العلمانية والإسلامية تجمعان سوريا بتركيا
سركيس نعوم
كانت لسوريا حافظ الاسد، رحمه الله، نظرة تقدير وربما احترام للنظام العلماني الحاكم في تركيا منذ عقود طويلة رغم الخلاف العميق بينهما حول امرين. الاول، تاريخي اذا جاز التعبير ويتعلق بلواء الاسكندرون الذي “سلبه” الفرنسيون من سوريا بعد الحرب العالمية الاولى واعطوه لتركيا الجديدة التي كان بدأ مصطفى كمال (اتاتورك) تأسيسها. واستمرت سوريا على تعاقب الانظمة الحاكمة فيها واختلافها واحياناً تناقضها في المطالبة باستعادته بكل الوسائل المناسبة.
اما الثاني، فسياسي وعملاني. وجوهره اتهام تركيا سوريا بايواء اكرادها المتمردين عليها والمطالبين بالانفصال عنها وبتأمين قواعد تدريب لهم في البقاع اللبناني الذي كانت “تديره” مثلما كانت “تدير” كل لبنان بموافقة عربية شبه كاملة ومباركة دولية عمادها الاول الولايات المتحدة وبتوفير الملجأ في دمشق لقيادة هؤلاء التي كان على رأسها لمدة طويلة من الزمن عبدالله أوج ألان. وقد لاحظ النظرة المذكورة قطب سياسي لبناني يشغل الناس ويملأ الدنيا دائماً بمواقفه وتطوراتها كي لا نقول انقلاباتها كان في لقاء مع المسؤول السوري الاول في لبنان في حينه. اذ سمع منه بعدما بادر هو الى توجيه انتقادات حادة الى تركيا وخصوصاً الى عسكرها وارتكاباتهم وارتباطاتهم رداً فيه من القساوة والتصويب الشيء الكثير كان أبرز ما تضمنه: وممَ يشكو نظام تركيا وعسكرها؟ فهو على الاقل علماني والعسكر يقومون بحمايته. فهل انت ضد العلمانية ومع الاصوليات؟
الا ان الخلاف المذكور حول الامرين المذكورين اعلاه استمر لاعتقاد سوريا الاسد الأب ان التفريط بالجغرافيا ليس سهلاً وان مشكلة لواء الاسكندرون لا بد ان تجد لها حلاً في يوم من الايام وخصوصاً عندما تنضج ظروف المنطقة وتصبح الدول الكبرى مؤهلة فعلا او راغبة في تأسيس وضع مستقر وثابت في هذه المنطقة من العالم. ولم يكن الحل في رأي سوريا تلك “استعادة” الحق الذي سلبته بل ترتيب اكبر واشمل. اولاً، لأن ميزان القوى لا يسمح بها. وثانياً، لأن الديموغرافيا قد تكون تغيرت كثيراً في العقود الطويلة التي مرت على “عملية السلب”. وثالثاً، لأن تغيير حدود الدول التي رُسمت في اعقاب الحرب العالمية الأولى وحدود الدول التي رُسمت في اعقاب الحرب العالمية الثانية لم يكن مطروحاً في حينه. ولا يزال غير مطروح الآن. ولن يُطرح مستقبلاً الا اذا شهد العالم حرباً عالمية ثالثة ولا يعرف احد اذا كانت ستبقي او ستذر. واستمر الخلاف المذكور لاعتقاد سوريا الأب نفسها ان “رعايتها” اكراد تركيا الانفصاليين ليس من شأنها دفع المسؤولين في انقرة الى اتخاذ قرار باللجوء الى العمل العسكري ضدها سواء لاستئصال هؤلاء وقيادتهم او لمعاقبتها هي. وبَنَت اعتقادها على عدم وجود ادلة حسية على عمق تورطها في النشاط الكردي الانفصالي عن تركيا ضدها سواء داخل اراضيها او خارج هذه الاراضي.
طبعاً لم يبق الخلاف الجغرافي – السياسي اذا جاز التعبير مستمراً بين دمشق وانقرة. ذلك ان القيادة التركية السياسية – العسكرية حصلت بنتيجة خطأ سوري، عوقب صاحبه فور وقوعه، على ادلة دامغة لا تقبل المناقشة تؤكد تورط سوريا الاسد الاب في الموضوع الكردي – التركي، فقررت انقرة الاستعداد للحرب بل شنها اذا لم تعمد دمشق الى تسليمها زعيم الاكراد عبدالله أوج ألان. وابلغت الى القيادة السورية موقفها لا بل ان استعداداتها الميدانية على الحدود المشتركة كانت خير بلاغ. وبعد التشاور مع واشنطن ادركت سوريا ان تركيا لا تمزح، “فخرج” منها أوج ألان و”حطّ” في سجن تركي بعد مسرحية رديئة. وبدأ التحسن في العلاقات السورية – التركية الى ان اصبحت في عهد سوريا بشار الاسد اي الابن ممتازة. وساعد ذلك مع اعتبارات اقليمية ودولية عدة في ايجاد حل للخلاف الجغرافي خدم مصلحة تركيا طبعاً وفقاً للتوقعات العامة.
كيف اثر وصول الاسلاميين الاتراك الى الحكم في بلادهم واستمرارهم فيه على الاقل حتى الآن على علاقات سوريا الاسد، التي تصف نفسها وإن على نحو غير رسمي بالعلمانية او هكذا يصفها العالم، بتركيا؟ اعتقد كثيرون ان تأثيره سيكون سلبياً. لكن ما حصل كان العكس اذ وصلت علاقات دمشق وانقرة الى درجة التحالف تقريباً والتطابق في المواقف من قضايا المنطقة والعالم او على الاقل الى درجة التقارب الشديد فيها. واسباب ذلك عند كل من البلدين كثيرة ومنطقية. فاسلاميو تركيا اكدوا تمسكهم بالنظام العلماني في بلادهم واحترامهم إياه وحرصهم على عدم تجاوز الخطوط الحمر رغم اتخاذهم مواقف عدة تؤكد هويتهم الاسلامية. وقادة هذا النظام او حراسه كما يُسمون صدَّقوا ذلك وتعاملوا معه على هذا الاساس رغم الحذر الذي يستمر في طبع العلاقة بين الفريقين وهذا امر طبيعي. وما دفع الاسلاميين الى التعقل كان اختلافهم الفعلي عن اسلاميي العالم الاسلامي الموصوفين بالتطرف ربما نتيجة تعاملهم مع الاجيال العلمانية من شعبهم والتي نشأت على مدى عقود. وكان ايضاً خوفهم من اقدام العسكر على الانقلاب عليهم كما حصل مرات. وثالثاً حرصهم على تأسيس نموذج حكم اسلامي حضاري يبدد شكوك المجتمع الدولي كما الانظمة العربية والاسلامية ويصلح لأن يكون نموذجاً يُحتذى به ويُدعم من العالم. اما ما دفع “حراس” العلمانية الى التعقل فكان الشعبية الواسعة للاسلاميين ونظرة العالم وخصوصاً الغرب المتفحصة لهم والمقدِّرة ايضاً لإنجازاتهم الاقتصادية وادخالهم تحسينات على النظام الديموقراطي والتزامهم احترامه. اما بالنسبة الى سوريا فان مكاسبها من العلاقة الممتازة مع تركيا الاسلامية – العلمانية تنبع من امور عدة، منها ان اسلامية تركيا تفيدها شعبياً وتحديداً سنياً وخصوصاً في ظل المواجهة التي تخوض مع “اسرائيل واميركا وبعض العرب”. ومنها ان علمانية تركيا تبقى نوعاً من الضمان لاستمرار النظام “العلماني فيها”. ومنها ان تركيا الاسلامية – العلمانية بحجمها الضخم وامكاناتها المهمة وتحالفاتها الخارجية تساعد سوريا في اقامة توازن مع ايران الاسلامية التي هي في تحالف استراتيجي معها وخصوصاً بعدما بدأ يسود اعتقاد ان هذا التحالف صار “طابشاً” لمصلحة ايران وان انعكاساته الاقليمية وتحديداً فلسطينياً ولبنانياً لن تكون في مصلحتها في حال قررت اتخاذ مواقف معينة قد لا تستسيغها طهران. ومنها ان ايران الاسلامية تعتبر تركيا نقيضاً لها سياسياً (علمانياً ديموقراطياً) ومذهبياً.
هل يستمر شهر العسل السوري – التركي والى متى؟
لا مبرر لعدم استمراره في حال استمرار الظروف التي سهَّلت انطلاقه سواء كانت داخلية (سورية وتركية) او اقليمية او دولية. الا انه يرتبط في شكل او في آخر بنهاية تجربة التعايش بين الاسلاميين و”حراس العلمانية” في تركيا. فاذا كانت سعيدة وخرج بها الاسلاميون بشهادة حسن سلوك محلية ودولية تؤكد ان لا “اجندة” مخفية عندهم دينية او غير دينية وان ايمانهم بالديموقراطية صادق، تستمر العلاقات السورية – التركية “سعيدة” ويبزغ فجر دور تركي اقليمي كبير. اما اذا كانت غير سعيدة، فان تساؤلات كثيرة قد تُطرح حول دوام شهر العسل. علماً ان جهات عارفة عدة ترجح ان يكون التأثير في هذه الحال محدودا.
النهار