ما يحدث في لبنان

التعتيم المطلق

null

شادي علاء الدين
لطالما قلنا إن ما حدث وتمثل في اجتياح “حزب الله” لبيروت، لن يحدث أبدا. كنا نعي أن تكرار هذا الكلام كان مجرد محاولة لصنع تعويذة تقينا هذا “الشر المستطير”، الذي في حال وقوعه لن يترك شيئا على حاله. لذا كان الأمر حاصلاً بالفعل قبل أن يقع، وكان تاماً في الحقيقة التي كان عدم اعلانها محاولة يائسة لتأجيلها
.

اجتياح “حزب الله” لبيروت حادث قديم ولكنه كان محجوبا بالوهم الذي يقول إن السياسة تستطيع أن تلجم السلاح وأن تضع له حدودا في حين أنه هو الذي يرسم لها دوما خرائطها ويحدد خطابها.

هذا الحادث القديم حين يدخل في لحظته، يرهن نفسه لها ويصير أسيرها ولا يستطيع التملص من شبكة سيطرتها وتداعياتها. لذا كان لا بد له من أن يترافق مع حالة عماء تامة، وأن يكون بلا أي إضاءة. من هنا كان هذا الحرص الكبير على أن تكون بيروت المحتلة هي مدينة بلا إعلام وبلا صحافيين، لكي تكون كما يشاء لها هذا الحدث أن تكون، ككل مدينة أخرى تقع في جغرافيا ملتبسة ولا يمكن أن تكون البتة تلك المدينة التي يعرفها الجميع ويجمعون على معناها وعلى أوصافها. معنى وأوصاف يؤكدان على الدوام قيمةً خاصة تعلنها كمدينة عامة وكمساحة للمشترك، أي للوطني. لعلها كانت المساحة الوحيدة التي لا تزال قادرة أن تقول شيئا في هذا الصدد بعدما صار كل ادعاء بالوطنية إدعاء فارغاً تدحضه الوقائع والممارسات اليومية.

مارست بيروت معناها الوطني الجامع ليس على مستوى الصيغة الغنائية والعاطفية ولكن على مستوى الفعل والوقائع. كانت دوما بنت مشروع لا يطرد أحدا، وبذلك كانت صيغة يستطيع كل طرف أن يجد لنفسه مستقرا ومحلا فيها على الرغم من كل الخلافات. لهذا السبب، كانت الضربة القاسية موجهة إلى الإعلام لأن ما يحدث غير قابل للتصديق، إذ لا يمكن السماح بأن تكون هناك صورة ثنائية، بل لا بدّ من الواحدية. تتوجه هذه الواحدية إلى تعزيز مواقع الطرف المعتدي على المدينة عند أنصاره، عبر حشد اختلاقات متواصلة ومن خلال صناعة خبر واحد ووحيد، قادر أن يتحول إلى “حقيقة” من دون منازع. هذه “الحقيقة” تطبخ نسق التهييج الجماهيري الداخلي لجمهور الحزب من جهة، وهي، من جهة أخرى، مدخل لصناعة حالة الرعب والإنكفاء عند الطرف الآخر. هكذا يكون نصره الذي تحقق من دون حرب، نصرا كاملا بلا احتجاج ولا تشكيك.

ضرب الإعلام هو إقفال للنقاش وترك الأمر للسلاح وحده لكي يصنع الكلام كله والصورة كلها. لا تستطيع الشمولية التحرك في ظل حرية إعلامية. فمهما كانت شبكة الإختلافات في داخلها فإنها تصب دوما في منطقة تحوّل كل خطاب الشمولية إلى خطاب نقص وجهل، غير قادر على تبرير نفسه.

بيروت بلا صحافة وبلا إعلام، هي مدينة أخرى. هي مدينة بلا وجه، وتستطيع أن تكون مدينة تبدأ كتابة سيرتها انطلاقا من اللحظة التي صارت فيها بلا هوية. عليها أن تمحو ذاكرتها وأن تنسى تاريخها وحاضرها وتستغني عن مستقبلها وتستبدل هذا كله بلحظة العتمة وتتبناها في وصفها السيرة الوحيدة الممكنة والتي تلخص كل معنى المدينة وتفسر كل ما تمخض عنها يوماً من آمال وأحلام.

عندما تضاء الشاشات وتصدر الصحف، لا يستطيع السلاح الدفاع عن نفسه، وستكون المقالة الصحافية والتحقيق التلفزيوني قادرين على خلق مجال سياسي يحوّل ظهور السلاح إلى حالة خاسرة تطرد من يلجأ إليها من زمن البلاد وتجعله كائناً عارياً وتالفاً وغريباً.

السلاح حين يصير مادة مألوفة وعادية، فذلك يعني أن كل ما يصدر من كلام وما سينتج من إعلام سيكون متماشيا مع هذا الخط الدموي، حيث يصبح كل إجرام صيغة مفسرة بالكامل، ويصبح تالياً طبيعياً ومألوفاً.

لن تكون الإدانة ممكنة، ولا الإحتجاج ممكنا، وسيكون كل خراب خاضعا للمعنى التام للسلاح الذي يرهن كل معنى آخر ويأسره.

تُغيَّب الصحافة ويُضرَب الإعلام ليبقى السلاح وحده صاحيا، ولكي نستطيع أن نصدّق أن كل ما حدث هو رحلة صيد، وأن بيروت تعيش الآن في موسم الفرّي، وأن كل هذه الغزارة في النيران مردّها إلى أن أعداد الفرّي كبيرة، وأن الصيادين يحاولون صيد أكبر عدد ممكن منها.

يحضر الظلام فيحضر خطابه الذي يعتدي على العقل وعلى العاطفة، ولكي تتم المجزرة وتكتمل لا بدّ من قتل كل الشهود. وهل من دور للإعلام سوى أن يكون شاهدا؟

لا يمكن تفسير ضرب الإعلام سوى أنه طموح إلى إنجاز جريمة كاملة.

خبر أم مأساة؟

رواية إقفال قناة “المستقبل” الإخبارية صارت رواية يعرفها الجميع، وهي تخفي جملة دلالات تقول بوضوح إن هذه اللحظة ليست بنت الآن بل هي نتيجة تدبير متأنٍّ وبارد.

يُرسَل أولا تهديد بقصف المحطة إذا لم تتوقف عن البث، ثم حين يخرج جميع الموظفين وتوضع في عهدة الجيش، يدخل مهندس تقني من “حزب الله” ويقوم بقطع كابلات البث بطريقة تضمن بقاء المحطة معطلة لأسابيع عدة في أقل تقدير، وخلال هذه الفترة يكون الحزب أنجز معركته وصمّم خطابها، من دون أن يكون هناك مجال لأي نقاش أو اعتراض.

تجري الآن سلسلة وقائع مستجدة في الواقع السياسي اللبناني، وهي مطاردة الصحافيين ومحاولة اقتحام بيوتهم عبر موجات مسلحة ترعب أهلهم وأطفالهم وتحاول جعلهم أسرى لواقع يقول بأن لا داعي للكتابة إذا كانت تؤدي إلى التعرض للقتل. هكذا يعيش الإعلاميون أسرى موتين متربصين، موت الإمتناع عن قول الحقيقة والتعبير عن الرأي والموت الكامن قي ثنايا تهديد جدي. ففي ظل هذه الظروف الإستثنائية يكون قتل الصحافيين جزءا من سياق ما، لن يكون له أيّ خصوصية، وحين تنتهي الأحداث سوف يكون أمرا من الماضي ينبغي نسيانه كي لا تُنكأ الجراح وتُثار النعرات وما إلى ذلك من كلام مملّ.

قتل الإعلاميين في هذه اللحظة يمهّد الطريق أمام انتشار ظاهرة خطيرة تجعل الإعلاميين مادة مشروعة للإستهداف وتؤسس لواقع إنتفاء خصوصية الإعلامي ومنع كل حصانة عنه. هكذا يمكن القول ببساطة إن هذه الأحداث قد أسفرت عن عدد معيّن من القتلى ومن بينهم مجموعة من الصحافيين والإعلاميين. يكون الأمر إذاً، موضوعاً حسابياً إحصائياً يدرج الإعلام واستهدافه في سياق لا يحتمل النسبة إليه، وهو السياق الحسابي الذي يساوي بين كل الضحايا في وصفهم ظاهرة متجانسة ومتساوية، ولا مجال فيها لأي نتوءات وخصوصيات. هكذا تتم مضاعفة القتل ومنعه من الإلتباس بأيّ مجد، وسلبه القدرة على أن يتحول إلى شأن عام، وخصوصاً حين يكون كل هذا المنطق متأسسا على واقعة التغييب القسري لكل وسائل إعلام الطرف الآخر.

يعلم الطرف الذي دخل إلى بيروت أن إعلامه يستطيع دائما الدفاع عن نفسه انطلاقا من خصوصية انتمائه لجهة محاربة تهدي الى الداخلين في فلكها الإعلامي منعة حربية وحصانة عسكرية ووزنا ناشئا عن أن صناعة الحرب والسلم يحددها الطرف الذي يُنسبون إليه. لذا لا يكونون إعلاميين بقدر كونهم بوصلات تحدد مسارات الإنفجار وعلاماته. وعلى هذا، فهم دائما خارج هذه المسارات، وتقتصر مهمتهم على إظهار هذه المسارات ونقلها إلى الآخرين. هؤلاء لا يصنعون الخبر. إنهم الخبر نفسه، وهم جزء مكوّن من خصوصيته الحربية. لذلك، هم إعلاميون منظّرون للقتل الذي حين يقع على الطرف الآخر يحاولون تبريره انطلاقا من بنية واقعهم الخاص. هذا الواقع الخاص يرى أن الإعلامي جهاديّ وحربيّ، وتالياً فإن استهدافه منطقي وطبيعي. لكن المفارقة تكمن في أن إعلاميي الطرف الذي احتل بيروت هم إعلاميون حربيون في الأساس، وممارستهم للعمل الإعلامي تنبني دوما على منطق الحرب. لذلك فهم يعيشونها كواقع أساسي ووحيد. ولذلك لا يموتون ولا يُستهدفون لأنهم أبناء خطاب الحرب ووقائعها، في حين أن إعلاميي الطرف الآخر الذين أغلقت محطاتهم الإعلامية يعيشون الواقع الإعلامي على أنه سجال مفتوح تقف حدوده عند حدود الحرب.

هناك دوماً مفارقات في هذا الصدد، وهي مفارقات قاتلة. إذ أن ما يمثل نقطة بداية بالنسبة الى الطرف الأول وهو الحرب، يمثل الحدود الصارمة بالنسبة الى الطرف الثاني. هكذا يكون الموت، موت إعلاميي الطرف الثاني، نقطة انطلاق ورشة عمل الطرف الآخر، كخبر عابر في ورشة الحروب المستمرة.

هنا يكون التعتيم ضرورياً ومحتاجاً إلى تدبير وإلى خطاب. فهو وحده يضمن أن يمر الخبر أسفل الشاشة الأخرى بسرعة تجعل المشاهد يميل إلى عدم التوقف عنده وخصوصاً إزاء حالة التوتر العامة التي تعمّ البلاد. فحين يأتي خبر التعرض للإعلامين مسبوقا بأخبار مجزرة تقع في مكان ما، ويليه خبر مماثل، فإنه سيكون تالفاً وغير قادر على المنافسة ولا على التأثير. يكون عملاً خبرياً وصفياً وليس صيغة تستدعي قراءة أخلاقية وسياسية تستوجب وضع كل قيم المجتمع أمام اختبار قاس، وتطرح بقوة سؤال الضمير والحقيقة، بل يكون الأمر مجرد خبر وليس مأساة.

الأخبار تعبر لكن المآسي وحدها تستقر وتثبت وتعيد طرح نفسها على الدوام بإلحاح ضخم لا يمكن تجاوزه ولا يمكن حل المشكلات التي يستدعيها بسهولة. المآسي هي التي تخلق ورش العمل وليس الأخبار. ما أن يتم إعلان حدث ما على أنه مأساة، حتى تبدأ ورشة الأسئلة التي تضع كل شيء قيد المساءلة.

كان الذين اغتالوا الرئيس الحريري يطمحون إلى أن يكون استشهاده مجرد خبر، مجرد خبر كبير، لكن الناس صنّفوه كمأساة وتعاملوا معه على هذا الأساس. لذا مات الخبر وحضرت عدة عمل المأساة ومفاعيلها التي تُعنى بدفع الأمور إلى حدودها القصوى، فكان أن ذابت بسرعة قياسية كل الحواجز التي كان اجتيازها يعتبر مستحيلاً، وتم طرد الإحتلال السوري من البلد.

المسافة التي يراد صناعتها الآن بين الخبر الذي يشبه الخطأ الشائع والكلام العابر وبين رسوخ المأساة وثباتها، هي التي ترسم حدود الوصف الذي تندلع المعارك في شأنه.

ما هو الوصف الذي يُطلق على احتلال بيروت، وما الذي يمكن قوله في شأن ضرب الإعلام وتهديد الإعلاميين؟ هل هو خبر أم مأساة؟ هل يقع في سؤال الأخلاق أم في بداهات الحروب؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى