صفحات الناس

حـي الميـدان فـي دمشـق إن حكـى

null
ممدوح رحمون
طالعت المقال المنشور في جريدة «السفير» بتاريخ 17/9/2009: أين تقع صبرا وشاتيلا وأين يقيم الشهداء. وتمعنت بكل كلمة وردت فيه، وإني أشارك بما عبر عنه حول قبور هؤلاء الشهداء، الذين لا يعرف الكثيرون حتى موقعها؟.. إلا من روائح تفوح حولها.. واخجلتاه..
لكن ما يزيد من آلامنا وخجلنا أن يأتي بعض أصحاب النفوس الكبيرة، والأجنبية منها خاصة، لتنثر الأزهار على قبورهم وتضيء الشموع، لعل هؤلاء الشهداء يشمون روائحها، ويفتحون عيونهم على النور…
إننا بقينا متخلفين بالجغرافيا والتاريخ، فمعدودون على الأصابع الذين يحاكون التاريخ، ويفهمون لغته، وهذا ما يفسر انتقال الكاتب من صبرا وشاتيلا إلى حي الميدان بدمشق.
وهنا أود أن أثمن الانتقال، لأنه أتى على تاريخ الثورة السورية، وتنقل بين حناياها وجغرافيتها، ليصل إلى حي الميدان، في دمشق.
أنا ابن هذا الحي الدمشقي العريق، الذي قصفته الطائرات وهاجمته المدفعية والدبابات، وبكل الأسلحة المتعارف عليها آنذاك، غير أن فرنسا فشلت في كل ذلك، ولم تستطع أن تكسر شوكة هذا الحي أبدا. فكان نصيب أهلها من القتلى والجرحى لا يعد ولا يحصى، وبما يتجاوز ما جاء في مقالك، أما نصيب بيوتها من الهدم والتدمير، فلم تكن هناك من إحصائيات في ذلك الزمان. تسمح بالاطلاع على الهمجية التي تحلى بها أهل الانتداب (المتحضرون…)
وكان نصيبنا ـ بكل شرف ـ اعتقال عميد العائلة محمود رحمون فأخذوه رهينة بين الرهائن الآخرين من حي الميدان. وهددوهم بقتلهم في السجون، ما لم تتوقف الثورة والمقاومة، في حي الميدان[ وثلاثة من ثوار شباب العائلة أخذ أحدهم أسيرا في المعركة وهو أحمد أسعد، وأفرج عنه، عند صدور العفو عن المعتقلين من الشباب الصغار، أما هاشم وعز الدين فقد استطاعا الإفلات من أيديهم. أما بيتنا فقد تهدم معظمه. نتيجة القصف والحريق والتدمير، مما أضطر أهلي لنقل النساء من بين العائلة هذا إلى أحياء أخرى من العاصمة، أما والدتي فقصدت دار أبيها في بيروت. ولم يبق في هذه البيوتات لباقي العائلة إلا المقاتلون…
أما أساليب الحضارة التي تعرفت عليها شخصيا ـ في ما بعد ـ فهي قطع الماء والكهرباء عن بيوتنا، فانتشرت المجاعة، وازدادت الحرائق، ولا ماء حتى للإطفاء..
وسأستمر في أنانيتي، لأقدم بعض المعلومات الموثقة عن الكوارث التي حلت بذلك الحي وعلى لسان أحد الرجالات وكان له الدور الكبير في الثورة السورية، ابن هذا الحي الرئيس والصديق حسن الحكيم والذي جاء في كتابه (مذكراتي) ما يلي:
كوارث حي الميدان الثلاث:
1ـ الكارثة الأولى من 17 شباط عام 1926 ص. 299 ـ 300
«على أثر اشتداد ساعد العصابات بعد 18 تشرين الأول 1925 وعدم تمكن الفرنسيين من التغلب على الثوار في المعارك التي نشبت بينهم وبين الجنود في أوائل شباط من عام 1926، جلا الفرنسيون عن حي الميدان وأنشأوا خط دفاع في باب الجابية، جنوب المدينة فأقاموا فيها المتاريس والأسلاك الشائكة ووضعوا الدبابات. ولكنهم لما قصرت يدهم عن إدراك ثأرهم من الثوار، أغاروا في ذلك اليوم على القسم التحتاني من حي الميدان، وهو القسم المتصل بباب الجابية، مركز خط الدفاع، ونهبوا المتاجر، وفي صباح اليوم التالي أي الأحد 14 شباط. استأنفوا الغارة مع المتطوعة فجاء نحو ثلاثمئة منهم إلى زقاق (الغلاينية) ونهبوا أكثر من مئة دار، وفتكوا بكل ما صادفوه، وعادوا بالمنهوبات على مرأى من سكان المدينة، ومن القواد الفرنسيين؟
وبعد أن قامت دمشق وقعدت لهذه الفظائع البربرية من الصباح إلى بعد الظهر، بحرق ونهب العديد من بيوتات حي الميدان، فقد قصد وفد من رجال الميدان لمقابلة الجنرال (اندريا) قائد الموقع العسكري بدمشق. يسألونه كف الاعتداء الشائن من الجنود ووقف هذه الفظائع التي (لطخت سمعة فرنسا) فأظهر له باستياء، كذباً ورياء، ودون أن يعمل شيئاً، وقد أضربت المدينة ثلاثة أيام متوالية، واشترك في إضرابها المسلحون والمسيحيون معا.
وقد قال مسيو (بيجان) لأحد وجوه الميدان وقد شكا اليه الحال:
«إن لدينا من العصابات كما لديكم، وسنرى أيهما أقوى وأقدر… وكان المسيو (بيجان) قد خطب في متطوعة الأرمن، قبل هذه الحوادث وقال لهم: «إن هذه البلاد هي في الواقع من بلادكم الأصلية، وقد انتزعها العرب منكم وأجلوكم عنه قـــديماً، وهي ستـــترك لكـــم متى طُهّرت من هؤلاء (السوريين القذرين)».
ملاحظة: ألم يقل الامبراطور نابليون قبله أكثر من هذا الكلام مخاطبا اليهود في مصر، وهو متجه إلى سوريا، وغايته احتلال دمشق، حتى لا تعكر صفو مدينة داود وإلى الأبد. فكان الصهيوني الأول الذي سبق هرتزل بمئة عام ولقد قال فيه (وايزمن) انه الصهيوني الأول من غير اليهود.
فلنقرأ التاريخ لنتعرف على موقعنا…
2ـ كارثة الميدان الثانية في 16 نيسان 1926
… وإذ هاجم الفرنسيون، سوق الجزمائية في حي الميدان، فقد أمر الحاكم العسكري بتدمير الحي، وكل منزل يلجأ إليه الثوار. وكانت السلطة تضغط على الميدانيين من أجل دفع الغرامة وقدرها ألف ليرة عثمانية ذهباً، ومن أين لهم أن يدفعوها. وقد فقدوا كل شيء لذلك هددهم بقطع مياه الشرب عنهم، وقد أصدر الحاكم العسكري بيانا بتاريخ 16 نيسان 1926 جاء فيه:
عند الساعة السادسة صباحاً، تقطع مياه (الفيجة) عن الحي المذكور، عند عدم دفع الغرامة النقدية، وكان من النتائج لقطع الماء عن الحي إن تعذر إطفاء الحرائق التي شبت فيه.
3ـ الكارثة الثالثة 7 أيار 1926
وفيما أهل الحي غـــارقون في سياستـــهم، إلا البعض من الشيوخ الذين استيقظوا مبكرين وذهبوا للمساجد لأداء الصلاة.
أخذت هذه القوى الثلاث، المؤلفة من الفرنسيين، وغيرهم من المتطوعين، تقتحم البيوت وتكسر أبواب الحواصل والمخازن وتدخل المساجد، وتنقل ما فيها من أمتعة وحلى وتحف وتقتل كل من تصادفه من النساء والرجال والأطفال، وقد اشتركت في هذه الغارة المفاجئة بإطلاق قنابلها على الحي المدفعية الفرنسية في باب شرقي والجنجانة والمزة، كما اشترك في ذلك الطيارات والدبابات والرشاشات. وكان الجنود يلقون صفائح البنزين في مداخل البيوت، فلم تمضِ ساعة حتى امتدت ألسنة اللهب إلى المباني الأخرى المجاورة على خط مستقيم بلغ طوله نحو 650 متراً…
وبعد كل هذه الفظائع. عمدت السلطة المنتدبة إلى حبس أعيان المدينة. في مغارة في سفح رابية تسمى (الشرفة) وهي زاوية مظلمة ورطبة، وأقامت عليهم خفراء من الجند السنغالي، ومنعت عليهم كل اختلاط، ولم تسمح لهم بالأكل إلا مرة واحدة في اليوم وإذا تأخروا دقيقة واحدة، كانوا يرمون الطعام على الأرض…
ولما أمرت السلطة بإطلاق القنابل على المدينة، نقلتهم الى مرتفع رابية المطلة على جميع أحياء المدينة، ليشاهدوا بأعينهم ضرب الأحياء الآمنة وتدمير المنازل ويبقوا واقفين حتى ينتهي الضرب والتدمير. وقد أنذرتهم السلطة، فيما إذا بدرت حركة من الأهلين أثناء الضرب، فتدار أفواه المدافع نحوهم وتطلق عليهم؟…
هذا بعض مما حوته ذاكرة الرئيس المرحوم حسن الحكيم من المجازر والفظائع والحرائق والقتل والتدمير.
أما أنا فما احتوته ذاكرتي وأنا ممن جاء لهذه الدنيا بعدة سنوات بعد الثورة. فإني قد عانيت من نتائجها عندما وعيـــت على الدنيا. وأنني أعيش في بيت نصفه مهدم، وبلا ماء ولا كهرباء وذلك كله بــسبب جدي الإرهابي سعيد رحمون وكـــنت وإخــوتي نتناوب على حمل السطل لجلب المـــاء من آخر الحارة، تحت الشمس والمطر والثلوج. بينما جيراننا ينعمون بكل ذلك، ولــم نكن نعــرف السبب، وكلما سألنـــا نقابل بالوجــوم وبكلـــمة (بيفرجها اللـــه) لكن الفرج تأخر حتى عام 1946 عنـــدما انتــفض والدي وكسر الأخــتام بالشمع الأحمر، ونعمنا بالماء والكهرباء كباقي البشر. وأصبـــحنا ندرس على الكهرباء لا على الفــانوس والشمع.
السفير

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى