مسألة الأمن بين إسرائيل والعرب
سليمان تقي الدين
ظهر نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل متوتراً، مذعوراً، وهو يتحدث في الكنيست عن تقرير القاضي ريتشارد غولدستون الذي يحمل إدانة لجرائم إسرائيل في حربها على «غزة». يشكّل تقرير غولدستون سابقة تعرِّض مجرمي الحرب في الكيان الصهيوني لمساءلة قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو محاكم دول أوروبية تقر أنظمتها الصلاحية الشاملة لملاحقة الجرائم ضد الإنسانية. لكن الأهم ما قد يمهّد لمطلب فرض العقوبات الدولية لأول مرة على إسرائيل.
قد يكون ذلك هو المدخل لكبح جماح الحكومات الإسرائيلية في تعاملها مع حقوق الشعب الفلسطيني. خطورة موقف حكومة السلطة الفلسطينية أنها أضاعت فرصة تؤسس لشيء من إلزام إسرائيل باحترام القانون والاتفاقات الدولية، أو التصرف بشيء من الحذر تجاهها. ردة فعل نتنياهو أعادت تعريفه لأمن إسرائيل وتأكيده على حق الدفاع عن النفس.
يستنفر الغرب مجدداً حول ما يعتبره «التلاقي» الذي نسمعه في كل خطاب ونراه في كل مبادرة: أمن إسرائيل بوصفه ثابتاً لا يقبل الجدل وحقها في الدفاع عن نفسها في مواجهة الشعب الذي اغتصبت حقوقه الوطنية. كل التقدم الذي يمكن أن نلحظه في بعض المواقف أو السلوكيات يكاد يقتصر حتى الآن، بالنتيجة العملية، على حقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية. لا تُدان إسرائيل طبعاً على أصل وجودها ولا على حروبها ضد الآخرين، بل تُلام على الإفراط في استخدام القوة وعلى الحجم الهائل الذي تحصده من الضحايا المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، وقد يتسع المدى ليشمل تدمير مقومات الحياة المدنية ومؤسسات الخدمات. من هنا كان أسوأ ما عرفنا من تبريرات لعدم تحريك لبنان قضايا العدوان الإسرائيلي ومتابعتها وتحديداً حرب تموز
أمام المحافل القضائية الدولية، ذريعة تقول إن المقاومة أوقعت أضراراً بالمدنيين في إسرائيل، وتكرّر الموقف نفسه في مسألة الحرب على «غزة» وقال البعض إن صواريخ القسّام وبالتالي «حماس» قد تخضع لمساءلة أيضاً. طبعاً من شأن جمعيات حقوق الإنسان أن تجد مثل هذه المخارج والتخريجات خاصة حين تعزل هذه الأحداث عن الجريمة الأصلية أو تُسقط الحق الأصلي بالمقاومة وتقرير المصير. لكن أن تقع حركة مقاومة أو حركة تحرّر وطني في شباك هذا المنطق يعني أن تتخلى عن هويتها ووظيفتها ودورها وقضيتها. ليس في الأمر مجرّد انحراف سياسي بين خيارات ثقافية تتعلق باحترام حقوق الإنسان أو عدم احترامها، بل هو سقوط سياسي وتغافل مقصود عن الحقوق الوطنية. فلا قيمة لهذه الحقوق ما لم تتم ممارستها والتشديد عليها وجعلها الموضوع الأساس مع احترام كل الضوابط والقيم الإنسانية. ما جرى ويجري التفريط فيه في مسار النضال الفلسطيني أصل الحقوق أولاً والكثير من الالتزامات الدولية ثانياً. دخلنا منذ زمن في سياسة «الملاءمة» وقبلنا تأويلات للقرارات الدولية المجحفة أصلاً، وتوغلنا في التنازلات والمساومة حتى على الحقوق الإنسانية نفسها. ما زال تجريف الأراضي وقطع الأشجار وهدم المنازل واحتلالها والاستيطان وتدمير المؤسسات الإنسانية والحصار وقطع العناصر الأولية للحياة ومنعها مستمراً، وعلى أراضٍ يعترف «المجتمع الدولي» و«القانون الدولي» بأنها أراضٍ محتلة، ويجب على الاحتلال أن يراعي قوانينه فيها.
لكن بيت القصيد أننا أمام كيان وُجد بالقوة ولم يرسم حدوده بعد، وما يزال يتصرف بوحي من أسطورة ابتدعها ومن دعم استعماري يحميه. هو الذي يحدّد أمنه بمعزل عن أمن الآخرين ويعطي لنفسه شرعية انتهاك كل الشرع والشرعيات تحت عنوان الدفاع عن النفس. ليس هذا مجرّد تكرار لنظرة العرب إلى إسرائيل، فقد صارت إسرائيل اليوم جزءاً من مشروع يمتد في أعماق آسيا وأفريقيا، وقد ساورتها طموحات أن تلعب بمصير الدول الناشئة في أوروبا الشرقية بعد انهيار المنظومة السوفياتية.
نحن أمام تصوّر إمبراطوري لأمن إسرائيل يركّز اليوم على «التحدي الإيراني» وقد يمتد غداً إلى تركيا بعد تدهور العلاقات، وهو يتجذر في حدود السودان ومصر وبعض دول أفريقيا كما في شمالي العراق، ويرسم لنفسه دوراً في مصائر النفط والمياه وفي مستقبل الموارد الغذائية الطبيعية.
هذا التجديد في المشروع الصهيوني الذي ربما يطوي شعار إسرائيل الكبرى لصالح إسرائيل العظمى قد يجد إغراءاته اليوم في ما بات يُعرف بتشطير العالم الإسلامي مذهبياً وقومياً وفي بعث كل البنيات الطائفية والقبلية وتشجيع ما يسمى الأنظمة التعددية في الظاهر تبريراً ليهودية الدولة، وفي الباطن إلغاء لهوية المنطقة القومية أو الثقافية. ففي مناخ صراع الحضارات والثقافات والأديان أو نظرية الحوار بينها هناك نتيجة واحدة تؤدي إلى إقامة الكيانات السياسية على هذه الهويات التي لا عدّ لها ولا حصر.
وليس بالضرورة لهذا «السيناريو» أن يتجسّد في دول أو دويلات تعيد النظر بالكيانات الحقوقية، يكفي من هذا المشهد أننا افتتحنا مساراً سياسياً من النزاعات التي تفكّك المجتمعات في بعض الدول العربية، لكي لا تعود الوطنية قائمة كما لم تعد القومية من قبل. ومن يمن الحوثيين والزيود والشوافع، إلى لبنان السنة والشيعة والدروز والعلويين، إلى عراق العرب والكرد والسنة والشيعة والكلدان والأثوريين واليزيديين، إلخ. ولن نتوسع فنوسع من الخيال السياسي المريض الذي بات يحكم فئات متزايدة من الناس، سنصل قريباً إلى بعث الفئويات في دول كبرى إقليمية متماسكة من إيران إلى تركيا وباكستان وغيرها.
لا يمكن معالجة هذه التحديات إلا بسياسات معاكسة لهذا المسار في النظرة إلى خطر إسرائيل واتساع النزاعات الإقليمية، من خلال تجديد المشروع العربي في كنف علاقات صحية وسوية مع شركائه في جغرافية المنطقة وتراثها وثقافتها. يفترض هكذا مشروع محاصرة الصهيونية وجميع الهويات الدينية من أن تصير هويات سياسية، مهما كانت مذاهبها. هذا ليس خياراً بل ضرورة للبقاء، لأن ما نسميه هيمنة إمبريالية على المنطقة يستوطن في هذه الدواخل التاريخية والموروثة.
المناورات الإسرائيلية الأميركية المشتركة تمهّد لتحقيق مطلب إسرائيلي قديم في تعاون استراتيجي وربما انضمام إلى الحلف الأطلسي. استعاد الأمن الإسرائيلي معناه كجزء من منظومة العلاقات الإمبريالية. لا أفق لمواجهة إسرائيل من دون استراتيجيات إقليمية مقابلة. إرساء نظام إقليمي عربي ـ إسلامي بات أكثر من ضرورة. التعاون السوري التركي الإيراني نموذج لذلك. مغزى هذا الحدث أن تبحث المنطقة عن تكامل مكوّناتها بوجه محاولات تشكيلها من الخارج «بنظام شرق أوسط جديد» أو تحت عنوان آخر.
السفير