صفحات سورية

قبل فوات الآوان

null


الياس خوري

سقط الجدار، كان يكفي ان تجتمع العبوات الناسفة مع معاناة الناس وارادة الخلاص، كي يتهاوي جدار غزة، ويتدفق الفلسطينيون الجائعون الي مصر كي يأكلوا ويشتروا حاجياتهم الأساسية، ويقولوا لسياسة الحصار الوحشي الاسرائيلي ان زمن قتل الفلسطينيين انتظارا قد انتهي.

المشهد يدعو الي التأمل العميق. لا اريد ان اسأل الأنظمة العربية الغارقة في الزيت والفساد والديكتاتورية، فهذا النوع من الأسئلة صار عبثا لا جدوي منه. النظام العربي عاجز وتافه ولا يبالي، لا هم له سوي الاستمرار في سلطة فقدت الحد الأدني من الشرعية.

لكن سؤالي موجه الي الحركة الوطنية الفلسطينية، التي يبدو انها استسلمت لقدرها، وصارت من خلال سياسة الانتظار المملة التي تتبعها السلطة الفلسطينية خارج المعادلة، لا تبادر الا في انتظار ان يجد المجتمع الدولي حلا لا قدرة له علي ايجاده، لأنه مكبل بالسياسة الأمريكية المحابية والمتواطئة مع اسرائيل.

هل تعي الحركة الوطنية الفلسطينية، وانا اتكلم هنا عن فتح والشعبية والديموقراطية، انها في حاجة الي العودة الي المبادرة والامساك بالقضية، قبل ان تخرج القضية نهائيا من بين يديها، وتستولي التيارات الأصولية علي شرعية النضال الفلسطيني في شكل كامل؟

لا اعتقد ان الأوان قد فات، لكنني متيقن من ان مساحة الحركة بدأت تضيق بحيث ان الانهيار الشامل بات علي الأبواب. الرهان علي انابوليس وعلي الكرم الاسرائيلي في غير مكانه، اسرائيل لن تخرج من الضفة الغربية والقدس الا مرغمة ولا مكان للأوهام بعد الآن.

الدعوة الي يقظة الحركة الوطنية الفلسطينية ليست مجرد حنين للزمن الفتحاوي القديم، حيث كان خليل الوزير وجورج حبش وصلاح خلف ونايف حواتمة الي جانب عرفات يصنعون مشهدا فلسطينيا متميزا، بل نابعة من ضرورة مواجهة الخطر الذي يلوح في الأفق، وهو خطر التفكك الفلسطيني تمهيدا للعودة الي زمن النكبة الكاملة، حين تم الحاق الضفة بالأردن، وجري استتباع غزة لمصر.

الاسرائيليون الذين عجزوا عن البقاء في غزة، ويعلنون اليوم عجزهم عن فرض حصارهم الشامل عليها، بعد نسف الجدار، يلوحون باحتمال واحد: القاء مسؤولية غزة علي مصر، تمهيدا لالقاء مسؤولية ما تبقي من الضفة علي الأردن، اي انهم يناورون في الهامش الذي يجمعهم بالنظام العربي، وهو التخوف من الحركات الأصولية، تمهيدا لتحقيق نصرهم الكامل غير المستحق، عبر محو فلسطين مجددا عن الخريطة.

امام هذه الاستراتيجية الاسرائيلية التي باتت واضحة، لا يحق للحركة الوطنية الفلسطينية البقاء في الجمود والترهل البيروقراطي والرهانات الخاسرة. هذا لا يعني قطع المفاوضات مع الاسرائيليين، بل يعني ان علي المفاوض الفلسطيني ان يمتلك ورقة اخري، هي ورقة المقاومة، لا ان يفاوض اعزل، ليجد نفسه ضيفا ثقيلا علي محتل لا يريد سوي الخلاص منه.

الترهل وانعدام الأفق والخيال الذي تعيشه قيادة السلطة ومنظمة التحرير يثير القلق والخوف. الي متي يستطيع محمود عباس وسلام فياض الاستمرار في الرهان علي الوهم. والي متي تبقي حركة فتح مشلولة وعاجزة وخارج المعادلة؟

لا شك ان الحركة الوطنية الفلسطينية في حاجة الي ثورة داخلية جذرية. من العبث ان يبقي الحال كما هو عليه، ومن الاجرام ان ينتهي الحلم الفلسطيني تسولا عند الامريكيين، ومن الجنون الاعتقاد ان الوضع الراهن سوف يستمر طويلا.

فتح في حاجة الي ثورة داخلية تعيد النصاب الي شعارها الاساسي: كل البنادق نحو العدو، وتبني العلاقة مع الشعب علي الشفافية والنزاهة والتضحية. كما انها في حاجة الي تأسيس الوحدة الوطنية الفلسطينية من جديد. اي ان البقاء في شلل التفاوض، والسماح للاسرائيليين بالعبث بحيوات الفلسطينيين علي المحاسيم المتوحشة، وعدم المبادرة الجماهيرية الي فك الحصار عن غزة بمختلف الوسائل، سوف يعني ان الحركة الوطنية الفلسطينية تستسلم للقدر الاسرائيلي، وترضي بالموت السريري المفروض علي فلسطين.

الوحدة الوطنية لا معني لها اذا لم تعد كتائب شهداء الأقصي الي العمل، ولم تستخلص الحركة الوطنية الفلسطينية استراتيجية جديدة للمقاومة، كي تمتلك المبادرة من جديد. وهنا يقع جوهر المسألة، اي ان ما هو مطلوب يتجاوز النقاش حول الشرعية القانونية من اجل طرح المزاوجة بين الشرعيتين القانونية والسياسية.

هذا لا يعني القبول بنتائج الانقلاب الحمساوي الدموي في غزة، فهذه سابقة لا يمكن تكريسها، لأنها تهدد يتدمير العمل الوطني برمته، وتعريضه لاحتمالات الانقلابات العسكرية. لكنه يعني ان افق الخروج من الأزمة القانونية يبدأ بطرح مشروع سياسي وطني، يفرض العودة عن الانقلاب لمصلحة استراتيجية نضالية وسياسية جديدة.

هذا هو التحدي الكبير امام الحركة الوطنية الفلسطينية.

لا ادري كيف يسكت المناضلون والأسري عن هذا الواقع المتردي، ولا افهم كيف تبقي اللجنة المركزية لحركة فتح علي حالها ولا يأتي من يقول ان اوان التغيير الجذري قد اتي، وان قيادة جديدة آن لها ان تولد، قبل ان تفقد قيادة الحركة الوطنية شرعيتها السياسية.

ان غياب مشروع وطني نضالي، وانسداد الأفق السياسي، لن تكون نتيجتهما بلورة مشروع دولة واحدة ثنائية القومية مثلما يحلم البعض، بل سيكون بابا الي عودة الخيار الأردني، والي مشروع الحاق غزة بالادارة المصرية، اي سوف يكون بداية انهيار مشروع ولادة الدولة الفلسطينية، ومدخلا الي وأد الهوية الفلسطينية.

المسألة تتجاوز التنافس مع حماس والاخوان المسلمين، انها مسألة الهوية الفلسطينية المهددة اليوم.

انهيار الجدار، وبطولات الغزاويين المحاصرين، تعلن ان علي زمن فلسطيني جديد ان يولد، قبل فوات الأوان.

القدس العربي

29/01/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى