صفحات ثقافية

ما الذي يربط القاتل بالقتيل في المجال الثقافي؟

null
سلام عبود
حينما تنتهك الأسطورة حرمة الواقع
عند دراسته المجتمعات البدائية، توصّل كلود ليفي شتراوس الى نتيجة مذهلة مفادها ثبات بنية المجتمعات العقلية، وتمايزها في سبل استخدام إمكانات الواقع، لا في درجة التطور النوعي للعقل. لو قدِّر لنا قلب اكتشاف شتراوس رأسا على عقب، من طريق مراقبة ما لا يملكه العقل من مشتركات، بدلا من مراقبة ما يملك، لوجدنا أن العقل يقوم بالنيل من قوانين الواقع وقواعد المنطق لصالح المخطط العقلي الجاهز في صورة يوتوبيا بديلة من الواقع، بصرف النظر عن كون هذا البديل أسطورة دينية أو بدائية أو عصرية. لا تستقيم قراءة الأسطورة في وعينا إلا بطريقتين: تحريرها من بعض قواعد المنطق، لكي تلائم قيود تفكيرنا الصارمة، وتأويل رموزها، لكي تطابق قدسية الواقع. من دون ذلك يبقى النصّ الأسطوري مجرد كلمات صادرة عن وعي طفولي، يتعلم خطواته الثقافية الأولى. الرشد الذي نعتقد زوراً أننا نمنحه للنصّ الأسطوري، استعلاء وهمي نخفي به إخفاقنا في تفكيك أساطير الواقع اليومية. ماذا يحدث لو قمنا بقراءة معاكسة: قراءة الحاضر بعيون أسطورية؟ كيف يقرأ المثقفون بعد ألف عام نشراتنا الإخبارية؟

الإنسان والثقافة عنصران متلازمان تلازما ضروريا، عنصران يلد أحدهما الآخر. إذ لا يوجد كائن بشري يعيش خارج اللحظة التاريخية، الثقافية خصوصاً؛ ولا يوجد وعي ثقافي، بالمعنى الاصطلاحي، خارج فاعلية العقل البشري.
قبل أن ينفصل الإنسان عن عالم الطبيعة كان الإنسان كائناً فطرياً، متحداً بالطبيعة اتحاداً عضويا، غير قابل للفصل. وهذا ما نراه مبثوثا في الكتب الدينية، كقصة نزول آدم الى الأرض. ومن يقرأ جيدا فحوى الأحداث في الكتب السموية، بالتجرد من الهوى الإيماني، يجد أنها تمثّل التدوين الثقافي الثالث الكبير في تاريخ البشرية بعد حقبة خربشات الكهوف (التسجيل الحسي البدائي الخالص) وحقبة التسجيل الأسطوري. أي أنها مرحلة وسيطة بين المخيّلة الأسطورية الحرة والمنطق الفلسفي المنهاجي، بين التأويل الحسي للخيال والتأويل التجريدي للمنطق.
الثقافة والعري

بانفصال الإنسان عن الطبيعة أضحى الإنسان كائنا آخر، مختلفا تماما، ولم يعد هو ذاته الكائن الحيواني القديم. بالانفصال غدا الإنسان إنسانا، أي غدا كائنا ثقافيا. لقد حفظت أسطورة “ملحمة جلجامش”، العراقية، أسرار هذا الانفصال والخروج من رحم الطبيعة في صورة ولادة من الطين. فالطين (الطبيعة) هو الجسد الأمّ الذي ولد منه الكائن البشريّ الأوّل. لقد تولّت الإلهة أورورا مهمّة خلق انكيدو وجلجامش، حينما كوّرت الطين ورمته على الأرض فخرج الأنسي انكيدو وثلث الأنسي جلجامش. رحلة التحوّل من حقبة ما قبل الإنسان الى الإنسان مصدر أساسيّ من مصادر الوعي الكوني. وهو مصدر أساء كثيرون فهمه أو تأويله، حينما حسبوا أنه جزء مما يعرف بالتفكير العلميّ، أو التفكير اللاديني. على العكس من هذا، لا بدّ من القول إن أنسنة الإنسان بالوعي، بالثقافة، بالمعرفة، بإدراك الذات، هي الحلقة الأساسيّة العظمى من حلقات تطور التفكير الديني كلّه، بدءا من شكله الأسطوري الى مرجعياته السموية، مجسّدةً في اليهودية والمسيحية والإسلام. فقد شكّل الاعتراف الديني بهوية الكائن الجديدة (الإنسان الأرضي)، عنصرا جوهريا في منظومة البناء العقلي للفكر التوحيدي. كانت تلك هي الخطوة الحاسمة في رحلة البحث عن إله واحد، يقف فوق البشر جميعا، إله لا يمكن أن تُدرَك ذاته إلا بوعي الذات المدركة لنفسها، ولا يمكن إثبات وجوده إلا بظهور الكائن العارف، الحسّي، المستقل عن مملكة السماء. فقبل إدراك “سيدنا آدم” لذاته، كان الإله التوحيدي محاصرا بحماقات تكنوقراط السماء، الآلهة التخصصيين، وبجهل الطبيعة وصمتها؛ كان ملكا عظيما، ولكن بلا رعيّة. كان “سيدنا آدم” أوّل البشر وأوّل المثقـفين، لأنـه أوّل من خرج من منطقة عدم التساؤل (الجنة) وذهب “هبط” الى الأرض، الى بيت البشر، منطقة الأسئلة، منطقة الحرام والحلال، الصحيح والخطأ، العلم بالذات، التي تجلّت حسيا في هيئة صراع بين العري والاستتار، ورمزيا في هيئة تناقض بين الشرّ والخير. لأن الشر في جوهره قرين لكلّ كابح يعوق تحقيق التوازن الوجودي والانسجام الطبيعي، أما الثقافة فهي حلّة استتار نفسي واجتماعي وايديولوجي لبسها الإنسان العارف.
كانت المعرفة هي السلاح التحويلي، والثورة الكبرى على “اللاإنسان”، وكانت، في عين الوقت، الفخّ المضلّل، الذي استدرج اليه “سيدنا آدم”، فأضحى عارفا، مستترا، وغدا في الوقت ذاته إنسانا. وإذا كان الموت يتحقق حسيا، في الواقع، بالعودة الى الطبيعة الأمّ (الطين)، فإن العدول عن الموت لا تقابله في الوعي الديني استعادة الحياة والخروج من رحلة الموت، وإنما تقابله رحلة جديدة قوامها التحوّل في خصائص الكائن البشري، بتجريده من آدميته البشرية مرة أخرى، وتصعيده درجة أعلى، ووضعه في منزلة تقرّبه من صفات الآلهة. بالصعود الى عالم خالٍ من الأسئلة، خال من الخير والشرّ، خال من الصراع والملكية، خال من العيب والحشمة، خال من المسؤولية الشخصية والإرادة، يصبح الإنسان كائنا في مرتبة الملائكة أو الأبالسة. ففي الحياة الآخرة يُحشَر الإنسان في موضعين محددين: الشرّ الخالص المطلق، والخير الخالص المطلق. في هذا العالم البديل يفقد الإنسان أصله الحيواني الأوّل، ويفقد صورته الثانية، ككائن ثقافي، متعدد الموهبة والمزاج، وابن لحظة تاريخية معيّنة، متحولا الى طبيعة ثالثة، الى مثال عقلي خالص، وروح سرمدي محض. فبالبعث أو النشور ينجز الإنسان رحلة معاكسة، هدفها العودة الى المصدر الذي جاء منه المخلوق البشري الأوّل، الى حقبة ما قبل الاستتار والمعرفة والتاريخ والسرد القصصي.
تقترن فكرة الاستتار اقترانا تاما بالمعرفة، وبوعي الذات. لذلك تبدو في سياق القصص الديني أو النسيج الحكائي الأسطوي رمزا، وليس واقعا. إن عملية الاستتار – الخروج من العري البريّ الى الحشمة – لا أكثر من محض صيغة سردية فنية، وصورة مجازية خالصة، للتعبير عن الانقلاب الكوني الكبير الذي عاشه الإنسان في لحظة تاريخية فاصلة، هي لحظة التحول من لا إنسان الى كائن جديد اسمه الإنسان. إن اقتران وعي الذات بالاستتار وبعملية استئناس الإنسان ملمح رئيسي في حبكة أسطورة “ملحمة جلجامش” العراقية أيضا؛ فعملية تدجين وحش البرية انكيدو واستئناسه، والسير به من العري الطبيعي التام الى التطبّع الثقافي، تمّت بالتزامن مع دفعة الوعي التمديني، التي حصل عليها من طريق البغي شمخة، مرفقةً بالاستتار. وتلعب الغواية هنا، وهي غواية جنسية، دورا ثقافيا مزدوجا؛ فهي اتصال فطري، غريزي، يشير الى الطبيعة الحيوانية من ناحية، وهي لحظة انقلاب اجتماعي ومعرفي وأخلاقي من ناحية أخرى. أي أن الإنسان انتقل الى مرحلة اكتشاف توازن المشاعر وتأسيسها، التي تربط الفردي بالاجتماعي. فالاستتار، بما يحمله من خصوصية فردية- حماية التملك الأحاديّ للجسد- يتحقق من طريق التبادل مع الآخر: الجماعة. هكذا نشأ مفهوم الخاص والعام، العيب والإباحة، الحرام والحلال، والحق والباطل. بالاستتار انتقلت البشرية كأفراد وجماعات الى طور شعوري ومعرفي جديد، دفعها بعيدا عن مملكة الطبيعة، ووضعها في منزلة جديدة: ظهور الكائن العارف.
الانتصار الثقافي واللحظة التاريخية

من يصنع اللحظة التاريخية وما تختزنه من طاقات إيحائية، ثقافية؟ من يصنع لحظة العبور من الجنة الى اللاجنة أو العودة الى الفردوس؟ من العري الى الاستتار؟ من البربرية الى التمدن؟
الأقوياء والمنتصرون هم الذين يفرضون إراداتهم على العالم. هكذا تبدو اللحظة التاريخية للناس. لكن ذلك ليس صحيحا بشكل كامل. إن الأقوى والمنتصر عالميا يضع بصماته العميقة على الأرض، لكنه لا يصنع خطوات التاريخ، لأنه جزء من هذا التاريخ وليس التاريخ كله؛ لأنه جزء متحرك في كيان التاريخ، وليس جسما قادما اليه من خارجه. من يصنع التاريخ إذاً؟ ومن يمنح الأشياء أسماءها الثقافية؟
اللحظات التاريخية الفاصلة يصنعها الجميع، دائما وأبدا: المنتصرون والمهزومون، الأقوياء والضعفاء، الهاربون من المعارك والمقتحمون، الأسياد والعبيد، القتلة والشهداء. إن صناعة التاريخ الثقافي، وتاريخ الوعي البشري، عملية تفاعلية بين أطراف عديدين لا تُختصر في مَن ينتصر أو مَن يخسر، ولا تنحصر في مَن هو أقوى أو مَن هو أضعف. لأنها فاعلية تبادلية، لا تحمل صفة الإلغاء التام، بل تحمل صفة التحوّل. فلا يمكن الأقوى أن يكون أقوى من دون وجود الأضعف، ولا يمكن المنتصر أن ينال نصره من دون وجود طرف مهزوم، وهذا يسري على قوانين الحياة كافة. فلا طلاق بلا زواج، ولا انفصال بلا ارتباط، ولا اكتشاف للعجلة من دون حاجة ونقص في وجود العجلة، ولا كتابة من دون الحاجة الى تدوين، ولا لغة من دون الحاجة الى اتصال. هذا مبدأ جوهري من مبادئ الوجود، جرى نسيانه بفعل عادة النظر الى الوجود كمادة متسيّدة ثابتة الملامح، وليس كمادة تبادلية متحوّلة. إن الانتصار التاريخي لقوة ثقافية ما، يشبه قنبلة من عيار ثقيل، كقنبلة هيروشيما. قنبلة تختتم حربا ما. نقطة نارية عظيمة في نهاية جملة حربية هائلة. مثل هذه القنبلة لا تستطيع أن تكون حاسمة ما لم يتحمّل الطرفان، المنتصر والمهزوم، أعباء التفكير في وجودها وإنتاجها وتكاليف صناعتها وحملها وتجريبها والمحافظة عليها كاختراع وملكية، وفي الأخير شرعية أو لا شرعية إطلاقها على هدف محدّد وتقبّل نتائجها. وبإطلاقها على الخصم الخاسر، يتقبّلها الخاسر كحرائق ودمار وموت وتمزّق روحي وجسدي، وفي الأخير كانكسار واستسلام. قنبلة مثل قنبلة هيروشيما هي القاسم المشترك الذي يربط القاتل بالقتيل، المنتصر بالمهزوم، القوي بالضعيف، الجديد بالقديم، الحيّ بالميت. هذا الخليط بما يرافقه من مشاعر نشوة موقتة، أو فخر دائم عند طرف، وانكسار موقت أو صحوة مقبلة عند طرف آخر، لا يعفي الطرفين من مسؤولية تحمّل أعباء تلك اللحظة بشكل مشترك. لأن نشوة النصر تأتي مخلوطة بمأساة نفي الآخر وتدميره، وما يرافقها من تأريخ لا يزول ولا يُمحى؛ أما لحظة الانكسار فترافقها مشاعر النظر الى الآخر كمدمّر أو مهيمن أو مغيّر، وربما يُنظَر اليه كإله عادل، مهيمن، أو كشيطان ظالم، أو كعنصر هجين يجمع بين الأمرين. ولكن، مهما يكن نوع المشاعر التي يحملها أطراف الصراع، فإنها لن تكون سوى مشاعر متبادلة.
أحداث جسام في حياتنا الواقعية لا نستطيع أن نفهمها جيدا، بالقدر نفسه من الوضوح، الذي نفهم فيه مغازي الأساطير المقبلة من أقدم العصور، على الرغم من كل ما نملكه من مهارات العلم والمعرفة. أليس عجيباً أننا لا نستطيع إدراك الأحداث الأكثر راهنية وخطورة في حياتنا وتقدير حجمها الحقيقي إلا من طريق إلغاء واقعية حدوثها وإعادة نسجها أسطوريا؟ ربما لأن الأسطورة هي الأقدر على تحطيم منطق الحبكة الواقعية، حينما تكون أسرار الحبكة الواقعية غامضة غموض هوية كتّاب الأساطير.
حينما نتأمل اللحظة التاريخية الراهنة، التي أرّخوها بالحادي عشر من أيلول مثلا، نجد الاختلاط العقائدي والمعرفي والمزاجي كثيفا الى حدّ لا يستطيع أحد أن يفكّ عقده المتشابكة. ويصل الاختلاط هنا حدودا تفوق الخيال الأسطوري. وعلى الرغم من اختلاف الأهداف والنتائج والوسائل، إلا أن هذا العبور الحربي القاري العصري لا يختلف في إشاراته عن لحظات عبور تاريخية كبيرة سابقة، مثل رحلة جيش داريوس نحو اليونان القديمة، ورحلة هنيبعل نحو روما، وعبور جيش أكسوم الى شبه جزيرة العرب، وعبور الفاتح طارق بن زياد الى الأندلس، وعبور أميركو وكولومبس الى البر الأميركي.
وإذا كانت الغرابة هي الجزء الغامض والسحري من نسيج الحكاية الأسطورية التقليدية، فإن غموض الواقع يرفع الحدث باقتدار الى مرتبة الأساطير، ولكن العصرية. إنّ حادثة هيروشيما أسطورية بكلّ المقاييس. فلو أردنا إعادة سرد الحكاية أسطوريا، كحدث كونيّ من أحداث الألف الرابع قبل الميلاد، لكان ترتيب الحكاية على النحو الآتي: يتهلل وجه الإله أم، حينما تصله أخبار انكسار القوى الشيطانية واستسلامها المذلّ، تلك القوى الشريرة التي هاجمت وضربت عمق جزيرة الآلهة وهشّمت نوافذ بيتهم. يطلب الإلهُ الأكبر على الفور الكائنَ الخرافيّ ط، ويخبره بأن لحظة الانتقام قد حانت، فالعدو لا قِبل له بالمواجهة. يقول له آمراً: إجعل الأعداء يتلقّون الدرس الأقسى في تاريخ الخليقة، لقِّن البشر الضالّين درسا في الطاعة الأبدية. يبتلع الطائر ط أكبر كميّة من حمم الجحيم، يلبس ريش الاستتار ويطير بين الغيوم، وبلمح البصر يحلّق فوق جزيرة الشيطان، ينظر اليها من بين الغيوم بنشوة وحزم. يقيء الطائر ط وهو يرى الأشرار يدبّون على الأرض بعيونهم الضيّقة ووجوهم المدوّرة ورؤوسهم الداكنة، فتتزلزل الأرض زلزالا. صواعق من النار تضرب البيوت والحقول والطرق فتنطلق من الأرض نافورة رصاصية اللون والمذاق، تصعد الى السماء، مثل جبل من السخام والصراخ والأنين والبارود والأحماض…
ولأنّنا لسنا في عصر الأسطورة الفطرية، لم يزل أكاديميون أميركيون وعلماء مرموقون وأساتذة جامعات في مجال الهندسة والفيزياء وعلوم الذرّة، وعسكريون سابقون يقفون موقف المتشكك (التشكيك ليس في الحدث ولكن في طريقة سرده وتأويل نتائجه) من الحبكة غير المستقيمة للرواية الرسمية لأحداث الحادي عشر من أيلول، محاولين عبثا إعادة قراءة سطور الأسطورة واقعيا، من طريق نزع فتيلها الايديولوجي ووضعها في مسار منطقي. يقول مورغان رينولدز الاستاذ في جامعة تكساس والعضو السابق في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش: “أحداث الحادي عشر من أيلول كانت عملية زائفة… أكذوبة كبيرة لها علاقة بمشروع الحكومة الأميركية للهيمنة على العالم” (عن موقع كتابات، رويترز، نقلا عن كتاب “الحادي عشر من أيلول والامبراطورية الأميركية” بقلم ديفيد راي غريفين وبيتر ديل سكوت). متى تمنحنا الأسطورة حقّ قراءة الواقع الفعلي، الحقيقي، وحقّ رسم الحدّ الفاصل بين خيال الواقع وخيال الايديولوجيا؟ ربما لن يتاح لنا ذلك إلا بعد أن تنجز الحبكة الأسطورية انتقامها التام من سرديات الواقع.
لماذا نتجاهل الواقع لصالح الخيال العسكري الفني؟ ألأن الأسطورة، لا الواقع، هي من يصوغ حبكة الأحداث الجسام؟ أم لأن البشر اعتادوا أن ينظروا الى تسلسل الأحداث العظيمة المفاجئة ببلاهة، تشبه الى حدّ كبير بلاهة من يصدّق المعنى الخارجي للحكاية الأسطورية التقليدية. منذ زمن موغل في القدم كان العالم ولم يزل ثكنة عسكرية صغيرة، متحركة.
من القويّ ومن الضعيف في لحظات العبور التاريخية الكبيرة من زاوية بشريّة عامة، تقرأ المشهد الحكائي ثقافيا من خارج أماكن انوجاد الخصمين الرئيسيين وتداخل فاعليتهما. مَن المنتصر ومَن المهزوم؟ مَن الرابح ومَن الخاسر؟ مَن يفرض على العالم حروف أسمائه وخطابه ومشروعه السياسي والايديولوجي؟ هذه الأسئلة لا يفهمها على حقيقتها العابرون المسرعون، الذين يمرّون على التاريخ خفافاً.
ينتهك الواقعُ حرمةَ الأسطورة حينما يُقدم الإنسان على اختراق حدود الأسطورة، مؤسسّا لحظة ثقافية رمزية مكثّفة، محاطة بالغموض والأسرار، وبالقسوة الجنونية، وبانقلاب المفاهيم وتبلبلها العظيم. وينتهك العقلُ الثقافي حرمةَ الواقع حينما يشرع في تهشيم منطق الحدث الواقعي من طريق تحويله صورة تأويلية، تعميمية، جامعة، أي تحويله خرافة. كم حجم الواقع وحجم الأسطورة في أحداث العالم السياسية الجسيمة ذات الدلالات الثقافية العالمية؟ من يقوم بتأويل الأحداث تقاطبيّاً ووضعها في صيغة صراع بين الخير والشرّ، بين التمدن والتخلف، بين الحق والباطل، بين العلم والجهل، وسياسياً بين الديموقراطية والطغيان؟

قراءة الواقع أسطوريا

ما الذي يتركه العبور العسكري الكبير على صفحة التاريخ ثقافيا؟ لقد خلّف لنا عبور جيش داريوس الى الشمال أسطورة عصرية اسمها “ماراثون”. أما عبور طارق بن زياد فقد ترك لنا أسطورة إحراق السفن واسما منقوشا على مضيق بحري. ولم تكن فيلة هنيبعل وأبرهة أسلحة قتال محضة. كانت رموزا حسية للقوّة والتفوّق، حفرت صورها في ذاكرة التاريخ وليس في قلوب الجند الأعداء فحسب. وفي البصرة، البصرة لا نيويورك، يرتفع عاليا اسم رجل المطافئ الأميركي بوكا، ضحية العدوان المقبل من خارج الحدود.
قوانين بناء الأسطورة ذات الجذر الواقعي والحدث العالمي، تشترط تصدير الأسماء الى ما وراء المحيطات، كشاهد فريد على العظمة فوق القارية. ولكن لِمَ لم يتمّ تصدير أسطورة بوكا الى موقعها المباشر، الى أفغانستان؟ لِمَ جرت كتابتها على أرض البصرة؟ أهو خلل سردي أم تفوق ثقافي؟ ألأن أتربة تورا بورا وظلمة كهوفها تجعل الموت خاليا من البريق، مفرّغا من المعنى الأسطوري ومن المغازي والرموز؟ أم لكون البصرة، حيث تكمن منابع النفط وممالك المال، أقدر من قندهار على جعل اسم الضحية عنوانا تاريخيا لأكبر معتقل جماعي شهدته حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ هنا تقوم الأسطورة العصرية بانتهاك سافر لقوانين الواقع الجغرافي والسياسي، تقوم بتحطيم قواعد المنطق البشري، وفرض قواعدها الخاصة: حلولها الثقافية الإرغامية، وخيالها ورموزها التعويضية. ولا غرابة أن نعثر في قنبلة هيروشيما على ميل تعويضي سافر يستر خيالا انتقاميا محضا، خاليا من الأهداف الحربية، وأن تكون السجون الجماعية الأميركية في الأراضي المحتلة إعادة بعث، وصورة تعويضية انتقامية، مجلوبة من ذاكرة العسكريين الذين عاشوا تجربة الإذلال في معسكرات الاعتقال اليابانية والألمانية.
لنتأمل الواقع بلغة الأساطير: فجأة يَحلقُ رجالُ المغاور لحاهم الكثيفة الوسخة ويرشّون عطور “كريستيان ديور” على وجوههم، ينزعون زيّهم الصحراوي البشع ويرتدون حللا عصرية أنيقة بأربطة عنق ملوّنة، يتركون كهوفهم المظلمة وبغالهم الهزيلة، ويمتطون أحدث وسائل التحليق في الفضاء. يعبرون البحار والمحيطات بلمح البصر، وينقضّون على رمز البشرية الأعلى، أبراح بابل التجارية والعسكرية، التي تحرس قلب مملكة الرفاه الأرضي. بضربة خاطفة يحيلونها هشيماً، ثمّ يختفون ذائبين في فضاء الذعر والقلق الكوني. أما البشر الوادعون، الناجون من هول الكارثة، فيصحون مذعورون، مبهورين من شدة المفاجأة. لكن الإله الجبار الحازم يستجمع شجاعته وحكمته الكونية فيرسل جنوده الشجعان الى بقاع الأرض كلّها لتعقّب طيور الشر واصطيادها في أوكارها، يأمر جنوده باستخراجهم واحدا واحدا من مسامات الجلد الثقافي الذي اختبأوا فيه. ولا ينفكّ الإله يرسل جيوشه تباعا أينما وجد الشرّ والاشرار، يرسل جنوده الى بلاد ما بين النهرين، الى السند والهند، الى عيلام، الى صيدون، الى شنعار، الى وادي الملوك، الى جبل الكرمل، والى بلاد الزنج وأقوام ياجوج وماجوج…
حينما يتم تأويل الواقع أسطورياً، يختفي المنطق الثقافي خلف غيمة الدخان السياسية الكبريتية الحامضة، ولا يعود أحد يسأل: من أين يبدأ الواقع وأين تنتهي الأسطورة؟ أين يبدأ العقل وأين تنتهي الخرافة الايديولوجية؟
في يوم مماثل، وجد إغريق القرن الرابع قبل الميلاد في سليل العائلة المقدونية الحاكمة شابا جميلا جمال الآلهة، قويّا شجاعا كالآلهة، عارفا متعلّما على يد أعظم فلاسفة العصر، عليما كالآلهة، فأدركوا أن تلك الصفات فوق البشرية تتحد كلها في رجل واحد، لذلك لم يبخلوا عليه بلقب الإله. وحينما فعلوا ذلك تقبّل الإسكندر المقدوني تلك الهبة الأسطورية واستأنس بها كحقيقة، كما نستأنس نحن الآن بأساطيرنا العصرية. وعلى الرغم من إدراك الإله الأسطوري الجديد أنه وُضع في نسيج كذبة منافقة، لكنه وجدها حبكة حكائية ضرورية، وربما أكثر واقعية من الصدق نفسه، لأنها الصيغة السردية الوحيدة يستطيع بها أن يميّز نفسه ملحميا عن الآخر. فبدونها لن تكون هناك معادلة اسمها “أنا” و”هم”، لن يكون هناك من يسرد ومن يستمع، من يأمر ومن يتلقى. فهناك من هو أشرف منه، وهناك من هو أعلم منه، وهناك من هو أبسل منه، وهناك من هو أجمل منه، وهناك من هو أكثر طموحا منه؛ ولكن لا يوجد من هو أعلم وأجمل وأشجع وأكثر طموحا منه، وأقرب الى كرسيّ الحكم منه. لا يوجد من يجمع تلك الحزمة في كيان واحد سواه. الإله الشامل، غير التخصصي، هو وحده من تجتمع فيه الصفات كلّها. لهذا السبب تمّ إخراج الإسكندر من مملكة البشر ورفعه الى منزلة الآلهة، كما فعل العراقيون قبله بقرون مع بطلهم الأرضي جلجامش، حينما راحوا يدفعونه خطوات واسعة نحو الألوهية، جاعلين منه ثلث بشر وثلثي إله. ولكن، بين جلجامش والإسكندر قرون طويلة من رحلة الصراع بين الآلهة والبشر، تمكّن الإسكندر خلالها أن يحوز الثلث الذي لم يستطع جلجامش أن يحصل عليه، أو الذي أخفق في الوصول اليه. وقد اختلف الناس كثيرا في قراءة هذا الثلث الخرافي، فمنهم من رآه ضامنا ومنهم من رآه معطّلا. أمّا الإلهة عشتار فقد استخدمت هذا الثلث وسيلة للابتزاز الجنسي، بعدما خسرت حبيبها تموز. انتزع الإسكندر هذا الثلث بالمقلوب، ليس من الآلهة، ولكن من البشر، وهنا تكمن الفطنة. كان الإسكندر وهو يلبس ثوب الأسطورة الزاهي يدرك أمرا تاريخيا مهما، مفاده أن النصف الثاني للألف السابق للميلاد هو حقبة انقلاب كوني جديد، حقبة موت الآلهة الأرضيين، وبدء عصر الانتقال الى حكومات نواب الآلهة. لذلك أعيد الإسكندر الى وطنه ميّتا، محمّلا النفائس والأحداث الأرضية الباهرة، ولكن من دون عرش إلهي. كانت اللحظة التاريخية حينذاك توجب أن يكون الرسل من سلالات الطين، لا من سلالات السماء.
وربما يكون السيّد المسيح هو آخر تنويعات الحكاية التي جمعت في ذاتها صورة الإنسان ذي القوام البشري والأصل الربّاني. كان المسيح روحا إلهيا في جسد بشري، سرعان ما عاد الى الذات التي صدر منها، حالما انتهك الواقعُ حرمة الجزء الإنساني: الجسد. مكر الواقع، وليس مكر الأسطورة، هو الذي أرغم البشر الفانين على تعليق الأسطورة على صليب من خشب، لكي تغدو سرمدية الحضور: ايديولوجيا أبدية.
من طرائف التاريخ الثقافي أن تكون الحيّة، التي أعانت “سيدنا آدم” في الخروج من متاهة اللاإنسان، ووضعته في مرتبة الإنسان العليم، هي ذاتها التي حرمت جلجامش من الصعود الى مرتبة الألوهية الكاملة. على من كانت الأفعى تتمرد حكائيا؟ لم تكن الأفاعي متمردة قط. كانت تمارس فنيا فعلي العطاء والأخذ أسطوريا. ولأنها أشطر من يمثّل حيلة العطاء، فهي أقدر من يمثل مكيدة الإختلاس سرديا.
معضلة الإسكندر الكبرى: حيازته لقب الإله في زمن لم يعد فيه ممكنا نزول الآلهة الى الأرض، دفعته، وهو حيّ وميّت، الى الترجل من عرش الأسطورة طوعا والإكتفاء بانتصارات الواقع التي فاقت حدود الأساطير. لذلك سار الإسكندر على الأرض، خطوة خطوة، من مصر الى الهند، مرورا ببابل عاصمته الموقتة وموطن موته الدائم؛ قاد مسيرة خيالية، خالية من خوارق الآلهة، أرغمته واقعيتها المدهشة، على الاعتقاد بأنه لا يستطيع أن يسيطر على تفاصيل المشهد الأرضي من السماء، ولكن يستطيع أن يطبع بصماته الوراثية على جبهة التاريخ، أن يضع بذرته في رحم الآخر المغاير، يضعها على أرض الواقع، ينبتها في الطين، في مهبل الخليقة. لم يكتف الإسكندر، الإله، بهزيمة “الآخر” ماديا وروحيا، كان يهدف الى هزيمة المنافسين هزيمة أسطورية أيضا. بيد أنه لم يكن في مقدوره إفناؤهم، كما تفعل الآلهة الحقيقية، لذلك سعى الى إعادة خلق الآخر، المغاير، أو تخليقه على المثال الذي يريده، مجوّزا لنفسه ولجنده حقّ المصاهرة مع سكان الشعوب المهزومة. حينما مات الإسكندر في بابل حُمل مع أثمن غنائمه، فعاد غريبا على محفّات المنتصرين، ولكن الى عالم آخر، غير العالم الذي داست عليه أقدامه شبرا شبرا، والذي أراد إعادة خلقه مجددا.
إن الأقوياء، وذوي الرسالات الكبرى، السموية أو الأرضية، يستطيعون التأثير في مصائر البشر وفي أقدارهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وثقافيا، لكنهم لا يخلقون بأنفسهم قيم البشر الثقافية، لأن الثقافة لا تغدو ثقافة من دون وجود عملية تبادل بين طرفين، حتى لو كان أوّلهما منتصرا وثانيهما مهزوما، أوّلهما قاتلا وثانيهما قتيلا، أوّلهما حيّا وثانيهما قد فارق مسرح الحياة. ففي مجال التبادل الثقافي يمتلك الجميع حقّ الكلام وحقّ إبداء الرأي، حتى الخرس والموتى يمتلكون حقا مقدسا في السجال والجدال، وحتى الأكفان تستطيع أن تعبّر عن نفسها بنفسها من دون حاجة الى مترجمين وكتّاب أساطير ووشاة أو رقابة سلطوية.
حينما اختتمت الأسطورة سرد فصولها، أعيد جثمان الإسكندر الى الطين الذي ولد منه، لكنه ترك خلفه عددا لا يحصى من الأسماء، أسماء بشر وأسماء مدن، لم تزل جميعها تذكّرنا بشقَيّ الحبكة التاريخية: الأسطورة والواقع. أما أميركو فقد طبع اسمه على أرض مجهولة غدت قبلة العالم الجديد، ونقش طارق اسمه على عنق مهم من أعناق الجغرافيا العالمية، ورسم داريوس ماراثونَ أعدائه على طرق القارات، وترك هنيبعل وإبرهة أفيالهما تمزّق سكون التاريخ بنهيمها الأبدي. ماذا يترك الضحية بوكا للتاريخ؟ هذا سؤال يواجهه المثقّف الأميركي قبل المثقّف العراقي، يواجهه المثقّف الإسرائيلي قبل المثقّف الفلسطيني. لأنه سؤال يصنع الهوية التاريخية، هوية الأسطورة وهوية الواقع، هوية الايديولوجيا المتسيّدة، الايديولوجيا الضاغطة في لحظة ضعف الآخر ¶

النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى