حوار مع الخبير الاستراتيجي جيرار شاليان: الولايات المتّحدة نجحت دوماً في تصحيح أخطائها
جان دومنيك ميرشي
جيرارد شاليان خبيرٌ فريدٌ من نوعه. الى جــانب كونه متخــصّصاً في الشؤون الإستراتجيّة وعلم السياسة الطبيعيّة، وصاحب مؤلّفاتٍ عدّة منها l’Anthologie Mondiale de la Stratégie وle Nouvel Art de la Guerre، هو أيضاً مغامرٌ جال حول العالم وصراعاته. ولد في العام 1934. هو ليس صحافياً ولا جامعياً، إنّما مـراقبٌ على عـلاقةٍ وطيـدة بعـالم السياسة. يقول «كما كلّ الذين يهوون متابعة المشـاكل الإسـتراتجيّة، قـرأت بالتأكيد كثيراً عن الموضـوع، ولكن كــوني قد قضــيت سنواتٍ عدّة في ســاحات الــحروب في القـارات الأربع، واستطعت أن أكوّن فكرةً مباشرة وملموسة عن النزاعـات المسلّـحة، يســمح لي بأن أقيّم ديناميكـيّة وضعٍ ما بسهولةٍ أكثر. من المــمكن جداً أن يولّد ذلك بعـض الأخـطاء فـي التقيـيم، ولــكن لا شــيء يعوّض بنـظري هذه المعرفة الوطيــدة، التي إذا اجتمعت بالقـدرة على التحليل، تتيـح تقييـماً للأمور يتخـطّى الحـقائق المعـلنة. لا شيء قد يحلّ محلّ المعرفة المبـاشرة لساحات القتال».
بدأت تجربته الفعليّة على الأرض في غينـيا بيــساو في الستينيات، الى جانب القائد الثوري سامـورا ماشل، ومرّت بعدّة مراحل في الفيتنام وكولومبيا وأريتريا والكردسـتان وغيرها، لتستمرّ اليوم في أفغانستان حيث أنشأ مركزاً للدراسات السياسيّة الطبيعيّة.
خبيرٌ استراتيجي، في كتبه وفي ساحات الصراعات على حدٍّ سواء، جيرارد شاليان يحلّل السياسة الخارجيّة لأوباما.
وهنا نص الحوار:
÷ هل يعتمد أوباما استراتيجيّةٍ عالميّة مختلفة فعلياً عن تلك التي كانت معتمدة خلال ولاية بوش؟
} خلال أقلّ من سنة على تولّيه الحكم، نستطيع أن نقيس مجدّداً تلك الهوة بين ما أعلنه أوباما، حتى ولو كان بنيّةٍ صافية، وما يمكن إنجازه فعلياً، آخذين بعين الاعتبار كلّ العقابات الموجودة. نحن نعرف جيّداً ما أراده، ولكنّنا نجهل ما سيتوصّل إليه، غير أن يضاعف من العقبات الموجودة. تركّز سياسته الخارجيّة حتى الآن على تحسين صورة الولايات المتّحدة التي تشوّهت خلال حكم بوش ورغبته بإعادة تشكيل الشرق الأوسط الكبير. هذا المشروع، على عكس ما توقّعه المحافظون الجدّد، قد نفّذ بطريقةٍ خاطئة جداً خلال الولاية الأولى لبوش، ممّا اضطرّه إلى تحريفها قبل انتهاء ولايته الثانية. لطالما نجح الأميركيّون أكثر من غيرهم في تصحيح أخطائهم. لذا فإنّ سياسة أوباما تهدف الى إعادة الديبلوماسيّة إلى مجراها الصحيح، عبر الانسحاب من العراق، وإيجاد، إن أمكن ذلك، مخرجاً تفاوضياً في ما يخصّ إيران، والتوصّل إلى تجميد الاستيطان في القدس، بغية المساهمة في إنشاء دولةٍ فلسطينيّة.
÷ هل تستطيع الولايات المتّحدة أن تكسب حربها في أفغانستان؟
} لا يوجد احتمالٌ للربح، بل على الأرجح خسارةٌ بقالبٍ لائق. فأفغانستان كانت الضحيّة المباشرة لحرب العراق. معتمدين على ملاذهم الباكستاني، استغلّ الطالبان خلال عدّة سنوات تواجدهم في جنوب وشرق البلاد، في ظلّ فراغٍ إداريٍّ كبير خلّفته الحكومة وحلفاؤها بتركيز اهتمامها على حماية أمن كابول والمدن الكبيرة والطرقات الأساسيّة. الإستراتجيّة الأميركيّة اليوم (التي تقتضي بالتخفيف من حدّة الضربات الجويّة، والتواجد أكثر على الأرض، وتوفير الأمن وتطوير الوضع الاقتصادي للمجتمع) تبدو منطقيّة، ولكنّها تأتي متأخّرةً سبعة أعوام، وفي إطارٍ غير مناسب، حيث يعرقلها الغموض الباكستاني حول الموضوع. فضلاً عن ذلك، قد تستلزم إرسال قوّاتٍ إضافيّة وليست محطّ رضى الرأي العام الأميركي الذي يصبح يوماً بعد يوم أكثر تحفّظاً حول الالتزام الأميركي في أفغانستان.
الإدارة الأميركيّة الجديدة تقع اليوم ضحيّةً لاشمئزاز الرأي العام الأميركي بعد أعوامٍ من حربٍ عراقيّة، شوّهت الصورة التي تعطيها الولايات المتّحدة عن نفسها، وأنا أشير هنا إلى سجن أبو غريب. قد تزول «أفغانستان الحرب» عبر وضع حكومةٍ فعّالة لا تقوم على الفساد. حتى لو قمنا بزيادة عدد المجنّدين في الجيش الأفغاني، فهذا لا يعني أنّنا قد ننجح في الحفاظ على وجود نظام ليس جيشه على استعدادٍ للمخاطرة بحياته لأجله. إنّها المقاربة الوحيدة السليمة مع حرب الفيتنام: حيث أنّ نظام سايغون الفيتنامي، بعد رحيل الأميركيين، لم يكن يستحقّ ان يُقاتل لأجله. بذلك، فإنّ الانسحاب المؤقّت سيكون حلاًّ خاطئاً جداً. بيد أنّه في أفغانستان، لا يكون مرحّباً بالغرباء إلاّ إذا كان مرورهم مؤقّتاً، واستطاعوا أن يحدثوا تغييراتٍ ملموسة.
÷ بعد نجاح عمليّة زيادة عدد القوّات الأميركيّة في العراق أوائل العام 2007، ورث أوباما ظروفاً تتيح له سحب قوّاته. كيف ترون التطوّر الذي حصل؟
} إنّ الانسحاب الأميركي المخطّط له في أواخر العام 2011، يتيح فترةً زمنيّة تتعدّى السنتين للتوصّل إلى استقرارٍ أكبر في العراق. ولكّننا ما نزال بعيدين جداً عن إمكانيةٍ كهذه. فالتفجيرات قد ازدادت منذ تراجع القوّات الأميركيّة، بهدف تشويه سمعة رئيس الوزراء نوري المالكي الذي اعتمد عودة الأمن في العراق كسلاحٍ له. ها هو اليوم لا يحظى بصورةٍ إيجابيّة جداً مع اقتراب الانتخابات العراقيّة في كانون الثاني/ يناير. ولكن من الممكن أن يتمّ التلاعب بها. بذلك، لا شيء محسومٌ حتّى الآن. لا إمكانيّة توظيف سنّة قوّات الصحوة الذين يبلغ عددهم 100 ألف تقريباً وقاتلوا سابقاً ضدّ مجاهدي القاعدة، في سلك الدولة، ولا إمكانيّة تقاسم أرباح الهيدروكربون، ولا طبيعة العلاقات مع الأطراف الشيعيّة الأخرى والسنّة بشكلٍ عام. إنّ المستقبل القريب للعراق يعجّ بصراعاتٍ مخفيّة بدرجةٍ أو بأخرى. إحدى المشكلات الأهم هي وضع كركوك ومسألة الامتداد المناطقي للكردستان العراقي المستقل. إنّ الميل لتوحيد العرب موقّتاً في مواجهة الأكراد موجود. والتدخّلات الخارجيّة المباشرة أو غير المباشرة من قبل إيران وسوريا من جهة والسعوديّة من جهةٍ أخرى تضرّ بمستقبل المنطقة. إنّ محصلّة الخسائر في العراق، كما في أفغانستان تقتضي الاعتراف بأنّ على الدول الاجنبيّة أن تمتنع قدر الإمكان عن التدخّل في وضعٍ يتضمّن صراعاً غير منتظم، فهامش التحرّك ضئيلٌ جداً، في وجود رأيٍ عام يريد نتائج سريعة ويعتبر أنّ حصيلة 5000 قتيل خلال حربين وضمن فترة زمنيّة لا تتعدّى 7 سنوات رقمٌ كبيرٌ جداً، في حين أن الضحايا المحليّة لهذه الحروب تتعدّى من دون شك حصيلة ربع مليون شخص.
÷ خطاب أوباما تجاه الإسلام في القاهرة كان ذا تأثيرٍ كبير. هل نستطيع المراهنة على حدوث تغيّرٍ جذري في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟
} يشكّل خطاب أوباما في نظر المسلمين قطيعةً جذريّة مع ما كان سائداً في أيّام بوش، ونتائجه الملموسة على الأرض، تعتمد بشكلٍ خاص، ضمن عوامل كثيرة، على قدرته في الضغط على إسرائيل في ما يتعلّق بتجميد الاستيطان. ولكن تماماً كما في أفغانستان، تأتي استراتجيّة أوباما متأخرةً جداً. الرئيس الأميركي الأخير الذي حظي بظروفٍ مناسبة للحل كان بيل كلينتون، قبل بروز قضيّة لوينسكي. أمّا اليوم، ففرص التوصّل الى إنشاء دولة فلسطينيّة، نظراً لتوسّع المستوطنات اليهوديّة، ضئيلةٌ جداً. الاستيطان قد يتسرّع بشكلٍ كبير قبل أن يتمّ تجميده لفترةٍ مؤقّتة، ثمّ يعاود توسّعه من جديد.
إن انقسام الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، التي يرفض جناحٌ منها الاعتراف بحقيقة وجود دولة إسرائيل، بينما لا يستطيع الجناح الآخر، الذي يعمّ فيه الفساد بشكلٍ علني، أن يلزم الحكومة الإسرائيليّة بالتفاوض، أمرٌ محزن. استطاع المؤيّدون الإسرائيليّون لعمليّة التوسّع البريّة، على مدّة عقودٍ من الزمن، أن يستفيدوا من الوقت مستغلّين الأخطاء الإستراتجيّة للقيادات الفلسطينيّة، بمساعدة دعمٍ مؤيّدٍ هائل لإسرائيل في الولايات المتّحدة. لن يكون على الحكومة الإسرائيليّة إلاّ أن تدّعي الرضوخ، وهي تنتظر تضاعفاً حتمياً في قوّة أوباما. إنّ وسائل الضغط على إسرائيل، المحدودة جداً في الأساس، ستكون بشكلٍ أساسي كلاميّة لا أكثر، بينما ستشغل ملفّاتٌ أخرى اهتمام واشنطن.
÷ هل ما زال بإمكاننا الحديث عن قوّةٍ عظمى في ما يخصّ الولايات المتّحدة؟
} إنّ ولاية أوباما تأتي لسوء حظّه في أوقاتٍ صعبة، أثناء التراجع النسبي للولايات المتّحدة الناتج بشكلٍ جزئي عن السياسة الماليّة والاقتصاديّة المتّبعة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. إنّ ذروة ما توصّلت إليه الولايات المتّحدة من قوّة يمكن تحديده في مرّتين: بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث كانت تملك 45% من الإنتاج الصناعي العالمي وتحظى وحدها بالسلاح النووي، وبين عامي 1989 و2007 عقب انهيار الاتحاد السوفياتي. بالرغم من الأزمة الماليّة والدين اللّذين تعاني منهما الولايات المتّحدة، هي ما زالت تحتلّ المرتبة الأولى، ولكنّها خارج أبعادها العسكريّة، قد بدأت بالتدهور نسبياً.
÷ يحلم أوباما بعالمٍ خالٍ من الأسلحة النوويّة، ما رأيكم بهذا؟
} إنّه تصوّرٌ غير قابلٍ للتحقيق. إنّ أفضل ضمانةٍ للأمن اليوم هي في امتلاك الأسلحة النوويّة. لا يمكن تصوّر دولةٍ قويّة، أو مهدّدة في وجودها تتخلّى عن مشروعٍ كهذا. ولكنّ التخفيف من تسلّح أكبر قوّتين نوويّتين ممكن ومستحبّ.
÷ هل تظنّون أنّنا نتجه نحو عالمٍ تسيطر عليه الولايات المتّحدة والصين؟
} سبق أن توقّع زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي أيّام جيمي كارتر احتكاراً ثنائياً تقوده الولايات المتّحدة والصين. هو احتكار سيُبنى بشكلٍ أساسي على التكافل الاقتصادي المالي بين الدولتين. وحتى لو كان غير منظّمٍ ضمن مؤسّساتٍ اليوم، فهو موجودٌ على الأرض. تحتاج هاتان القوّتان لبعضها البعض: إحداهما كمستهلك والأخر كمدّخر، حيث أنّ السيولة الماليّة الصينيّة تذهب اليوم الى الدّين العام الأميركي. ولكن هل هو تحالفٌ قابلٌ للاستمرار؟ نستطيع الشكّ في ذلك جدّياً، نظراً لأنّ كلاًّ من الطرفين الظرفيّين يحاول الاستفادة قدر الإمكان من الآخر لضمان موقعه.
ترجمة زهراء مرتضى عن «ليبراسيون»
السفير