صفحات العالمميشيل كيلو

مرة اخرى: عن اوباما

ميشيل كيلو
لم يكن لون البشرة وحده سبب تعاطف جمهور عربي كبير مع باراك أوباما. ولم تعلق عليه الآمال لأنه فقط أول رئيس امريكي يأتي من قاع المجتمع، بل، كذلك ،لأنه بلغ القمة صاعدا من صفوف منبوذين تشبه أحوالهم حالنا، كما يظن عدد كبير منا.
وعلى رغم خيبات كثيرة أصابتنا من رؤساء امريكا، وخاصة منهم أولئك الذين أبدوا بعض التعاطف مع مشكلاتنا قبل رئاستهم أو بعدها، لكنهم مارسوا خلال وجودهم في البيت الأبيض سياسات معاكسة لما جعلونا نتوقعه منهم، فقد اندفعنا هذه المرة أيضا إلى الترحيب الحار برجل التغيير، كما وصف أوباما نفسه خلال حملته الانتخابية. والتغيير، كما هو معروف، كلمة عزيزة على نفوسنا، نحن الذين نقضي أعمارنا في ظل نظم لا يتغير فيها شيء أو أحد، ونتوق إلى أي تغيير في حياتنا، فكيف إذا توهمنا أنه سينتشلنا من حفرة ذل عميقة دفعنا إليها من وعدونا بالمن والسلوى، صدقناهم فدفعنا غاليا ثمن سذاجتنا. أتانا وعد التغيير من رئيس امريكي عرف الحرمان والخيبة مثلنا، هو، في الوقت نفسه، أكثر رجال العالم قدرة على إحداثه، فصدقناه وأملنا أن لا يخدعنا، كما خدعنا غيره دائما وأبدا.
أخذ العربي العادي يشعر في الأسابيع القليلة الماضية أن أوباما خدعه. وكان قد تابع أقواله في الموضوع الفلسطيني فتفاءل، ورأى أفعاله فشعر بالخيبة، لبعد الأفعال عن وعوده الكلامية، التي أطلقها من جامعة القاهرة، وضمنها خطابا فصيحا مفعما بالرغبة في المصالحة، وجهه إلى العالم الإسلامي، تعهد فيه أن يكون السلام في فلسطين على رأس أولوياته، وأن يشمل سورية ولبنان. ومع أن عربا كثيرين خشوا أن لا يكون أوباما قادرا على تنفيذ وعوده، بسبب قوة لوبي إسرائيل في امريكا، وقدرة نتنياهو على زجه في ورطات شرق أوسطية وعالمية تقيد يديه أو تربكه، كأن تسدد عصابة تل أبيب ضربة عسكرية إلى إيران أو سورية تشعل المنطقة وتأخذها إلى فوضى بلا نهاية، فإن الأمل ظل معلقا بإصرار الرئيس الامريكي على متابعة سياسة جديدة تختلف حقيقة عن سياسة سلفه، الذي طرح، كأول رئيس امريكي، شعار دولتين لشعبين في أرض فلسطين التاريخية، لكنه استخدم الشعار لإضعاف الطرف الفلسطيني، وتمزيق وحدته الوطنية، ونقل معركته مع إسرائيل إلى داخل صفوفه، وأخيرا، لإلغاء ما حققه بتضحيات بناته وأبنائه ودمائهم. جاء أوباما يكرر الشعار ويتعهد بإقامة دولة فلسطينية سيدة ومستقلة على أراضي 1967، فتفاءلت العرب، رغم شكوك راودتهم حول صدق عزمه على إنصاف الفلسطينيين، الضعفاء والمتقاتلين، وقدرته على مقارعة عدو شرس كإسرائيل، لديه اختراقات قوية داخل الطبقة السياسية الامريكية، وحتى داخل البيت الأبيض، ويملك وسائل تعطيل فاعلة في شرق أوسط مليء بالمشكلات والتعقيدات، تحكمه على الجانب العربي نخب مأزومة وعاجزة، تقهر مجتمعات ضعيفة وقلقة. أخيرا، خاف العرب أن يدير أوباما، عند اللزوم، ظهره لمشكلة فلسطين الصعبة وذات الأبعاد الامريكية الداخلية المتعبة، ليبحث عن انتصارات أسهل في مناطق أخرى، تخرج امريكا من ضعف سببته سياسات أسلافه، تعيد ترتيب علاقاتها مع عواصم العالم الكبرى، وإنتاج دورها كدور قيادي أول في السياسة الدولية، وتحررها من أوهام القطب الأوحد وما أنتجته من أزمات لا لزوم لها مع دول كبرى كالصين وروسيا، وقوى وازنة وعظمى أوروبية. شعر العرب أن ليس هناك ما يحتم إصرار أوباما على خوض مغامرة إسرائيلية فشله فيها شبه مؤكد، تضاف إلى مغامرة العراق وأفغانستان الفاشلة، إن هو نجح في ترتيب وضع امريكا الدولي، وأقام بيئة عالمية يمتص بمعونتها ردود أفعال العرب أو يبقيها ضعيفة ومتدنية الشدة، رغم أنه قد لا ينجز وعوده لفلسطين، وقد يلتحق بركب رؤساء امريكيين سبقوه إلى خذلان العرب، والتلاعب بقضاياهم.
من الخطأ تفسير كل شيء بنظرية المؤامرة. لكنه من الخطأ كذلك حذف التآمر كعنصر مهم وتكويني في العلاقات الدولية. إن أولية أوباما هي بلا شك معالجة ضعف امريكا في الخارج والداخل (وخاصة الأزمة المالية والاقتصادية)، فلن يكون ما يقوله اليوم ملزما له بالضرورة غدا، إن خرجت امريكا حقا من حال الضعف، وتوطدت علاقاتها مع القوى الدولية الفاعلة، عبر القبول بتوسيع دورها العالمي، وإقامة شراكة معها تغطي الاقتصاد وتؤسس لموقف موحد أو متقارب من بعض البلدان كإيران، وبعض الحركات الإسلامية كالقاعدة. وقد وضعت امريكا حجر الأساس لعمل دولي منسق على مستوى القمة، وحققت اختراقات عملية تكرس آليات جديدة لإدارة المشكلات الدولية، تحولها من قطب أوحد إلى قطب قائد. في فترة النجاحات الدولية هذه، تراجعت إدارة أوباما أمام إسرائيل في مسألتي الاستيطان والسلام، وطالبت العرب بخطوة لا مقابل لها تجاه عدو يحتل أراضيهم ويحاربهم بلا هوادة في كل مكان، وخاصة في فلسطين، فوضع التراجع الامريكي السياسات العربية أمام حرج كبير وورطة حقيقية، ستترتب على افتقارها إلى موقف مستقل وفاعل حيال امريكا، يستطيع الحيلولة دون تنصلها من التزامها الفلسطيني، بجعلها تدفع ثمنا باهظا إن فعلت ذلك، أو أيدت سياسات الاحتلال التوسعية والاستيطانية، أو تنكرت للتغيير الذي تعهدت بإجرائه على مواقفها العملية من صراع إسرائيل ضد العرب.
شهدت الأسابيع الأخيرة ابتعادا امريكيا واضحا عن حقوق فلسطين والعرب، وتراجعت عن مطالبتها بوقف الاستيطان، بعد رفض تل أبيب الاستجابة لها، وركزت نظرها على الجانب العربي، الذي تريد منه تقديم ‘ترضية’ للمحتل ‘تشجعه’ على تجميد الاستيطان لفترة، فكأن الاستيطان ليس مخالفا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، وكأنه ليس مدانا دوليا، أو كأنه لم يعد هناك من مفتاح لإنهاء آخر استعمار في العالم هو الاستعمار الإسرائيلي غير مبادرة العرب إلى مكافأة محتليهم وقاتليهم، رغم أن امريكا لا تستطيع أن تضمن قبول إسرائيل للمكافأة، أو ردها عليها بتغيير ولو جزئي في سياسات الاحتلال والتوسع.
هذا هو الوضع. صحب تحسن أحوال امريكا الدولية تراجع في سياساتها تجاه العرب وفلسطين، لا يعرف أحد إن كان لن يتفاقم خلال الأشهر القادمة. السؤال الذي تطرحه هذه المفارقة هو : ماذا ينتظر العرب كي يتخذوا مواقف تفهم امريكا أن استمرار هذا الحال من المحال، وأنها تغامر بأرصدتها العربية، إن هي أحجمت عن القيام بما تقدر عليه: إجبار إسرائيل على إخلاء الأراضي العربية المحتلة، في فلسطين وسورية ولبنان، دون مزيد من المفاوضات المضللة والأكاذيب المكشوفة.
يخلق أوباما لنفسه هوامش لعب تمنحه حرية حركة في الموضوع الفلسطيني. فلا بد أن يسعى العرب إلى تضييق هذه الهوامش وإلغائها، ليعرف أوباما أن الظروف اختلفت وأن ما يقبله العرب بالأمس لن يقبلوه بعد اليوم. لا يسألن أحد كيف سيتم هذا، فالعرب لديهم كل ما يلزم لإنجازه إلا الإرادة. هل يستجيب القدر ( وامريكا ) لمن فقد إرادته؟
ولا بد من موقف عربي يقطع الطريق على تراجع امريكي محتمل عن الحل العادل في فلسطين من جهة، ويقدم بدائل جدية ومدروسة يواجه العرب بها العدو الإسرائيلي، في حال فشلت واشنطن أو تراخى اهتمامها بالقضية العربية، كما حدث بالفعل مرات عديدة في الماضي.
والآن، وقد أعلنت إسرائيل جهارا نهارا أنها لن توقف الاستيطان، بل واندفعت إلى تهويد القدس تهويدا كاملا، وشرعت تتحدى العرب والمسلمين والعالم في المسجد الأقصى المبارك، دون أن تصدر عن أوباما وإدارته مواقف واضحة ضد سياساتها، يكون من حق العرب الشعور بالإحباط، ومن واجبهم ان يأخذوا الاستعدادات اللازمة.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى