نقد الوعي الطائفي الشفوي مثالاً
محمد ديبو*
ربما لم تأخذ مسألة فكرية كماً هائلاً من النقاش والدراسة والبحث بقدر ما أخذت مسألة الطائفية والأقليات من نقاش وجدل في العالم العربي, واللافت هنا أن هذا الكم الهائل من البحث والدراسة يرافقه تراجع فظيع على مستوى الواقع من ناحية زيادة حجم الطائفية وسوء وضع الأقليات وبروز واضح للانتماءات العصبية والقبلية والطائفية بأقبح أشكالها, الأمر الذي يستدعي تأنيا كبيرا ومراجعة أكثر تدقيقا وتمحيصا عن أسباب هذا الفشل, إذ لا بد من طرح أسئلة جذرية ونقدية في العمق للفكر الذي عالج مسألة الطائفية في العالم العربي, ومساءلته عن مدى فشله في مقاربتها مقاربة صحيحة, إذ لم يعد يكفي القول إن الفكر أنجز مهمته وأوضح أن الطائفية والأقليات مسألة ينتهي أمرها مع إنجاز الدولة الوطنية التي تلغي الانتماءات الضيقة لمصلحة هوية وطنية تذوّب ما لم يذّوب بعد.
ولكن كيف يمكن إنجاز الدولة الوطنية المنشودة تلك, والوعي الطائفي هو المتحكم والمسيطر, ليس فقط بين أوساط العامة بل في أوساط النخب الفكرية نفسها التي تنتقد الطائفية وتنادي بالعلمانية, وفي أوساط السياسيين وقادة الأحزاب, هذه الأحزاب التي عقدنا عليها الأمل يوماً لتقودنا نحو المواطنة الحقيقية فاكتشفنا متأخرين عقم ما أوصلتنا إليه, إذ وجدنا أنها أكثر تمسكاً بطائفيتها, وكثيراً ما لعبت على المكون الطائفي لزيادة شعبيتها وجمهورها عبر مداعبة الحس الطائفي البدائي لهذه الشعوب والعمل على تخديرها ليتسنى لها الحفاظ على مكاسبها.
ولكن لنعد إلى السؤال الجوهري: لماذا فعلا فشلنا في مقاربة هذا الموضوع وفهمه؟ لماذا بعدما ظننا أن الطائفية في طريقها إلى الزوال اكتشفنا أنها أكثر تجذراً وتمسكا وقوة من أي وقت مضى؟
من خلال مراجعة ما كتب عن الطائفية مذ كتب مهدي عامل كتابه «في المسألة الطائفية» حتى الآن, سنكتشف أن أغلب البحوث والدراسات كانت ثقافوية ومعرفية ونظرية أكثر منها عملية, أي كانت تنطلق من أن الطائفية مرض ويجب إزالته عن طريق بناء دولة القانون، متناسين أن دولة القانون يبنيها الجمهور الواعي المتجاوز في وعيه لمسألة الطائفية, ولا يمكن أن تبنيها دساتير دولة وطنية في الوقت الذي تحفل ثقافة جمهورها بالوعي الطائفي. وهنا أرى أنه لا بد من قلب المعادلات ودراسة المسألة الطائفية على مستوى وعي الجمهور بها, أي كيف يفكر الإنسان الطائفي؟ وما هي ردود فعله؟ وكيف تتلبس الطائفية في فكر جمهور طائفة ما وهي تظن مقتنعة مئة بالمئة أنها ليست طائفية في تفكيرها بل الطوائف الأخرى هي الطائفية … هذه الأسئلة التي يظن للوهلة الأولى أنها معروفة للجميع، وخاصة للمثقفين، هي الأكثر صعوبة, لأنها تحتاج إلى التلوث في وحل الطائفية عبر مقاربتها في العمق, عبر تشريح الأمثلة والأقوال التي تحكيها كل طائفة على الأخرى, بدل الاكتفاء بالنقد البعيد والسطحي والفوقي, أي لا بد من نقد الوعي الطائفي وكيفية تمثله شعبيا في ذهن أتباع كل طائفة, عبر أسئلة جوهرية منها:
1ـ ما الذي يتعلمه ابن الطائفة داخل طائفته عن الطوائف الأخرى؟ ما هي نظرة طائفته الحقيقية لا المزيفة التي نتداولها حقيقة عبر النفاق والتظاهر والرياء؟
2ـ ما علاقة هذا الوعي الطائفي المشوّه بدين الطائفة الحقيقي؟ هل هو نتاج هذا الدين؟ هل هو وعي ديني / طائفي مركب؟ أم أنه مجرد تسلق للطائفي على حساب الديني, بحيث أصبح مع الزمن يبدو كأنه تديين للطائفي عبر إيهام الناس بأن الدين هو ذلك الوعي الطائفي المشوّه والمأزوم.
3ـ لماذا يستمر الوعي الطائفي في ذهن المتعلمين الذين دخلوا جامعات علمية من المفترض أن تكون مهمتها, تعليم الطالب على نبذ الخرافة وتحكيم العقل في عملية تلقي المعلومة والخبر, حيث نجد أن نسبة الطائفية بين المحامين والأطباء وأصحاب الشهادات، بما فيها الدكتوراه، مساوية تقريبا لنسبتها في أوساط غير المتعلمين!
4ـ أخيرا لا بد من البحث عن صيغ عملية يمكن تطبيقها على أرض الواقع لمحاربة الطائفية عبر العمل على تشجيع الزواج المدني, عمليا لا نظريا، عبر إحداث جمعيات تساعد الشبان على الزواج وتأمين أفضل الوسائل للوصول إلى زواج مستقر خال من المشاكل، ويمكن البحث في مسألة العمل على إحداث مقبرة مشتركة لكل الطوائف, وهو اقترح صائب اقترحه الصديق سعيد ناشيد عبر مناقشات تجري بيننا بشأن العلمانية, أي لا بد من البحث عن إمكانات تفعيل العمل عمليا بدل الاكتفاء بالتنظير عن بعد!
قد يقول قائل إن هذه المقاربة معروفة للجميع ولا يحتاج إلى البحث فيها, وهنا نقول إنها معروفة لي ولك كمهتمين بالشأن العام, ولكنها غير معروفة على نطاق الناس العاديين الذين يؤمنون بما تعلمهم إياه الثقافة الشفوية المتداولة داخل طوائفهم, ونساهم نحن في تضليلهم عبر سكوتنا على ذلك وعدم تجرئنا على فضح الثقافة الشفوية المتداولة داخل طوائفنا, لتبقى كل طائفة متمسكة بما لديها ومنغلقة على معرفتها المزيفة بالطوائف الأخرى وعاداتها وتقاليدها, دون أن تجرؤ أي طائفة على الاقتراب من منظومة وعي الطوائف الأخرى ومساءلتها أو على الأقل محاولة فهمها, ونحن نجزم بأن هذا الأمر عندما يطرح على نطاق البحث سيساعد في عملية فهم الطوائف بعضها لبعض، ما يقود في النهاية إلى رفض الكثير من المقولات الجاهزة التي يتعلمها الفرد داخل طائفته.
وهنا أعتقد أنه يجب أن يكون عملنا الأكثر جذرية وعملية لنقد الوعي الطائفي عبر تسليط الضوء على الثقافة الشفوية المتوارثة عبر الأجيال وتبيان كيفية احتفاظها بتلك القداسة والاستمرارية رغم لاعقلانيتها وجنونها، ولكنها رغم ذلك تحكمنا, أليس علينا أن نفهم جيدا من يحكمنا حتى نتخلص منه؟
*كاتب وشاعر سوري
خاص – صفحات سورية –