة اليمينية المتطرفة، وأسير حكومة ” الوحدة الوطنية ” التي تعززت مواقع اليمين المتطرف وغلاة المستوطنين فيها. مما جعل السلام الإسرائيلي في عهد نتنياهو يتميز بـ :
1 ـ رفض مفهوم السلام المتعارف عليه والقائم على ” شروط ” مدريد وأوسلو، لأنه حسب تصور نتنياهو يهدد الأمن الإسرائيلي وبالتالي يصبح المطلوب تأجيل هدف التوصل إلى اتفاقات سلام رسمية إلى أجل غير مسمى.
2 ـ تحقيق الأمن المطلق، فالقيادة الإسرائيلية الحالية لا تتطلع إلى إحداث تحول أو تغيير نوعي في العلاقات العربية ـ الإسرائيلية عكس ما طرحته قيادة حزب العمل، بل هي  تتطلع إلى إحداث مزيد من التغيير النوعي في ميزان القوى العربي ـ الإسرائيلي. فالأمن، حسب هذه القيادة، يتحقق بواسطة سياسة الروادع وليس بواسطة سياسة الحوافز.
3 ـ يقود ذلك كله إلى ضرورة تحقيق سلام ” الأمر الواقع ” المبني على نظام من الروادع، وعلى تفاهمات مع الأطراف العربية المعنية وذلك بشكل مباشر أو بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أو مع غيرها من الأطراف الدولية والإقليمية القادرة والمعنية.
لقد بات واضحا أنّ نتنياهو جاء إلى الحكم بقرار صهيوني استراتيجي يهدف إلى تحقيق الأطماع والمخططات بقوة السلاح، بغض النظر عن مواقف الدول والاتفاقات المعقودة والشرعية الدولية ومبادئ حقوق الإنسان. وهكذا جاء ليعيد التاريخ إلى الوراء، أو إلى المربع رقم واحد وينفذ مخططاً يرتكز إلى:
–    نسف مسيرة السلام بكاملها ودفن مرجعية مدريد بكل أسسها وبنودها والتزاماتها.
–    الإلغاء الكامل لاتفاقات أوسلو وملحقاتها وتوابعها والتزاماتها.
–    إثارة النعرات والفتن لإشعال نار حرب أهلية بين الفلسطينيين.
–    تفتيت مناطق السلطة الوطنية إلى كانتونات وجزر منفصلة ومحاصرة وعدم تمكين سكانها من أي اتصال أو انتقال.
–    تسريع وتيرة بناء المستعمرات الاستيطانية وتوسيع المستعمرات القائمة لفرض أمر واقع على الفلسطينيين والعالم.
–    تفريغ القدس من المؤسسات الفلسطينية الرسمية والشعبية وإرهاب السكان لحملهم على الهجرة والرحيل لتأكيد مزاعم ” العاصمة الموحدة الأبدية ” ورفض أي بحث في مستقبل المدينة المقدسة أو المقدسات الإسلامية والمسيحية.
(2) – الموقف الفلسطيني
وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام معادلات قاهرة، في السياسة وفي الميدان، مع مجيء شارون أولاً، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ثانياً، وبعد عودة نتنياهو إلى رئاسة الوزارة الإسرائيلية ثالثاً، وبعد ظهور العجز العربي رابعاً، وبعد جملة الوقائع الميدانية وما تشكل حولها من مناخ دولي خامساً. مما يجعلنا نقول: إنّ القضية الفلسطينية تمر بمرحلة من أسوأ مراحلها، فهي أسوأ من نكبة 1948 وهزيمة 1967.
فقد اختلفت الانتفاضة التي بدأها الشعب الفلسطيني يوم 28 سبتمبر/أيلول 2000 عن الانتفاضة التي قام بها أواخر العام 1987. والاختلاف المشار إليه بين الانتفاضتين كان له تأثير واضح على المواقف من كل منهما، سواء داخل المجتمع الدولي أو داخل إسرائيل، وتالياً على نتائج الأولى وعلى نتائج الثانية . فالانتفاضة الأولى حققت، بواسطة الحجارة، اختراقاً مهما داخل إسرائيل تمثل في إبداء قوى حزبية مهمة تفهماً لدوافع نشوبها. وتمثل – في مرحلة تالية – في قيادة هذه القوى حركة مهمة في الأوساط الحزبية والشعبية داخل إسرائيل لوقف الانتفاضة، لا بالعنف بل بالمفاوضات المؤدية إلى تسوية سلمية مقبولة من الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. وهي حققت أيضاً اختراقاً مهماً داخل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت مغلقة على مدى عقود، إدارةً وكونغرساً ووسائل إعلام ورأياً عاماً، على الفلسطينيين وقضيتهم.
وبسبب نتائج الانتفاضة السلمية – آنذاك – وما أحدثته من تفاعلات صاخبة في المجتمع الإسرائيلي، انتهي عهد حكومات اليمين الإسرائيلي حين تسلم حزب العمل بزعامة اسحق رابين مقاليد السلطة في انتخابات العام 1992 بغالبية كبيرة، وكانت الحكومة الأولى في إسرائيل التي يعطيها الناخب ثقته بسبب برنامجها للسلام، وسارت الأمور في مفاوضات واشنطن وانتهي الأمر باتفاقات أوسلو، حيث أقيمت سلطة فلسطينية لأول مرة، واستعاد الفلسطينيون جزءاً من الأرض وبدؤوا بناء مؤسسات كيانهم الوطني القادم وأخذ العالم بأسره يتعامل مع هذه الحقائق الجديدة، فيما أخذ الإسرائيليون يتعايشون معها أيضاً.
أما الانتفاضة الثانية التي جرى عسكرتها، فقد أدت، خصوصاً بعد انهيار مفاوضات عرفات – باراك في ” كمب ديفيد “، إلى أمور سلبية عدة أبرزها ثلاثة: أولها، خسارة ” فلسطين ” ما ربحته في أمريكا منذ الانتفاضة الأولى وعلى امتداد السنين العشر لعملية السلام. وثانيها، خسارة التفهم وأحياناً التعاطف عند جهات إسرائيلية عدة ينتمي معظمها إلى اليسار. وثالثها، عودة سيادة منطق الأمن عند غالبية الإسرائيليين على منطق السلام.
إنّ جملة من الظروف الذاتية والموضوعية من جهة، والإقليمية والدولية من جهة أخرى، ساهمت في الحد من تطور الفعل المقاوم الفلسطيني. أما فيما يتعلق بالذاتية والموضوعية فتتلخص في التالي:
أولاً- شكل غياب التنسيق بين السلطة والقوى الفلسطينية الأخرى حالة من الخلل على كل المستويات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا الخلل حجّم الفعل الانتفاضي العام، ورفع وتيرة الفعل الاستشهادي، مما أحدث فجوة داخلية، بدأت تأخذ طريقها باتجاه عسكرة المجتمع الفلسطيني، مما سهّل على إسرائيل إمكانية تفكيك هذه الظاهرة، قياساً بقدراتها العسكرية المذهلة.
ثانياً- ضبابية الهدف السياسي، فكل معركة أياً كان حجمها، لا بد وأنّ لها – في نهاية المطاف – سقفاً أو مطلباً سياسياً واضحاً ومتبلوراً إن كان لدى الجمهور أو السلطة والقوى في آن معا. وإذا ما تجاوز الأمر الهدف السياسي المنشود والمنظم والهادف، فستصبح القضية برمتها مجرد عبث قد يؤدي إلى وأد روح الانتفاضة.
عملياً، أدت العمليات الاستشهادية إلى جعل الانتفاضة خارج سكة المسار الدولي للأمور، وانحرافاً عنها، بخلاف ما كان عليه الوضع في الانتفاضة الأولى التي تلاقت مع الاتجاه الدولي إلى إطفاء المناطق المشتعلة في العالم وبالذات تلك التي يضع ” القطب الواحد ” يديه عليها. ولم تظهر عواقب اتجاه القيادة الفلسطينية، ومعها معارضوها، إلى الانحراف عن سكة العامل الدولي المقرر مع إدارة كلينتون الذاهبة، بل مع الإدارة الجديدة: ظهر ذلك من إشاحة بوش الابن وجهه عن العمل على تحريك المفاوضات من جديد، ورفضه استئنافها من النقطة التي توقفت عندها في ” كامب ديفيد ” منطلقا من الاقتناع الذي عبر عنه العديد من المسؤولين الأمريكيين بأنّ المشهد الشرق أوسطي، بعد عقد على ” مدريد “، غير مهيأ للتسوية لدى الجانبين، مما دفعه للتركيز على إنشاء متغيّرات جديدة في اللوحة الإقليمية. في إطار هذا الاتجاه الأمريكي الجديد، تلاقت الولايات المتحدة مع اتجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي، الزائر لواشنطن في مارس/آذار 2001 إلى جعل الوقائع الميدانية متكلما وحيدا في الانتفاضة أو تقاطعت معه.
لقد كان جديرا بالمقاومين الفلسطينيين أن يعوا التغيير الذي طرأ على المجتمع الدولي بما جعله يتحول إلى رفض واستنكار العنف بكل صوره، ومن ثم كان ينبغي على الجهاديات الفلسطينية أن توقف أعمال العنف ضد المدنيين، مهما كانت ضراوة الاستفزاز الإسرائيلي. فلقد كانت المعركة بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول هي معركة إعلامية بين صورة ” الإرهاب ” وصورة السلام، بين طفل يحتمي بحضن أبيه الأعزل من رصاص الجنود الإسرائيليين الذي أرداه قتيلا، في مقابل صورة أشلاء دامية لمدنيين تتدلى أطرافهم من الحافلات، ليراها العالم كله وهو يعرف أنهم مدنيون أبرياء، حيث ترتبط صورهم في أذهان الملايين بصور أولئك الأبرياء الذين اضطروا إلي القفز من أعلي برجي التجارة العالمية في نيويورك هربا من الموت حرقاً إلى الموت سقوطاً.
ومن المؤكد أنّ الفلسطينيين سيستعيدون موقع التفوق الأخلاقي عندما يعود التركيز على الاحتلال ونتائجه المدمرة، وعندما تدرك أعداد متزايدة من الإسرائيليين استحالة الاستمرار إلى ما لانهاية في الاحتلال.
(3) – الموقف العربي
إنّ مشكلة النظام العربي مزدوجة: فهو إن فهم السياسة الأمريكية وأدرك مبتغاها, فإنه لا يستطيع مصارحة مجتمعاته بالأمور كما هي على حقيقتها من دون براقع وتوهمات. كما أنه لا يستطيع التعامل مع الاستحقاقات والتحديات التي توجبها هذه السياسة. فهو في وضع حرج, لا يمتلك القدرة على الانسحاب من عملية التسوية, على رغم كل الامتهان المتضمن فيها, لأنّ الخروج من هذه العملية سيفرض البحث عن خيارات أخرى, لا يستطيع توفيرها في ظل أوضاعه الذاتية, وفي ظل الظروف الموضوعية المحيطة به. وفي المقابل, فهذا النظام بات يدرك أنّ المضي في عملية التسوية, في شكلها الراهن, سيفضي إلى المزيد من الانحدارات التي ربما أضعفت من استقراره ومن مكانته, على الصعيدين الداخلي والخارجي، فقد ترتب على واقعة القبول العربي بالتسوية جملة من الحقائق من أهمها:
1 ـ أنّ العرب يدفعون ثمن التغيّرات الدولية حيث التسوية العربية – الإسرائيلية في المركز منها.
2 ـ أنّ الدور المرسوم للمنطقة العربية بات يأتي من العامل الخارجي، بما فيه الإقليمي، إذ هو الذي يقرر  مصير المنطقة ومستقبلها. ومن البديهي أنّ ذلك يجري بغض النظر عن توافق هذا العامل مع مصالح الأمة أم لا، كذلك يجري بمعزل عما إذا كان ذلك يعبر عن متطلبات المستقبل في التطور الاقتصادي والسياسي والقومي للمنطقة، فالمصالح الاستراتيجية العليا للدول المؤثرة، هي الراسم وهي المقرر والمنفذ في النهاية.
ولعل هاتين الحقيقتين تفرضان على العرب، حكومات ونخباً ومؤسسات المجتمع المدني، أن يصيغوا برامج واقعية تربط بين الإصلاح وتحديات صنع السلام العربي – الإسرائيلي،  فمن دون السلام فإنّ الإصلاح العربي سيفشل على الأرجح, ولكن مع السلام سيزدهر هدف الإصلاح العربي. ومن دون الديموقراطية فلن يكون هناك أساس للسلام, ولكن, إن اجتمع السلام والديموقراطية معا فسيكون المستقبل مشرقاً.
إنّ معاهدات السلام العربية مع إسرائيل التي تم إبرامها حتى الآن عكست نهجاً لإدارة الصراع بوسائل أخرى، وليس لحل الصراع أو تسويته على نحو شامل ودائم. ويبدو أنّ هذا النهج يعود إلى الفشل في حشد كل الإمكانات المتاحة للتعاطي مع التحديات التي يفرضها هذا الصراع بأكثر مما تعود إلى الفشل في اغتنام الفرص التي أتيحت لتسويته كما يعتقد البعض.
لقد جاءت قمة بيروت في مارس/آذار 2002 وبدا الاهتزاز واضحاً من أثر أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وعلامة استفهام كبيرة تطوق قاعات المؤتمر بعدما اتهم العرب والمسلمون بأنهم الضالعون في هذه الأحداث، وأنّ العالم العربي أصبح ساحة للانتقام وأنهم أصبحوا كبش الفداء أمام الانتقام الأمريكي. وللحق، فإنّ قمة بيروت العربية حاولت المحافظة على ثوابت الموقف العربي عامة، ولو من الناحية النظرية، لكنّ الطموح الذي سيطر عليها كان مفارقاً تماماً للهوة التي كان العالم العربي ينزل إليها. يكفي أن نشير إلى أنه في الوقت الذي تواضعت المواقف العربية العملية، فإنّ قمة بيروت قدمت مبادرة بالغة الطموح لقيت تحدياً إسرائيلياً مكشوفاً ومساندة أمريكية مستترة لهذا التحدي، مما يكشف عن الفارق بين طموح المبادرة، ومدى ملاءمة البيئة الإقليمية والدولية لاستيعابها.
لقد كان على قمة بيروت أن تضع مشروع آلية تنفيذية للمبادرة السعودية، فلو حدث ذلك لتم قطع الطريق على كل المبادرات التي تلتها، بما فيها ” خريطة الطريق ” التي ابتلعتها ” خريطة السور ” ثم التفت عليها مبادرة شارون للانسحاب من غزة. لقد أصبح بإمكان إسرائيل، بمباركة أمريكية، اللعب على المسار الفلسطيني مرة، وعلى المسار السوري مرة.
فمع إعلان شارون نيته في الانسحاب من غزة كان لا بد من بروز أفكار جديدة تحل محل فكرة الدولة الفلسطينية، وما لبثت هذه الأفكار أن جاءت سريعاً، وعلى قاعدة حل إسرائيلي ـ عربي بدل الحل الإسرائيلي ـ الفلسطيني، واندفعت إلى الواجهة فكرة العودة إلى ما كان عليه الحال عشية الحرب عام 1967، حيث كان قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، بينما كانت الضفة الغربية تابعة للأردن. وقد تسللت هذه الفكرة إلى صلب الموضوع تسللاً هادئاً ناعماً يكاد يخفي الهدف الأساسي منها. وبدأت إسرائيل مفاوضات مع مصر على قاعدة هذا التصور، ولكنّ مصر ارتأت صيغة للعمل تختلف عن الصيغة الإسرائيلية، تقوم على أساس المشاركة الفلسطينية ـ المصرية في بلورة وضع أمني مستقر في قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي، وتضمن هذه الصيغة من حيث المبدأ ألا يتم استبعاد الفلسطينيين نهائياً من عملية التسوية. إلا أنّ هذه الخطوة المصرية الإيجابية لم تستطع أن تستبعد الشرط الأمريكي ـ الإسرائيلي الأساسي بضرورة إبعاد الرئيس عرفات، شخصياً وقيادياً ورؤية سياسية، عن مضمون الحل، وهو مضمون تمت ترجمته بنزع صلاحيات الرئيس عرفات الأمنية، ومن ثم التخلص منه جسديا.
وفي الواقع فقد اعترف العرب في أكثريتهم الساحقة، ومنذ زمن طويل، بإسرائيل كلاعب على مسرح الشرق الأوسط، بل اعترفوا بها كلاعب أعدوا أنفسهم للتعامل والاتفاق معه على أساس شروط معينة. لكنهم لم يعترفوا ولن يعترفوا بإسرائيل كلاعب مهيمن، وهم لم يقبلوا ولن يقبلوا يوماً بالاحتلال الإسرائيلي في عام 1967.
(4) – مواقف المجتمع الدولي
من الواضح أنه إذا بادر أي من الطرفين العربي والإسرائيلي إلى السلام، فإنّ المبادرة لن تكتمل إلا بمشاركة أطراف خارجية أخرى، لا بد أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية من بينها. ويمكن تفسير الاهتمام الدولي بالقضية الفلسطينية والمفارقات والتعقيدات المحيطة بها، بأسباب عديدة، أهمها:
أولاً ـ منذ نشوئها كانت القضية الفلسطينية قضية دولية بامتياز، وبغض النظر عن نصيب الحركة الصهيونية في إقامة دولة لليهود في فلسطين، فإنّ الجهد الدولي هو الذي مكّن هذه الحركة من النجاح في مشروعها وضمان استمراره وتطوره.
ثانياً ـ تستمد القضية الفلسطينية عالميتها أيضا من العدو نفسه الذي تواجهه، فالمسألة اليهودية باتت مسألة عالمية منذ أواخر القرن التاسع عشر، بحكم التطورات في أوروبا، وازدادت عالميتها بعد الحرب العالمية الثانية.
ثالثاً ـ تستمد القضية الفلسطينية عالميتها من الموقع الجغرا – سياسي الاستراتيجي الذي احتلته فلسطين في استراتيجيات الدول الكبرى وفي الصراع بين الدول الاستعمارية، فعلى الدوام اعتبرت الدول الكبرى بأنّ السيطرة على فلسطين تسهّل عليها السيطرة على العالم العربي.
وعلى ذلك من غير الممكن اعتبار الصراع مع إسرائيل مجرد صراع محلي، فهو جزء من الصراع في هذه المنطقة وعليها، وهو مرتبط بالصراعات الدولية، وهو اليوم مازال يحتل مركزاً مهماً في إطار الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لإدارة الرئيس أوباما.
وفي الظروف العالمية الراهنة يكتسب رأي المجتمع الدولي أهمية حاسمة، إلى درجة أنّ الحلول التي تطرح للأزمات المختلفة، إنما تتحدد ملامحها الرئيسية وفق ما يقبله أو يرفضه هذا المجتمع. فلا وجود لحل يتعلق بأية مشكلة في أية منطقة من العالم، خارج إطار مفاهيم المجتمع الدولي واهتماماته. من هنا فإنّ الوصول إلى حالة تماهٍ أو مقاربة بين أساليب المقاومة المتنوعة لشعب ما، وبين إجماع المجتمع الدولي، يعتبر هدفاً في حد ذاته يستحق النضال والعمل من أجله بكل السبل.
إذا قاربنا بين هذه المفاهيم وبين المسألة الفلسطينية، فإنه يمكن ملاحظة التالي: إنّ الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في 28 سبتمبر/أيلول عام 2000 ضد الاحتلال الإسرائيلي، نجحت بداية في فرض نفسها كقضية ملحة على جدول أعمال المجتمع الدولي. لكنّ نجاح إسرائيل في استفزاز الفلسطينيين وجرهم تدريجياً إلى حلبة العمليات الاستشهادية، وتحوّل هذه الأخيرة إلى السلاح الأبرز والأكثر طغياناً في الانتفاضة، قد نقل القضية الفلسطينية إلى مستوى جديد كلياً. فالاهتمام الدولي انقلب إلى إدانة هذه العمليات، أو على الأقل مساواتها بالعنف الموجه من جانب الدولة الإسرائيلية.
ومن جهة أخرى، فقد أدى التبني الأمريكي لإسرائيل وتوفير الحماية السياسية والقانونية الدولية لها إلي شعورها بأنها دولة فوق القانون الدولي تنتهكه كما يحلو لها.‏ وتلك هي المشكلة الجوهرية‏,‏ وفي ظلها لن تكون هناك تسوية سياسية حقيقية بل تصرفات وسياسات إسرائيلية وليدة غطرسة القوة وغرورها، تراكم من العداء وتضاعف من تأثيرات العوامل الكامنة في الصراع الاجتماعي الممتد.
لقد أصبحت أمريكا طرفا دائما في الصراع، حرباً وسلماً، فهي تقدم دعماً كبيراً لإسرائيل، وكذلك لعدد من الدول العربية، ولها مصالح نفطية ضخمة في منطقة الخليج وخاصة السعودية، وربما كان هذا الاندماج الأمريكي الواضح أحد أسباب حضورها وتأثيرها الكبير في إدارة الصراع. ومهما كان الرأي العام العربي سلبياً نحو الولايات المتحدة الأمريكية بسبب انحيازها الواضح لإسرائيل، إلا أنّ أغلب المراقبين يجمعون على أنّ من المصلحة الأمريكية أن تتحسن الأوضاع في الشرق الأوسط، ويسود السلام بين العرب وإسرائيل.
وبعد أن أصبحت فكرة ” الشريك الكامل ” عنوانا لدور أمريكي أعمق في المفاوضات العربية – الإسرائيلية منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام، وتجددت في العهد الأمريكي الجديد، وبعد أن أصبحت الفكرة موضع ترحيب أطراف المفاوضات، تساءل المراقبون عن كيفية التطبيق الأمريكي لهذه الفكرة في مسيرة المفاوضات القادمة ؟
لقد كان واضحاً أنّ الولايات المتحدة الأمريكية دفعت الأطراف العربية والإسرائيلية إلى المفاوضات آملة أن يكون للعملية المباشرة قوة دفعها المستقلة التي تؤدي إلى نتائج ملموسة. إنّ المفهوم الأمريكي للعملية التفاوضية يقوم على أساس ضرورة الدخول في المفاوضات مهما كانت الظروف والشروط وبصرف النظر عن توافر العناصر التي تكفل وصول هذه المفاوضات إلى نتيجة، حيث أنّ ” قوة الدفع ” التي تنبثق وتتولد من خلال العملية التفاوضية ذاتها يمكن أن تقود إلى نتائج، بل تفرض ضرورة تحقيق هذه النتائج مهما استعصت المشكلة على الحل كما يبدو في بداية التفاوض، وكذلك مهما أظهر الطرف الآخر من تعنت وجمود.
وبدأت المفاوضات، وتوالت الجولات، وتبين أنّ الموقف الأمريكي يرتكز إلى مجموعة أسس أهمها:
1 ـ الانحياز التام لإسرائيل، إذ ظهر بما لا يقبل الشك أو التأويل أنّ السياسة الأمريكية تجاه المنطقة تتحدد بمنظور أمريكي ـ إسرائيلي مشترك، وذلك لأنّ العلاقة بين الطرفين تتعدى البعد الاستراتيجي لتشكل تلاحماً عضوياً. ولذلك تبنت الولايات المتحدة الأمريكية الموقف الإسرائيلي التفاوضي بشكل كامل، وتصرفت كأنها ” وكيل ” إسرائيل في المفاوضات، وليس ” الراعي ” العادل للمفاوضات.
2 ـ تحقيق ” استقرار” المنطقة، وذلك باستغلال الظرف المؤاتي عربياً، بعد حرب الخليج الثانية أولا واحتلال العراق ثانيا، لتثبيت الرؤية والبرنامج الأمريكيين لشرق أوسط جديد تلعب فيه أطراف غير عربية دوراً أساسياً.
3 ـ اتباع سياسة براغماتية في المفاوضات وذلك بتفسير دور ” الراعي ” للمفاوضات على أنه ” المسرّع ” لها. وبدور ” المسرّع ” تختزل الولايات المتحدة تدخلها في الأمور الإجرائية وتتلافى التدخل في القضايا الجوهرية. فطالما أنّ ميزان القوى يرجح لمصلحة إسرائيل، فلا ضرورة للتدخل في القضايا الجوهرية. وبالطبع، فقد أعلنت أنها تقبل بأية صيغة اتفاق تصل إليه الأطراف المتفاوضة.
4 ـ وفي إطار ” التسريع ” أصبح دور ” الراعي ” الأمريكي توفيقياً تخلت فيه الولايات المتحدة عن كل ما فسر عربياً بأنه ضمانات أو حتى تطمينات مسبقة، وتحول الموقف الأمريكي خلال لعب دور ” الشريك الكامل ” إلى متابعة مجريات الأمور على طاولة المفاوضات. فالهدف الأمريكي تحدد بتذليل العقبات وليس بإيجاد الحلول، وعند تذليل العقبات يتم العمل على أساس إيجاد مقاربة ترتكز على حدود ” القاسم المشترك الأصغر ” للفرقاء، بحيث أنّ المبادرة الأمريكية مفتوحة النهايات كما لم يحدث في أية مرة من قبل.
وهكذا، فقد سقطت خريطة الطريق على مراحل: سقطت أولاً، على يدي حكومة آرييل شارون التي وضعت أربعة عشر تحفظاً على الخطة أدت إلى إلغاء مضمونها وتعطيله. وسقطت ثانياً، على يد الرئيس الأمريكي حين التقى مع آرييل شارون في واشنطن، واستمع منه إلى خطته بالانسحاب من جانب واحد ومن دون مفاوضات مع الفلسطينيين، من قطاع غزة، ونال من الرئيس بوش موافقة متحمسة على هذه الخطة، مع إشادة غير مألوفة بمضمونها ودلالاتها، وقدم له مقابل هذه المبادرة ” الشجاعة ” تنازلات أمريكية هائلة تمس مضمون مفاوضات الحل النهائي مع الفلسطينيين، وتتعلق تلك التنازلات بثلاث قضايا هي: الحدود والمستوطنات وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وشكل التبنّي الأمريكي للموقف الإسرائيلي في هذه القضايا نسفاً لمبدأ المفاوضات، وفرضاً مسبقاً لمضمون الحل النهائي، وإلغاءً عملياً لفكرة الدولة الفلسطينية.
وفي الواقع, فإنّ الإدارات الأمريكية ظلت, على الدوام, تعلن صراحة دعمها المطلق لإسرائيل, وحرصها على تغطية سياساتها في الأراضي العربية المحتلة، وضمانها لأمنها وتفوقها النوعي في المنطقة. وفوق كل ذلك, فإنّ هذه الإدارات لم تقل مرة أنها مع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم أو ديارهم التي شُرِّدوا منها في 1948. ولم تطالب بتفكيك المستوطنات, على رغم اعتبارها إياها غير قانونية مرة, وعقبة في طريق السلام مرة أخرى. وهي لم تفسر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242, باعتباره ينص على انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإنما فسرته على أنه يعني انسحاب إسرائيل من أراضٍ احتلتها, بما يفيد قيام حدود آمنة ومعترف بها لكل دول المنطقة.
وفي هذا السياق يرى هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، أنّ الفلسطينيين والعرب يجب أن يدركوا ويقبلوا تماماً أنه ليس كافيا أن يعترفوا بوجود إسرائيل لكي يوافق الإسرائيليون على تأمين كل حقوقهم ومطالبهم، بل يجب أن يعتادوا على تقديم التنازلات والتضحيات لطمأنة الإسرائيليين. وأوضح قائلاً: إنّ عملية السلام تعرقلت وتجمدت بسبب رفض العرب مواجهة  ” الحقيقة الأساسية ”  وهي أنّ أية تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي لن تقوم في النهاية على أساس الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة خلال حرب 1967 إذ أنّ  قرار مجلس الأمن رقم 242 لا يطالب بذلك.
ومن الملاحظ، خلافاً لمعظم الكتاب في موضوع معوّقات السلام العربي – الإسرائيلي، الذين ركزوا على قصورات الفلسطينيين والإسرائيليين والسوريين، فإنّ لدى دينس روس شكاوى تجاه الأمريكيين، أي عملياً تجاه نفسه. فمثلاً، كان على الأمريكيين كوسطاء، برأيه، أن يقرروا قواعد لعب واضحة بشأن خرق التعهدات. إنّ الولايات المتحدة مذنبة في أنها لم تكن مستعدة لوقف المسيرة حين نشأ خرق جوهري. ويشرح روس قائلاً ” خشينا أن تمس مثل هذه الخطوة بالمسيرة. وهكذا خلقنا أجواء بدا فيها خرق التعهدات للأطراف ليس أمراً جدياً “. وهو يقترح التحديد المسبق ” لأخلاقيات السلوك ” للمسموح والمحظور.
كما أكد المؤتمر السنوي السابع والخمسون لمعهد الشرق الأوسط، الذي عقد في واشنطن أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2003، الانقسام الذي يزداد بروزاً داخل الإدارة الأمريكية. فقد أكد آرون ميللر على ست ملاحظات لا بد منها للوصول إلى حل للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ورأى أنّ المخرج لهذا الصراع يكون بإقامة دولتين ” إنه الحل الوحيد “، وأضاف ” إنّ خوفي هو من خطر هذه السياسة القائمة التي ستجعل الزمن يصبح عدواً لعملية السلام وليس حليفاً “. وقال ميللر: إنّ التوصل إلى تسوية يكون عبر عملية المفاوضات ” لا أتكلم عن مفاوضات قائمة على مسار عملية ما، لأنّ المفاوضات التي يجب أن يشترك فيها الفلسطينيون والإسرائيليون يجب أن تكون قائمة على توازن المصالح وليس على توازن أو عدم توازن القوى “.
وهكذا، قد تكون الرؤية الأمريكية لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي في المدى البعيد مختلفة عن الرؤية الإسرائيلية الحالية. فمن الصعب تصور قبول الولايات المتحدة بتكريس إعادة احتلال الضفة الغربية، رسميا والتخلي عن السعي إلى تسوية سياسية، ولو ظاهريا، لما يحمله ذلك من خطر على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة ومخططاتها لها. ولكن من الصعب أيضا تصور ممارستها ضغوطا كافية على حليفها الأساسي في المنطقة لإرغامه على القبول بالرؤية الأمريكية لحل النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي، وقد ظهر ذلك واضحاً مع الزيارات المكوكية لمبعوث الرئيس أوباما جورج ميتشل، ويبدو أنه لا بد من انتظار التطورات على أرض الواقع وانجلاء الأمور أكثر لمعرفة كيف ستتعامل مع هذا الوضع الجديد الذي ساهمت في إيجاده.
وربما هنا تكمن واحدة من كبرى المفارقات الجيوبوليتيكية للصراع المركزي في الشرق الأوسط. ففي الوقت الذي باتت فيه جميع الأطراف المعنية، العربية والإسرائيلية والفلسطينية، على حد سواء، تنزع إلى اختزاله إلى صراع إسرائيلي – فلسطيني، فإنّ القوة الوحيدة في العالم التي تجد نفسها مضطرة إلى أن تأخذ في الاعتبار بعده العربي هي الولايات المتحدة الأمريكية. فهذه القوة العظمى، التي تخوض منذ 11 سبتمبر/أيلول 2001 حربا عظمى ضد الإرهاب، لا تستطيع أن تتجاهل أنّ النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني هو مولِّد رئيسي للإرهاب في العالمين العربي والإسلامي. وبقدر ما أنها معنية ليس فقط بمكافحة الإرهاب، بل كذلك بتجفيف منابعه، فإنه لا خيار أمامها سوى أن تسعى إلى حل ما للنزاع يكون ” عادلا ” بما فيه الكفاية بحيث لا يضطر أي من الطرفين إلى رفضه. ولقد بدا أنها وجدت مثل هذا الحل من خلال ما أسمته ” خريطة الطريق ” التي شاركها في رسمها الأوروبيون والروس ومنظمة الأمم المتحدة، وكان من المفترض، بموجب هذه الخريطة، أن تقوم منذ نهاية 2003 دولة فلسطينية مؤقتة، على أن يتم تحديد حدودها النهائية قبل نهاية 2005. والحال أنّ شيئا من هذا القبيل لم يتحقق، لا سيما أنّ الولايات المتحدة نفسها باتت مشغولة بردم بؤرة الإرهاب التي فجرها، من حيث لا تتوقع، تدخلها العسكري في العراق. وإزاء مأزق من هذا القبيل يبدو لا مخرج آخر سوى عملية تحكيم دولي مشابه لما جرى في كوسوفو وتيمور الشرقية، تقودها الولايات المتحدة نفسها، وبمشاركة مع سائر أعضاء اللجنة الرباعية، وفق روزنامة دقيقة يوكل تنفيذها إلى قوة دولية.
وفي الواقع، تواجه إسرائيل وضعاً حرجاً لم يسبق أن واجهته في مرحلة من تاريخها، فهذه الدولة التي تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، باتت أكثر دولة يحرص الغرب على انتقادها واعتبارها عبئاً أخلاقياً وسياسياً وأمنياً عليه. ففي أوروبا عموماً لم تعد النظرة إلى إسرائيل تتأسس على كونها واحة للديمقراطية والحداثة  في ” صحراء ” الشرق الأوسط، إذ أنّ هذه الدعاية استهلكت، وبدلاً منها ظهرت إسرائيل على حقيقتها، خاصة بعد مجزرة غزة وتقرير غولدستون، باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية خارجة عن القانون وتستخدم القوة للسيطرة على شعب آخر، وباعتبارها عاملاً من عوامل التحريض على ما يسمى بـ ” صراع الحضارات “، وسبباً من أسباب تأجج المشاعر العدائية ضد الغرب، في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية باتت إسرائيل تجد نفسها في مواجهة انتقادات حادة ومتزايدة، برغم كل التأييد والدعم اللذين تحظى بهما هناك، إذ إنها باتت بنظر بعض الأوساط مصدراً من مصادر كراهية العالم العربي والإسلامي للولايات المتحدة، ومن أهم محرضات نشوء جماعات التطرف والإرهاب فيه، وعاملاً مهماً من عوامل ضعف الاستقرار في هذه المنطقة.
وبعد التوصيف السابق لانسداد الأفق أمام السلام العربي – الإسرائيلي العادل والشامل والدائم تبدو أهمية مراجعة عملية التسوية، وصولاً للبحث عن خيارات ومعادلات ورؤى سياسية تستشرف السيناريوهات المحتملة في المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة.
الآفاق على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي
يبدو أنّ المسار الفلسطيني – الإسرائيلي ينطوي على واحد أو أكثر من المشاهد التالية:
1 – لا مواطنة للفلسطينيين وإنما إقامة كريمة
لا يلوح في الأفق أنّ الانسحاب الإسرائيلي من غزة  وبعض مناطق الضفة الغربية سينجح، والبديل عن ذلك هو مفاقمة المأزق الإسرائيلي عبر تحييد الخيارات الأخرى واحداً واحداً ودفع الأمور إلى خيار الدولة الواحدة. عندها ستواجه إسرائيل كابوس المثال الجنوب أفريقي، أي إقامة دولة كاملة العنصرية القانونية عبر ضم الفلسطينيين إلى دولة إسرائيل وشطب فكرة الدولة الفلسطينية، لكن من دون اعتبار الفلسطينيين مواطنين كاملي المواطنة، بل اعتبارهم مقيمين وليسوا مواطنين. أي لا يحق لهم الانتخاب ولا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها الإسرائيليون. ورغم عنصرية وبشاعة هذا الحل ولا إنسانيته ومخالفته للوجهة العالمية المنادية بحقوق الإنسان والمساواة، إلا أنّ هناك أصواتاً إسرائيلية تنادي به وتعارض تساوي المواطنة مع الإسرائيليين، وتقترح في المقابل منحهم ما تسميه ” إقامة كريمة ” عوضاً عن المواطنة. لو تبنت إسرائيل هذا الحل فإنها لن تستطيع الصمود عليه طويلاً، لأنه قائم على عنصرية فظة ومعلنة، وليست مخفية كما هو الحال الآن، وسيفتح آفاقاً لنضال عالمي من نوع جديد مؤيد للفلسطينيين.
2 – صفقة مفروضة من المجتمع الدولي
إنّ الفكرة القائلة أنّ لا سبيل إلي حل الأزمة الفلسطينية – الإسرائيلية سوى الخطوات التدرجية أو الانتقالية مناقضة تماماً للخبرة المكتسبة من مسيرة المفاوضات، فالتدرج لن يعيد بناء الثقة، ولن يقود إلي اتفاق سياسي قابل للبقاء، كما أنه سيستهلك جهداً سياسياً كبيراً على الصعيدين المحلي والدولي. كما أنّ زمن التفاوض المباشر قد فات، والمطلوب مواجهة الطرفين باتفاق نهائي كامل وغير قابل للتفاوض، يفرضه المجتمع الدولي وفي مقدمته الولايات المتحدة الأمريكية.
ويتوقف السعي نحو صفقة شاملة مفروضة في النهاية على الاقتناع بإمكان صياغة رزمة من الحلول المقبولة من الطرفين، تضمن لهما مصالحهما الأساسية من دون اختراق الخطوط الحمر لديهما، أي المطالب غير الخاضعة للتفاوض.
إنّ اهتمام إسرائيل الرئيسي هو الحفاظ علي هويتها وغالبيتها اليهودية، وضمان أمنها وسلامة مواطنيها، والحصول على الشرعية والاعتراف والوضع الطبيعي علي المستوى الدولي، والمحافظة علي الارتباط والتواصل مع الأماكن المقدسة اليهودية والرموز الوطنية، والإنهاء الأكيد للصراع مع الفلسطينيين والدول العربية ووقف كل المطالب الأخرى ضدها. ويمكن ترجمة هذه المبادئ إلي منظومة من الخطوط الحمر، وهي تجنّب تدفق سيل من اللاجئين يغيّر من طبيعتها السكانية، والقدس عاصمة لإسرائيل، والاعتراف بارتباطها الديني بجبل الهيكل، وعدم العودة إلي حدود 1967، وضم الغالبية الكبرى من المستوطنين، بمواقعهم الحالية، إلي إسرائيل، وعدم وجود جيش آخر بين نهر الأردن والبحر المتوسط، والحفاظ علي غور الأردن حداً أمنياً شرقياً لإسرائيل حسب الأمر الواقع.
أما بالنسبة إلى الفلسطينيين فيمكن تحديد مصالحهم الأساسية بأنها حياة الحرية والكرامة والمساواة والأمن، وإنهاء الاحتلال، وتقرير المصير، والتوصل إلى حل منصف لقضية اللاجئين، والحكم والسيطرة على المواقع المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، وضمان حصول أي اتفاق علي الشرعية من العالمين العربي والإسلامي. ويمكن ترجمة هذه المبادئ بدورها إلى منظومة من الخطوط الحمر: إقامة الدولة الفلسطينية، مع سيادة حقيقية على ما يساوي مائة في المائة من الأراضي التي احتلت في 1967، وحل لقضية اللاجئين يشمل إعطاءهم الخيار بين العودة إلي مواطنهم الأصلية قبل 1948، والقدس عاصمة لدولتهم، والضمانات الأمنية اللازمة لدولة منزوعة السلاح.
إنّ الدرس المستخلص من المرحلة الانتقالية، ونمط مفاوضات الوضع النهائي التي أنهتها، هو أنّ الاعتماد على نوايا القادة الإسرائيليين أو الفلسطينيين استراتيجية تملك فرصة ضئيلة للنجاح. فطبيعة النزاع واختلال ميزان القوى والسياسات الداخلية علي كلا الجانبين وطابع المفاوضات والتركيبة النفسية للقيادة، هذه العوامل كلها، منعت الطرفين من التحرك في اتجاه حل. والمطلوب للتغلب على هذا المأزق هو عملية مبتكرة، وسيلة لشن ديبلوماسية تكون مستقلة عن إرادة ومشيئة قيادتي الطرفين، ديبلوماسية لا تلبي أفضلياتهما الآنية وتتجاوز الحدود الآنية التي يواجهانها. وسيتطلب تحقيق مثل هذا الاتفاق التدخل النشط للاعبين خارجيين يمكن أن يقدموا رزمة تلقي صدىً وتجاوباً لدى كلا الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، إذ تعالج مخاوفهما واهتماماتهما وتبين أنّ وسيلة ما للخروج من المأزق ممكنة فعلاً.
3    – أفكار حول استراتيجية للاستقلال الفلسطيني
إذا كان باستطاعة إسرائيل التصرف بشكل أحادي الجانب، فلمَ ليس باستطاعة الفلسطينيين ذلك ؟ فقد قدمت مجموعة الوثائق التي صاغتها عناصر وقوى السلام الإسرائيلية والفلسطينية استراتيجية تمكّن من السيطرة على العملية الديبلوماسية وتؤدي إلى استقلال حقيقي ( جيرومي م . سيغال : أفكار حول استراتيجية للاستقلال الفلسطيني – عن صحيفة ” القدس ” الفلسطينية – 31/5/2004 . مع العلم أنّ الكاتب هو عالم أبحاث بارز في مركز الدراسات الدولية والأمنية بجامعة ميرلاند الأمريكية ):
1 – نتيجة للديبلوماسية الفلسطينية والعربية، تدعو الجمعية العامة للأمم المتحدة منظمة التحرير الفلسطينية إلى تشكيل حكومة الدولة الفلسطينية وإلى تحقيق احتكار القوة داخل المجتمع الفلسطيني.
2 – تدعو الجمعية العمومية هذه الدولة الفلسطينية إلى إعلان رغبتها في استخدام وثيقة جنيف كإطار مرجعي للمفاوضات الرسمية مع الحكومة الإسرائيلية، ومن ثم تدعو الجمعية لفترة تسعة أشهر من المفاوضات لرؤية ما إذا كان الطرفان يمكنهما التوصل إلى أية تعديلات متفق عليها على وثيقة جنيف، وستتحول الوثيقة المعدلة إلى اتفاقية سلام نهائية، وإذا لم يتم التوصل إلى تعديلات متفق عليها، فيتم قبول الوثيقة بصيغتها غير المعدلة.
3 – تدعو الجمعية العمومية إسرائيل إلى الدخول في مفاوضات الوضع النهائي مع دولة فلسطين على هذا الأساس، شريطة أن تمارس الدولة الفلسطينية احتكار القوة فيما يتعلق بجميع القوى الفلسطينية.
4 – تقوم منظمة التحرير بالتوافق مع السلطة الفلسطينية بتشكيل حكومة للدولة الفلسطينية، وتعلن عن تولّي السيادة الإقليمية على جميع الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، ولكنها كما ستطلب الجمعية العمومية، تعلن عن استعدادها لاستخدام وثيقة جنيف كنقطة البداية للمفاوضات مع إسرائيل.
5 – تقوم الحكومة الجديدة لدولة فلسطين بتشكيل آلية مدتها 60 يوما يمكن خلالها لأية فصائل فلسطينية مسلحة أن تسعى للاندماج في القوات المسلحة للدولة، وبعد هذه الأيام الستين، يكون محظوراً على جميع الأفراد والفصائل خارج سلطة الدولة حمل الأسلحة، وبعد مرور هذه المدة يكون احتكار القوة للدولة قد طبق، وقد يشمل هذا تأسيس برنامج خدمة وطنية إجباري قد يتطلب مشاركة جميع الذكور بين 18 و 26 عاماً.
6 – مع تأسيس احتكار القوة الفلسطينية، تدعو الجمعية العامة اللجنة الرباعية إلى الاعتراف بدولة فلسطين والانتقال إلى المرحلة الثالثة من خريطة الطريق، استناداً إلى وثيقة جنيف كنقطة انطلاق.
7 – تعلن الدولة الفلسطينية عن تعليق أحادي الجانب للصراع المسلح لمدة عام بهدف خلق البيئة الملائمة للمفاوضات، وتدعو إسرائيل إلى وقف إطلاق نار مماثل.
8 – تعلن الدولة الفلسطينية عن خططها لإجراء أول انتخابات عامة، وتدعو الجمعية العامة إسرائيل إلى تسهيل إجراء هذه الانتخابات، والسماح بظهور أول دولة ديمقراطية عربية.
9 – وعند هذه النقطة سيكون على إسرائيل أن تختار، إما الموافقة أو رفض التفاوض على الأساس المبين من قبل الجمعية العمومية.
وبافتراض الحالة السلبية، بأن ترفض إسرائيل الدخول في المفاوضات، فإنّ دولة فلسطين الجديدة ستبدأ عندها جهوداً على مستوى العالم لعزل إسرائيل اقتصادياً وديبلوماسياً، ويتم البدء بحملة مكثفة في الأمم المتحدة والمحكمة الدولية، وسيكون لها هدف مركز بسيط، وهو أنّ دولة فلسطين قد أُقيمت بناء على قرار للجمعية العمومية، وأنه تم الاعتراف بها بشكل واسع حول العالم، وأنّ إسرائيل قد رفضت التفاوض، ولذلك فإنّ هناك رداً واحداً فقط: إسرائيل يجب أن تنسحب من أراضي الدولة الفلسطينية وتنهي إغلاقها لحدود الدولة مع الأردن ومصر والبحر الأبيض المتوسط. ويجب ألا تعرف هذه الحملة الكلل، وأن تواصل وضع الضغوط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى الانضمام إلى بقية العالم في الدعوة إلى إنهاء الاحتلال إما من خلال المفاوضات أو بأية طريقة أخرى.
4 – الدولة العلمانية ثنائية القومية
في أوساط كثير من مثقفي العالم، سواء أكانت ليبرالية أم يسارية أم مستقلة، تبدو فكرة المحافظة على إسرائيل دولة يهودية حصراً ومعرّفة بالدين اليهودي فكرة مقيتة، وهو المقت نفسه الذي يمحضونه لفكرة الدولة الدينية، بل أنّ كثيراً من السياسيين أيضاً يتبنون هذا المقت ولو بشكل غير معلن. ويرى هؤلاء وأولئك أنّ ” فكرة وجود إسرائيل ” بمسوغات دينية لا تستحق كل الجهد والدماء والأموال الباهظة التي تدفعها شعوب وجماعات هنا وهناك. فالمحصلة النهائية هي إسناد دولة قائمة على مبادئ عنصرية وعلى حساب شعب آخر، الأمر الذي لا يمكن أن يستمر إلى الأبد. لذلك فإنّ أي حل يقوم على التساوي في المواطنة والإنسانية والتخلص من العنصرية الصهيونية سيلقى تأييداً واسع النطاق.
وبغض النظر عن التفاصيل فإن إسرائيل، على الصعيد الداخلي، تواجه مشكلة كبيرة تتمثل بأنّ المسارات الحالية التي تقودها الحكومة الإسرائيلية ستؤدي إلى انهيار عملية التسوية القائم على خيار الدولتين، الأمر الذي يفسح المجال لخيارين: إما الدولة العنصرية اليهودية، على أوسع رقعة من الأراضي وبأكبر عدد من السكان الفلسطينيين المحرومين من الحقوق. أو الدولة الديمقراطية ” ثنائية القومية ” التي تعطي الحقوق لمواطنيها من الفلسطينيين، وكل من هذين الخيارين لا يتوافق مع فرضية إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية، التي تشكل نقطة إجماع لدى الإسرائيليين.
وعلى أية حال فإنّ إسرائيل تبذل جهداً كبيراً لمواجهة هذا الكابوس الديمغرافي، عبر تحسين علاقاتها بالتجمعات اليهودية في العالم، واستصدار التشريعات التي تشجع على الهجرة والتي تسهّل على النازحين منها العودة إليها، أو المشاركة في العمليات الانتخابية التي تجري فيها.  ولكن مهما حاولت إسرائيل فإنها ستظل حائرة أمام عقدة الجغرافيا والديمغرافيا، والمشكلة أنّ تخليها عن أحد الجانبين ينزع عنها مبرر وجودها، ولكن ثمن ذلك هو البقاء والتحدي، يتمثل فيما تختاره إسرائيل، فهل تختار الأرض، أم تختار التخلي عن كونها دولة يهودية ؟
الآفاق على المسار السوري – الإسرائيلي
مرت المفاوضات السورية – الإسرائيلية منذ مؤتمر مدريد في أكتوبر/تشرين الأول 1991 بست مراحل:
(1)    – شملت خمس جولات من المفاوضات الثنائية تم عقدها بواشنطن في الفترة الممتدة حتى أبريل/نيسان 1992 إبان حكومة الليكود بقيادة اسحق شامير.
(2)    – بدأت مع تولي حكومة حزب العمل بقيادة اسحق رابين في يونيو/حزيران 1992، وشملت ثلاث جولات أخرى في النصف الثاني من عام 1992، وثلاث جولات أخرى في عام 1993.
(3)    – شملت جولتين عقدتا في عام 1994، وجولة أخرى عقدت في فبراير/شباط 1995، بينما لم يشهد ما تبقى من العام أية جولات إضافية، مما يدل على الجمود الذي أصاب المسار السوري – الإسرائيلي.
(4)    – بدأت مع تولي شمعون بيريز رئاسة الوزارة الإسرائيلية في أعقاب اغتيال رابين في نوفمبر/تشرين الثاني 1995، وشملت هذه المرحلة عددا من الجولات التي عقدت قرب واشنطن تحت إشراف أمريكي (رفع مستواها إلى مستوى رئيسي أركان البلدين)، واستمرت إلى ربيع العام 1996.
(5)    – أعطى انتخاب باراك زخماً كبيراً للمفاوضات تمثل بحصول أول اجتماع على مستوى رفيع تمثل بلقاء وزير الخارجية السوري آنذاك فاروق الشرع وباراك في ” بلير هاوس ” في نهاية العام 1999, تدشيناً لخطوة تفاوضية أكثر جدية تمثلت في محادثات شيبردزتاون بين باراك والشرع في بداية عام 2000.
اعتقد باراك بقوة أنّ الرئيس الراحل حافظ الأسد سيقبل الاتفاق الذي كان يعد له: إعادة كل مرتفعات الجولان إلى سورية باستثناء شريطين في محاذاة بحيرة طبريا وفي محاذاة الضفة الشرقية لنهر الأردن.
وبعدما توقفت مفاوضات شيبردزتاون بسبب رفض باراك ” ترسيم ” حدود يونيو/حزيران, بحسب الاعتقاد السوري, بقيت القمة بين الأسد وكلينتون في 26 مارس/آذار  2000 الأمل الوحيد لتحقيق اتفاق السلام. وتقول وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك مارلين أولبرايت عن هذه القمة: أعرب كلينتون عن السرور لأنه تمكن من كسب ثقة سورية من دون فقدان ثقة إسرائيل. وعندما قال أنه سيقدم عرضاً رسمياً لما كان الإسرائيليون مستعدين للقيام به, أجاب الأسد ” جيد. لن أرد حتى تنتهي, لكن ماذا في شأن الأراضي ؟ وعندما قال كلينتون: ” الإسرائيليون مستعدون للانسحاب كلياً إلى حدود متفق عليها في صورة مشتركة “, رد الأسد: ماذا تعني بـ ” متفق عليها في صورة مشتركة ” ؟ بدأ الرئيس كلينتون يشرح وأخرج منسق عملية السلام دينس روس خريطة تستند إلى أفكار باراك, وكانت تبين خطاً يمتد على طول الضفة الشرقية لنهر الأردن وبحيرة طبريا, مع تحديد واضح لشريط الأرض الذي يريد باراك الاحتفاظ به. قال الأسد: إذا هو لا يريد السلام, من دون حتى أن ينظر إلى الخريطة وقال: انتهى الأمر.
(6) – المفاوضات غير المباشرة تحت إشراف تركيا، على امتداد عام 2008، والتي توقفت بعد العدوان الإسرائيلي على غزة في أواخر العام.
لقد أدت المفاوضات السورية – الإسرائيلية، في مراحلها الست، إلى تقدم في النقاط التالية:
1 – الانسحاب، حيث التزم الإسرائيليون تجاه الإدارة الأمريكية الانسحاب الكامل من الجولان ” وديعة رابين ” في يوليو/تموز 1994. وبحسب خبراء سوريين, بدأ كلينتون حديثه لدى لقائه الأسد في القمة الأمريكية – السورية التي عقدت بدمشق في أكتوبر/تشرين الأول 1994 ” لا يزال لدينا تعهد رابين بالانسحاب إلى خط 4 يونيو/حزيران “. وفيما تعهد كلينتون بوجوب أن ” لا يكون أمن طرف على حساب الطرف الآخر ” وأن يتحقق الأمن لـ ” جميع الأطراف ” في الشرق الأوسط لطمأنة السوريين ومطالبهم في تفاصيل الترتيبات الأمنية, تحدث الأسد للمرة الأولى عن ” علاقات السلم العادية بين سورية وإسرائيل ” وأنّ ” السلام خيار استراتيجي “.
2 – الترتيبات الأمنية، حيث وافقت سورية على بحث ترتيبات الأمن التي ستقام بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي، على أساس ” الإطار المفاهيمي ” الذي تم التوصل إليه في مايو/أيار 1995 تحت إشراف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وارن كريستوفر.
3 – طبيعة السلام، حيث ربط الإسرائيليون عمق الانسحاب بعمق التطبيع، وتحدثوا عن سفارة وحدود مفتوحة وتعاون اقتصادي. فيما أكد المفاوضون السوريون الاستعداد لتقبل ” الظروف الموضوعية للسلام ” وإقامة ” علاقات عادية ” مع إسرائيل بحيث لا تكون علاقات ” مميزة ” بل مماثلة لعلاقة سورية مع أية دولة أخرى.
4- التزامن وجدول الانسحاب، حيث تحقق التقدم في طبيعة العلاقة بين عنصري التطبيع والانسحاب، وبقي الخلاف قائماً بين الطرفين حول التزامن. فقد طالب السوريون بانسحاب فوري وفق ما يحتاجه الانسحاب لوجستياً في مقابل إقامة علاقات بشكل تدرجي، في حين أنّ الموقف الإسرائيلي طالب بانسحاب طويل الأجل وتطبيع فوري.
وبعد أن أصدر دينس روس كتابه ” الفرص الضائعة ” في 13 أغسطس/آب 2004 سئل: بالنسبة إلى المسار السوري، هل كانت هناك فرصة ضائعة مشابهة لـ ” كامب ديفيد ” ؟ ولماذا فشل هذا المسار؟ وهل تتجه سورية وإسرائيل نحو السلام هذه الأيام ؟ أجاب: نعم، أعتقد أنه كانت هناك فرصة ضائعة مع السوريين، لكن هنا في هذه الحالة ليست بسبب أنّ أحد الجانبين لم يكن لديه زعيم قادر على اتخاذ القرار التاريخي، وإنما لأنّ الزعيمين لم يكونا مستعدين في الوقت نفسه، فعندما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق رابين مستعداً، لم يكن الرئيس حافظ الأسد جاهزاً،  وبعد ذلك عندما كان باراك مستعداً لم يكن الأسد كذلك، وعندما أصبح الأسد مستعداً بين ديسمبر/كانون الأول 1999 ويناير/كانون الثاني 2000 لم يكن باراك جاهزاً، ولاحقاً عندما أصبح باراك مستعداً ركز الأسد جهوده على  توريث الحكم ثم توفي.
وكان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، في كتابه “حياتي”، قد اتهم إسرائيل بأنها هي المسؤولة عن فشل مفاوضات شيفرذتاون مع السوريين. وكتب كلينتون ” أنّ سورية أبدت مرونة كبيرة جداً في المفاوضات، لكنّ رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق، أهودا باراك، الذي تخوف من الرأي العام الإسرائيلي الذي لم يكن مهيئاً لتقديم التنازلات، طلب العودة إلى إسرائيل لبضعة أيام “.
وكتب كلينتون أيضاً أقوالاً سبق أن نشرت، ولكنه أكدها للمرة الأولى، جاء فيها ” لقد تعهد لي اسحق رابين، قبل اغتياله، بالانسحاب من هضبة الجولان إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، لكنّ الالتزام قدم لي على أن أحفظه في جيبي إلى أن يكون بالإمكان عرضه على السوريين في إطار اتفاق شامل. وبعد وفاته، أقر بيريز الالتزام. لقد أراد بيريز منا أن نوقع على اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل، مقابل تنازل إسرائيل عن الجولان. لقد نزع نتنياهو إلى هذه الفكرة أيضا، ومثله فعل باراك كذلك. لقد قلت لهم إنني مستعد لفعل ذلك ” .
وفي العهد السوري الجديد تباينت الردود الرسمية الإسرائيلية بين ربط استئناف المفاوضات بتخلي سورية عما تسميه ” دعم الإرهاب ” أو العودة إلى مائدة التفاوض ” من النقطة الصفر “. وفي المقابل, تمسك المسؤولون السوريون بما قاله الرئيس بشار الأسد في حديثه إلى صحيفة ” نيويورك تايمز “:  نرغب في استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها لكي نتوصل إلى أفضل النتائج في أقصر وقت ممكن، خصوصا أننا اتفقنا على80 % من نقاط عملية السلام.
لقد حققت القيادة التركية اختراقا ديبلوماسيا مهما في السياسة الخارجية، حين رعت المفاوضات الإسرائيلية – السورية غير المباشرة، ولكنّ الغريب في الأمر أنّ الوساطة التركية أعلنت عن نفسها – رسمياً – في خضم لوحة قاتمة جداً في المنطقة، وفي ظل التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتكررة لضرب إيران و ” حزب الله ” في لبنان و ” حماس ” في قطاع غزة. وهذا طرح تساؤلات وشكوكاً، أكثر مما طرح آمالاً، في أن يكون استعداد إسرائيل للسلام مجرد مناورة، لأنّ السلام مع سورية لا يمكن أن يكون معزولاً عن مصير باقي الملفات. فهل يمكن لسورية أن تنفرد بالسلام مع إسرائيل على حساب علاقاتها مع إيران و ” حماس ” و ” حزب الله ” ؟ وهل تكفي الحلول ” المبدعة ” التركية لتسوية قضايا الصراع السوري – الإسرائيلي، مثل التعامل مع بحيرة ” طبرية ” مثلما يتم التعامل مع طابا المصرية، أي أن تكون خاضعة للسيادة السورية، لكن من دون جيش، فيما يحق للإسرائيليين دخولها من دون تأشيرة دخول ؟ وهل تحويل السلام المفترض إلى فرصة اقتصادية سورية وإسرائيلية ولشركات عالمية، بما فيها الشركات التركية، العاكفة على إعداد خرائط وتصاميم لمشاريع سياحية دولية ولاستثمارات هائلة في النصف الجنوبي من الجولان المتاخم للحدود الدولية مع إسرائيل ؟  وهل أنّ مشروع الحديقة الدولية في الجولان ” وديعة إبراهيم سليمان ” كان من القضايا المطروحة في اللقاءات، غير المباشرة، التي جرت بين الطرفين ؟
لقد كان واضحاً منذ البداية للطرفين الإسرائيلي والسوري، أنّ المفاوضات بينهما سوف تكون صعبة وقاسية، فبعد ثمانية عشر عاما على انطلاق مؤتمر مدريد للسلام لابد من إطلاق التكهنات حول الأسئلة نفسها:
ـ كامل الأرض مقابل كامل السلام، فأين حدود الأرض التي ستنسحب منها إسرائيل ؟ ما قبل 5 يونيو/حزيران ؟ بما في ذلك الحمة والمرتفعات ؟
ـ والمدد الزمنية ؟ على مراحل ؟ أم عبر مرحلة واحدة ؟!
ـ ومحطات الإنذار المبكر أين ستكون مواقعها في الفضاء أم فوق التلال ؟
ـ ولبنان ؟ أين هو في التسوية ؟ ما وضع الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا ؟
وبالرغم من تعليق المفاوضات الإسرائيلية – السورية المباشرة منذ العام 1999 فإنّ التسوية في هذا المسار قد أخذت تصميمها وحركتها وقوة دفعها في ” الإطار المفاهيمي ” الذي تم التوصل إليه في أواسط سنة 1995، وفي جملة اللقاءات المكثفة التي تمت بين رئيسي أركان البلدين، وخاصة جولات المفاوضات في ميرلاند. حيث ظهر واضحاً أن كلا الطرفين ملتزم بتحقيق الأهداف المرسومة، مما يمكن أن يوفر الإطار لاتفاق سلام في المستقبل. فعلى ما يبدو أنّ الإدارة الأمريكية قد نجحت في مساعدة الطرفين على تحديد مواقفهما من القضايا الرئيسية العالقة بينهما، مثل الانسحاب الإسرائيلي وحجمه من هضبة الجولان السورية، جدول الانسحاب الإسرائيلي، الترتيبات الأمنية في الجولان وعلى حدود البلدين بعد التوقيع على معاهدة السلام بينهما، السلام وتطبيع العلاقات بين البلدين ومستويات تلك العلاقات، والمقترحات الخاصة بتقاسم السيطرة على مصادر المياه في المنطقة بعد الانسحاب الإسرائيلي، بل وتفاصيل ذلك أيضاً، مثل مستوى التمثيل السوري والإسرائيلي في عاصمتي البلدين، ومتى سيبدأ ذلك، وما إلى ذلك من تفاصيل.
ومما يؤكد ما توصلنا إليه أن النقاط التي تم الاتفاق عليها لاستئناف المفاوضات في ميريلاند تتضمن ثلاثا ذات أهمية كبيرة مستقبلا:
1 – تحويل هضبة الجولان إلى مركز للتعاون الاقتصادي.
2 – استمرار الولايات المتحدة الأمريكية بالقيام بدور أساسي في المفاوضات.
3 – ضمان الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
إنّ المفاوضات الإسرائيلية ـ السورية القادمة ستدور حول قضايا الانسحاب والترتيبات الأمنية والجدول الزمني والتطبيع، وقد أضاف إليها المفاوضون الإسرائيليون والشريك الأمريكي، خاصة بعد العزلة السورية إثر صدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، ضرورة الضغط السوري على منظمات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، واقتصاد السلام ونظرية السلام الدائم مع كل ما يترتب عليهما من إجراء إصلاحات وتغيّرات في السياسات الداخلية السورية.
وهكذا، يمكن تلخيص قصة الشرق الأوسط السياسية في العشرين عاماً المقبلة في مفهومين أساسيين: أولهما، هو مفهوم السلام كحزام أمن للوضع الإقليمي بين الدول. وثانيهما، هو التحول المؤسسي القائم على مجموعة قيم عالمية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإذا كان المفهوم الأول سيحكم علاقات الدول بعضها ببعض، وخصوصاً حالة العرب وإسرائيل، فإنّ المفهوم الثاني يركز على علاقات الدول بمجتمعاتها حيث تدفع التيارات العالمية الحكومات إلى مزيد من الشفافية وإلى الانتقال من شخصنة السياسة، أي ربط مصير الأمة بشخص ما، إلى مأسسة السياسة، وربط مصير الدول والمجتمعات وعلاقتها بمدى حيوية المؤسسات وتكيفها للتعاطي مع المؤسسات العالمية المماثلة. وهذا يقودنا إلى المفهوم الثاني في معادلة الأمن والاستقرار الشرق أوسطي وهو مفهوم الإصلاح أو التحول بناء على عدة مفاهيم قيمية مقبولة عالمياً أو ممثلة للحد الأدنى للحكم الرشيد. والإصلاح لا ينطبق على الحالة العربية فقط، فهو ينطبق على إسرائيل أيضاً، التي عليها أن تنتقل من عقلية ” الدولة – المعسكر ” إلى الدولة المدنية.

تونس في 13/10/2009                     الدكتور عبدالله تركماني
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى