المشروع العربي قيد التأسيس
سليمان تقي الدين
أسوأ ما نحن فيه اليوم أن نصطنع التفاؤل والأمل من لقاء زعيمين عربيين، ومن مشروع مصالحة وطنية في اليمن أو الجزائر والسودان والعراق وفلسطين ولبنان. نتحدث عن التضامن العربي وفي داخل كل بلد انشقاق خطير. صارت طموحاتنا هدنة إنسانية في اليمن، وحكومة وفاق في لبنان، ومصالحة بين “حماس” وسلطة أوسلو في رام الله. وأن نخرج من الحرب الأهلية العراقية إلى نظام سياسي مركب يوحد مناطق نفوذ اقليمية. وأن نوقف أو نؤجل انفصال جنوب السودان عن شماله. أو نتدارك الفتن المذهبية أو القبلية أو الجهوية، وأن نصد هجمات قوى التطّرف والتكفير والعنف الأعمى الذي يحصد العرب من العرب. لا شك أن تجاوز القطيعة بين بلدين هو أمر مهم. لا شك ان قمة عربية تعقد يتحاور فيها الزعماء أو يتشاركون في قراءة المخاطر والتحديات هو واجب. لكن لم يعد مفهوماً غياب أي مرجعية عربية فرداً أو مؤسسة، دولة أو جماعة تستطيع أن تجول بين العواصم كلها وتتواصل بين الأفرقاء جميعهم. صارت همومنا أكثر فئوية وجزئية. صارت مشاكلنا ذات طابع أمني أكثر منها سياسية واجتماعية. صارت أولوياتنا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من وحدة وطنية ومن فتنة ومن أمن واستقرار.
شعوب محكومة بهواجس الأمن والاستقرار لن تستطيع مقاربة مشكلات المستقبل وقضاياه. لن تستطيع مواجهة تحديات العولمة ونظامها الاقتصادي الجائر. لن تستطيع المشاركة في صياغة النظام العالمي والشراكة في التعاون مع تكتلات اقتصادية قارية. لن تستطيع المفاوضة على دورها وعلى حقوقها.
انعقدت قمة سورية سعودية فشخصت إليها أبصار الكثير من العرب. يريد العرب أن يخرجوا من المعسكرات والمحاور ومن النزاعات والمنافسات على الزعامة والقيادة وعلى خيارات لا تحظى بالتوافق ولا تراعي الحقوق القومية ولا تدعم سلامة الدول وأمنها ولا تعيد شد الانتباه إلى ما يجري في فلسطين. صارت فلسطين وحيدة في مصيرها وقد انشغل عنها العرب بنزاعاتهم. اختلفوا حولها وعليها وفيها ولم تعد واسطة العقد وعقدة القضايا. هجر الكثير من العرب العروبة إلى لهجات كيانية وجهوية وقبلية والى ثقافات انعزالية. ذهب بعض العرب خارج حدودهم شرقاً وغرباً وما عادوا يعتصمون بأمنهم القومي. دخلوا في رهانات ولم ينجحوا في بلورة سياسات وخيارات يتوجهون بها إلى العالم، والى الآخر قريباً وبعيداً. هذه حال مرضية تجعل من كل خطوة صغيرة وهجاً كبيراً لا يلبث أن ينطفئ. لا يمكن طبعاً بعد عقود من التشطير العربي والانقسامات أن تحل المشكلات بسرعة.
لكن لا حل للمشكلات أصلاً ما لم يتم الاتفاق على تشخيصها وتحديدها وتفكيك عناصرها. العرب محاصرون اليوم بين مجموعة من الاخطار والتحديات. مشروع غربي أعلن عن رغبته في تشكيل “شرق أوسط جديد” قامت ملامحه على وضع اليد في أكثر من بلد عربي وتطويعه أمنياً وسياسياً وثقافياً. حمل الغرب راية التبشير والاستعمار مجدداً واستهدف ثقافة المنطقة وقدمها في صورة مشوهة. قاوم عناصر التقدم فيها وأعلن عناصر العنف والتخلّف واتهمها بالإرهاب.
احتل جزءاً من الأرض ونشر الأساطيل في محيطها واطلق العنان للكيان الصهيوني كي يستبيح ما بقي من فلسطين التاريخية وليدمر هوية الشعب وإرادة البقاء وروح الوحدة وترك حقوق الإنسان والمواثيق والقوانين الدولية في عهدة قانون القوة، وجعل من أسطورة الصهيونية حقيقة معاصرة في تسليمه أو تشجيعه لمشروع يهودية الدولة. أما دولة فلسطين فصارت مجموعة من المربعات البشرية الكبيرة أو الصغيرة التي يراد إيجاد حل إنساني لها. خرج العالم من قاعدة حق تقرير المصير، تجاوز الهوية الوطنية للشعب، ألغى فكرة الجغرافيا من مكونات الدولة، أسقط حقوق الإنسان في أرضه وملكه وتاريخه وثقافته، وحصر قضية فلسطين في إدارة أو سلطة وكأنها شركة تدير استثمار مؤسسات الماء والكهرباء ونظافة الشوارع، وتقيد الوفيات وتحصي الأحياء والولادات. أما خارج فلسطين فصار للدولة العبرية رأي وموقف، وصارت مرجعية لما قد يجري في المغرب العربي أو إفريقيا، ولما قد يجري في وسط آسيا، ولما تكون عليه أنظمة وحكومات دول المشرق القريبة. تسللت الدولة العبرية إلى الاستيطان في بعض الجيوب الأهلية كما هو الحال في شمال العراق، أو في جنوب السودان. اخترقت إيران النظام العربي باشكال مختلفة وراحت تنافس النظام العربي في تحدي الكيان الصهيوني والمطامع والمطامح والخطط الأمريكية. وجاءت تركيا أخيراً تتموضع في موقع وسط وهي تستعيد جزءاً من العلاقات التاريخية أو تؤسس لتعاون مع العرب وتقيم توازنات وتمد شبكة علاقات اقتصادية وسياسية في كل الاتجاهات. ومن حول العرب عادت تتقوى بعض القوى والتيارات المتطرفة التي تهدد استقرار الكثير من الدول تحت عنوان مقاومة مشروع الغرب، من افغانستان إلى باكستان امتداداً إلى وسط آسيا، بينما تنهض دول عملاقة اقتصادياً كالصين والهند. كل هذه التطورات لم ينجح العرب في إيجاد أجوبة مشتركة عليها، بل هم يقفون شبه عاجزين عن الرد على تهويد القدس ووقف وحش الاستيطان. لم يعودوا يذكرون مبادرتهم للسلام ولم يبحثوا عن بديل منها، وانخفض مستوى الاهتمام الأمريكي والغربي بفلسطين إلى رتبة مبعوث دائم (جورج ميتشل) يدير حفلةعلاقات عامة بوجه مصنوع من البلاستيك وأمم متحدة كادت أن تعاقب رئيس اللجنة القضائية المشرفة على توثيق جرائم العدوان الصهيوني على غزة وتجبره على ابداء التحفظ وربما الاعتذار بمشاركة من بعض العرب وبعض من يحملون هوية فلسطينية. لقد صار التضامن العربي وهماً، بل صار مستحيلاً بغير مقاربة القضايا والمشكلات من جذورها.
نحتاج اليوم إلى عمل تأسيسي عربي، ثقافة وأمناً وسياسة. نحتاج إلى طرح الأسئلة الكبرى ومعالجة المفاهيم وفحص العناصر والوقائع وقراءة مجريات العالم. ثمة حاجة باتت ملحة لحراك في هذا الاتجاه تضطلع به النخب الثقافية والسياسية وكتل المصالح الاقتصادية لكي نبلور شيئاً جديداً عنوانه تجديد المشروع العربي استلهاماً لتجربة أوروبا، أو للنهضات الاقتصادية، أو لصياغة تصور لنظام إقليمي عربي غير محكوم بالتجاذبات.
الخليج