الإقتصاد العالمي: انتقال السلطة
مع جموح البورصات العالمية الأسبوع الماضي، أعاد المعلّقون الماليون إحياء استعارة قديمة عن الأمراض المعدية في الجهاز التنفسي العلوي. فقد سألوا “عندما تعطس الولايات المتحدة، هل يصاب العالم بالزكام؟” إنه سؤال ذكي سيحدّد الجواب عنه إلى درجة كبيرة إذا كان التباطؤ الحالي سيتحوّل ركوداً عالمياً. لكن أياً كان الاتجاه الذي ستسلكه الأمور، ثمة أمر أكيد: سوف يخفّف باقي العالم من حدّة الانزلاق الأميركي. وهذا يقول الكثير عن النظام العالمي الجديد.
بينما يتباطأ الاقتصاد الأميركي، ليست هناك مؤشرات عن تعثّر بلدان أخرى. وفي شكل خاص، يبدو أن الاقتصادات الكبيرة الأسرع نمواً في العالم – الصين، الهند، البرازيل – ستواصل نموها القوي. وعلى الرغم من أن التراجع الأميركي الحاد سيولّد بالتأكيد شيئاً من التباطؤ في كل تلك الأسواق الناشئة، سوف تستمر هذه الأسواق بالتوسّع – بالشراء والبيع والمتاجرة – وسوف يساعد هذا الولايات المتحدة.
وخير دليل على ذلك النتائج الفصلية للعديد من الشركات الأميركية المتعددة الجنسية (غير المصارف). فأرباحها تتزايد ببطء في الولايات المتحدة – بضع نقاط في المئة في أفضل الأحوال – بينما ترتفع بنسبة 15 أو 20 في المئة في الخارج. وإذا وضعنا كل هذه الشركات معاً، نفهم لماذا بدأ العجز التجاري الأميركي – الذي كان يتزايد بسرعة طوال عقود – بالتقلص إلى حد كبير، حيث انخفض 100 مليار دولار العام الماضي. وسوف تتسارع هذه النزعة، بينما يستمرّ تراجع الدولار الأميركي، في جعل الصادرات الأميركية في متناول عدد أكبر من الناس في مختلف أنحاء العالم. كما يشجّع الدولار الرخيص الشركات والأفراد من خارج البلاد على السياحة والاستثمار في أميركا.
تنقذ مجموعة أخرى من البلدان الولايات المتحدة من مأزقها المالي بطريقة مختلفة. كانت الأعوام القليلة الماضية جيدة جداً للأراضي الغنية بالنفط في العالم – الكويت والإمارات العربية المتحدة والسعودية ونروج. ونضيف إلى اللائحة الصين وسنغافورة؛ قد لا تكونان مصدّرتَين كبيرتين للنفط لكنهما تملكان فائضاً ضخماً. يجب أن تذهب هذه الادّخارات الكبيرة إلى مكان ما، وقد أمّنت صناديق الثروات السيادية – الأسلحة الاستثمارية لهذه الدول – السيولة لشركات مالية أميركية كانت لتصبح في حالة ميؤوس منها لولا هذه الأموال. تخيّلوا كيف كان الاقتصاد الأميركي ليبدو من دون هذه الاستثمارات. كان عدد كبير من ألمع مصارفه وشركاته المالية ليصاب بالإفلاس، فيطلق سلسلة من المساوئ والنكبات في مختلف أنحاء أميركا. في الواقع، من شأن وجود كميات كبيرة من الرساميل المتوافرة لتعويم العمالقة المترنّحين أن يعزّز كثيراً استقرار النظام ككل.
تمثّل هذه النزعات تحوّلاً كبيراً يشهده النظام الاقتصادي العالمي حالياً. تنتقل السلطة من المراكز التقليدية للاقتصاد العالمي – الدول الغربية – إلى الأسواق الناشئة. وبتعبير أكثر صراحة: الولايات المتحدة هي في بداية مرحلة من التراجع النسبي. قد لا يكون حاداً أو دراماتيكياً، لكن حدوثه واضح للعيان. حتى لو افترضنا أنه سيكون هناك تباطؤ فقط، فسوف تستمر الاقتصادات الكبرى الأخرى في تسجيل نمو تفوق سرعته مرتين وثلاث مرات سرعة النمو في الاقتصادات الغربية. ومع مرور الوقت ستصبح لهذه الاقتصادات حصة أكبر في الاقتصاد العالمي – وسوف تتضاءل حصتا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ليست هذه انهزامية بل رياضيات.
للرياضيات تداعيات سياسية. فكّروا في مدى اختلاف الأزمة الحالية عن ذعر التسعينات. ربما كان الاقتصاد الأميركي في موقع أقوى آنذاك لكن الفارق الحقيقي هو الوضع الذي كان عليه باقي العالم. في منتصف التسعينات، كانت روسيا جاثية على ركبتَيها تتوسّل الغرب لمساعدتها. أما اليوم فتسجّل نمواً يصل إلى 7 في المئة في السنة، وتنشئ صندوقها السيادي الخاص. في الماضي، كانت بلدان شرق آسيا تحت رحمة صندوق النقد الدولي ومؤسسات غربية أخرى. أما الآن فتسجّل فوائض ضخمة. في الواقع، أكثر من ثلاثة أرباع احتياطات العملة الأجنبية في العالم هي الآن في أيدي البلدان ذات الأسواق الناشئة. الثروة والنجاح يولّدان الاعتزاز والثقة بالنفس.
يعني هذا كله أن النفوذ السياسي والاقتصادي للغرب – وفي شكل أساسي الولايات المتحدة – ينحسر. يمكنكم أن تلمسوا هذا الواقع في المناقشات في دافوس حيث يتقدّم رجال الأعمال الهنود والمسؤولون الروس ومستشارو الاستثمار السعوديون والأكاديميون الصينيون إلى الواجهة. أو لنتوقّف عند زيارة جورج دبليو بوش إلى الشرق الأوسط الأسبوع الماضي. فبعدما ناشد الرئيس السعودية مرات عدة التحرك لخفض أسعار النفط، كان عليه أن يقبل حقيقة صعبة جديدة. كان هو المتوسِّل؛ والسلطة تقع في يد الملك (في الواقع، وزير النفط هو الذي تجاهل توسّلات الرئيس). إنه تناقض كبير مع التسعينات عندما كان سعر برميل النفط دون العشرين دولاراً، وكان الاقتصاد السعودي يترنّح.
في الحملة الرئاسية الأميركية، يتحدّث المرشحون عن عالم لا علاقة له على الإطلاق بذاك الذي يتكوّن على الأرض. يعد الجمهوريون بشن الحرب على المتطرّفين الإسلاميين وتحديث الشرق الأوسط. ويندّد الديموقراطيون بمساوئ العولمة والتجارة الحرة، ويحضّون على التشدّد أكثر في الإجراءات ضد الصين. في هذه الأثناء، يستمرّ مديرو الصناديق الشرق الأوسطية والمستهلكون الآسيويون في تعويم الاقتصاد الأميركي.
عن “نيوزويك“
ترجمة نسرين ناضر
فريد زكريا
(رئيس تحرير “نيوزويك إنترناشونال)