إيران: حقبة مختلفة
ميشيل كيلو
لم تعد أنشطة وسياسات النخبة الإيرانية الحاكمة قادرة، منذ انتخابات الرئاسة،على حجب حقيقة شرعت تحدد أكثر فأكثر حياة إيران الداخلية ومواقفها الخارجية، هي أن نظام ولاية الفقيه تلقى ضربة جدية خلال حركة الاحتجاج الشعبي، التي تلت الانتخابات، وتتكرر اليوم أيضا بأشكال مختلفة في المناسبات، بما في ذلك الرياضية منها، وإن كانت قد فقدت، بالمقابل، زخمها الأول.
تبدو إيران حائرة ومربكة، تقيد يديها تناقضات تياراتها السياسية، بينما تستمر الخصومة بين سلطتها وأقسام واسعة من مجتمعها، بينما قدمت حركة الاحتجاج كشف حساب سلبي حول أهلية نظام ولاية الفقيه، الذي ركز جهده على امتلاك القوة في صيغها العسكرية، وتناسى أن قوة الدول ونظم الحكم من قوة مجتمعاتها، وأن الجيش الذي يقوى بضعف مجتمعه يكون غالباً مؤسسة عسكرية قد تصلح للحكم، لكنها لا تصلح للحرب، وغالباً ما تنهار في أول لقاء مع أعدائها، مهما امتلكت من رجال وعتاد.
ثمة احتجاز إيراني يتجلى في ميادين متعددة، هي:
الانقسام الأفقي داخل نخب النظام، التي كانت تبدو قبل انتخابات الرئاسة موحدة متماسكة. هذا الانقسام لا يقتصر على السياسيين، ويشمل رجال الدين والعسكر ويظهر بصورة يومية في تصريحات تتطاير هنا وهناك، وتغييرات في مناصب السلطة السياسية والدينية والعسكرية، تبدل علاقات ومواقع مكوناتها، وتغير صورة الوضع الذي كان قائما قبل الاحتجاجات، وتحدث توضعات تتصل بتكون صورة جديدة للسلطة، ستقرر مصير البلد والنظام. بعد الانتخابات، لم تعد نخب النظام موحدة. هذه الحقيقة لا ينفيها أحد وتعكسها لغة الأطراف المتصارعة، العدائية والتخوينية.
الانقسام العمودي بين كتل كبيرة من المواطنين والسلطة الحاكمة، سلطة الولي الفقيه ورئيس الجمهورية، وكانا قبل الاحتجاجات تابعا ومتبوعا، فصارا بعدها طرفين يقال إن تنافسهما يذهب لصالح الرئيس. هذا الانقسام تمت معالجته بطريقة نظم الحكم المركزية السائدة: القمع. لكنه تواصل وتفاقم، حتى صار النظام لا يسمح لأجهزته الإعلامية بنقل أي حدث مباشرة، خشية نقل الاحتجاجات المصاحبة له. إلى هذا، دفع هذا الانقسام رجال دين وساسة وعسكريين إلى رفض طرق الحرس الثوري العنيفة في التصدي للأزمة، وجعلهم يشكون في صلاحية نظام ولاية الفقيه، ويطالبون بتعديله أو بإلغائه. قبل الانتخابات، كان النظام يقدم نفسه كنظام شعبي أجمع عليه الإيرانيون، بعدها، صار من الصعب على غير أحمدي نجاد، نفي الانقسامات أو القفز من فوقها، لترويج صورة كاذبة عن أمة موحدة، طائعة وراضية.
الانقسام بين الأجيال، وبين الريف والمدينة، والمدن الصغيرة والمدن الكبيرة، وغرب إيران وشرقها وشمالها وجنوبها. تقول الاحتجاجات إن الشباب الإيراني ليس راضياً عن أحواله، أو قابلا بالأيديولوجية السائدة وبالنظام الحالي. بعد نيف وثلاثين عاما، وصلت إيران إلى حيث سبقتها نظم شمولية شبيهة: ابتعاد السلطة عن مجتمعها وغربتها عن أجياله الجديدة، التي ولدت وشبت وترعرعت في ظلها. إلى هذا، برز خلال الحقبة المنصرمة عجز الأيديولوجية الرسمية عن حل مشكلات بلدها بطريقة يقبلها الشباب، وعن إقناع الأجيال الجديدة بشرعية النظام. هنا، تكمن معضلة حقيقية سيتوقف عليها مستقبل إيران ومصير نظامها، إن كان صحيحا أن مجتمعها المدني يذهب في غير اتجاه سلطتها.
الانقسام الفكري، إذا جازت التسمية، داخل النظام والمجتمع. إلى يوم الاحتجاجات كان الاعتراض على نظرية ولاية الفقيه محدودا أو مكتوما. بعدها، صار تياراً واسعاً تبناه مجتهدون كبار، ورجال دين ينتشرون في مختلف الأنحاء، وعلى تماس مباشر مع الشعب. قبل الانتخابات، كانت الأجيال الجديدة صامتة بوجه عام، فاعتبر صمتها قبولاً بالواقع وبولاية الفقيه، لكنها بدت، خلال الاحتجاجات، منجذبة بقوة إلى أفكار الليبرالية ونموذجها السياسي والتنظيمي، وأظهرت مهارة في الإفادة من علوم الغرب كالمعلوماتية وثورة الاتصالات. ثمة أمر آخر يجب التوقف عنده، لما له من دلالة رمزية وعملية، هو أن طلبة الجامعات هم الذين تصدروا حركة الاحتجاج، رغم حملات قمع شرسة تعرضوا لها خلال الأعوام الأخيرة، أودت بحياة كثيرين منهم أو ساقتهم إلى المعتقلات، لكنها لم تكسر مقاومة قطاعات واسعة منهم للنظام.
يبدو أن الأحداث طوت صفحة من تاريخ إيران المعاصر، أو جعلتها واجبة التعديل والتغيير، بعد أن ترتبت نتائج مهمة على الأحداث، تتصل بعلاقات إيران مع بيئتها الإقليمية والدولية، وبدورها، الذي ينتقل إلى إشعار آخر من دور يضمن الإقليم إلى دور آخر بحاجة إلى إعادة تعريف، مع ما يصحب ذلك من أثر سلبي على مكانة طهران كعنوان تتجه إليه القوى الدولية الراغبة في التفاهم على مستقبل “الشرق الأوسط”. بالمقارنة، يبرز دور تركيا كقوة موازية اليوم، قد تكون بديلة غداً، الأمر الذي يستوجب ما نراه من إعادة تدقيق علاقات بلدان ومنظمات عربية مختلفة مع المركز الإيراني، تبدو واضحة في المحور المشرقي العربي وصولا إلى فلسطين. في هذه الأثناء، تدلي قيادات إيران بتصريحات تحاول إقناع الآخرين بأن شيئا لم يتغير، وتقوم، في الآن نفسه، بخطى تضمر تراجعات ذات مغزى عن خطط وإعلانات سابقة كثيرا ما زعمت أنها لن تقدم أي تنازل لأي كان فيها، وخاصة للشيطان الأكبر الأمريكي الصهيوني.
لا يبدو خروج إيران من أزمتها قريبا. وتبين طريقة معالجة مشكلاتها قدرا من العجز وفقدان الاتجاه، جعل إجراءات قياداتها تتسم بالتخبط، وتصريحاتها متناقضة غالبا، فهي تتحدث بأكثر من لسان، وتعكس أكثر من تيار واتجاه. يحدث هذا، بينما تشتد ضغوط الخارج وتتبلور بدائل لسيطرة طهران ونفوذها، يدعمها من الغرب، منها البديل التركي، والبديل الباكستاني الأفغاني.
هناك استنتاجات توحي بها حال إيران، أهمها اثنان:
لا تتحدد مكانة دولة ولا يتقرر دورها عبر أوراقها الخارجية. حتى أمريكا، صاحبة الانتشار الأكثر كونية والأوراق الأكثر قوة في عالمنا، أعادت النظر في أوضاعها الداخلية بعد انتصارها التاريخي المذهل على السوفييت، وجاءت بكلينتون إلى سدة الرئاسة بدل رئيسها المنتصر جورج بوش الأب كي يعيد ترتيب البيت الأمريكي وتأهيله فتتمكن واشنطن من ممارسة هيمنة عالمية كقطب أوحد. لو كانت السياسة الخارجية مصدر قوة الدولة، لكان الاتحاد السوفييتي هزم أمريكا، فمن المعروف أنه حقق، قبيل انهياره مباشرة، “انتصارات” خارجية مهمة شملت جميع القارات تقريبا، وخاصة في إفريقيا. تتوهم النظم المركزية أن السياسة الخارجية هي ميدان إعادة إنتاج وتوطيد النظام، لأن دور الداخل في شرعيتها يكون دوما هامشيا، أما في النظم الحرة، فمكان إنتاجها هو الداخل، وشرعيتها داخلية حصرا، وليست السياسة الخارجية غير عامل مساعد وحسب. هذا ما لا يفهمه الرئيس نجاد، الذي يتحدث وكأن شيئا لم يحدث في إيران، لمجرد أن ما حدث كان شيئا داخليا.
لا تستطيع سلطة كائنا ما كانت الحلول مصادرة مجتمعها والحلول محله. الأصل في السياسة وقوة الدولة المجتمع. عندما يذهب المجتمع في اتجاه والسلطة في آخر، أو يكون هناك خلل في علاقات السلطة بالمجتمع، تدفع السلطة الثمن في نهاية المطاف، وإن أخمدت وقتياً أصوات مجتمعها ونجحت في احتوائه.
ويبقى أن إيران تبدو وكأنها تخطت الذروة وشرعت تفقد وهجها وقوتها وأوراقها، وأن دروبها التي بدت مفتوحة إلى الأمس القريب، شرعت تضيق، وأنها قد تجعل منها قوة إقليمية بين قوى أكبر وأكثر أهمية منها.
ويبقى كذلك أنه يوجد دوما، في إيران وخارجها، من لا يريد فهم الدرس. ويبقى أن هؤلاء يكتشفون متأخرين أن مجتمعاتهم كانت حصنهم الوحيد، لكنهم أضعفوها وأذلوها فانكشفوا وغدوا بلا حماية، فضيعوا أنفسهم من حيث ظنوا أنهم يحافظون على كراسيهم إلى الأبد.
الخليج