الحوار الأخير مع الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: لا اعرف ما تعنيه كلمة ‘حديث’!
ناتالي كروم برونو فرابا وروبير ميكليريوني
يتأسس هذا الحوار مع الفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور (1913ـ 2005) على رهان رئيسي يتمثل في القبض على السمات المميزة لمساره الفلسفي المتميز بالثراء اللافت والمعقد. عرف مشروع الفيلسوف على امتداد ستة عقود من الاشتغال المكثف تحولات أساسية تميزت، من جهة، بانشغال قوي بالفينومينولوجيا والهرمنوتيقا أو علم التأويل، وبانفتاحه، من جهة أخرى، على تنويع من الحقول المعرفية التي نذكر من بينها علم النفس والتاريخ وعلوم اللغة والترجمة. حقيق بالإشارة في هذا الصدد إلى تميز هذا المشروع الضخم بوصله بين الفلسفة والأدب وهو ما وجد تمثيله في كتابه الموسوم ‘الزمن والمحكي ‘الذي انصب على حوار تحليلي عميق مع تجربتي مارسيل بروست وفرجينيا وولف.
على امتداد التحققات الوفيرة لهذا المشروع التي تربو على العشرين والتي نذكر من بينها ‘عن التأويل: دراسة لسيغموند فرويد ‘1965، ‘صراع التأويلات: مباحث في التأويل ‘1969، ‘الزمن والمحكي ‘3 أجزاء’ 1083ـ1985 ، ‘الذات باعتبارها آخرا ‘1990 و’ عن الترجمة ‘2004، نلمس انشغالا دالا بالوصل بين الفيلسوف أو المثقف والأخلاق. يمكننا أن نتمثل ذلك في تشديده على مفاهيم من قبيل المسؤولية والقناعة والنقد وضرورة احترام تعدد واختلاف الآخر.
الإنصات إلى فلاسفة من عيار بول ريكور في السياق العربي الراهن سبيل إلى أن يستعيد المثقف مسؤوليته ودوره الفاعل في التاريخ وأن ينجز قطيعة أخلاقية مع أنماط السلوك الحربائي وحالات بيع الضمير بالجملة والتقسيط.
هل تشعرون بالرغبة في أن تقولوا شيئا ذا أهمية ضافية لأبناء تلامذتكم؟
سوف أستعيد في هذا السياق ما شكل عنوان أحد كتبي: ‘القناعة والنقد ‘، أعني بالقناعة في آن واحد الاستدلال والتحفيز الذي لا يسعنا أن نقدم تقريرا عنه. ثمة يقينا في قناعاتي عنصر لا يتسم فقط بالحميمية وإنما أيضا بالسرية واستحالة الإحاطة به من شخصي المتواضع. عندما يقول لي شخص ما: لم يكن في المقدور أن تكون فيلسوفا أو مسيحيا لو ولدت في الصين، فإن جوابي الوحيد هو: أنتم تتحدثون دون شك عن شخص آخر غيري.
أما فيما يتعلق بأهمية الروح النقدية فإنني ألخصها في صيغة أتمنى أن لا تتحول إلى شعار: صدفة تحولت إلى مصير بواسطة اختيار يتسم بالاستمرارية.
يتمثل المصير في أنني ولدت في حضن هاته العائلة وفوق هاته الأرض وفي هذا الشكل من التراث المسيحي الذي أنتمي إليه، وأنني أصبحت مباشرة في مرحلة الصبا الأول تجريديا. ثمة أيضا الانتماء إلى ثقافة غربية تنفرد بقدرتها على أن تمارس ليس فقط نقدا مطردا لاختيارات لم تتخذها بل نقدا ذاتيا.
يتمثل الشكل الخاص لهذا الصدام بين القناعة والنقد فيما يخصني في انتمائي إلى المسيحية في تقليدها الإصلاحي والذي يمثل الانتماء إلى التراث الإغريقي الكبير جزءا لا يتجزأ منه. ثمة إذن المنبعان الإغريقي والعبري. وبفعل تقدمي في السن أصبحت أكثر حساسية وقدرة على التجاوب مع المرجعيات المتقاطعة منه إلى التعارضات والقطائع. وعلى سبيل التمثيل، فإنني أعثر بين أنبياء إسرائيل والمآسي الإغريقية على نوع من التجاوب والتصادي العميق.
هل ثمة حسب تصوركم ضعف في الروح النقدية والقناعات؟ هل يزعجكم ذلك؟
أنا لا أحيا، من جهة، في ظل نظام من الخوف، ولا أعتقد، من جهة أخرى، أن هذا الضعف حقيقة. ذلك أننا نوجد أيضا على المستويات الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية في عهد من الاحتجاج. ولا اعتقد في هذا السياق أن الينابيع النقدية مهددة. ويكفي أن تذهب إلى الشرق الأدنى، إلى الصين أو اليابان لكي تكتشف أنه ليس ثمة من مثيل للإنسان الغربي وأننا نمثل في الحقيقة قوة نقدية. ينضاف إلى ذلك أنني لا أعتقد أننا نقوم بتقييم جيد للزمن الذي نعيش فيه. نلمس ذلك كما يلي: منذ الخمسين سنة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أدركنا أننا حصلنا على تقييمات وأحكام متتالية لذواتنا وأنه لا علم لنا بالتقييم الذي يصدر في حقنا بعد ثلاثين سنة. لا يمكن لمجتمع معقد ومتناقض أن ينجز خلاصة تقييمية لوجوده. ينبغي أن نقوم بتعليق هذا الحكم المستهجن الذي ينبغي لكبار السن أن يحترسوا منه أكثر من الآخرين.
هل يشعر الفيلسوف أيضا بصعوبة التقييم هاته؟
الفيلسوف هو أول من يشعر بهذه الصعوبة. منذ أن ولجت هذا الفضاء الذي يشكل بالنسبة لي فضاء النضج ـ لنقل منذ أواسط الثلاثينات من القرن العشرين حين اجتزت بنجاح امتحان التبريز ـ عبرت بفيض من المشاهد الفلسفية؛ بحيث يعجزني الجزم بأيها سوف يكون اللاحق أو بالــذي له الهيمنة حاليا. لا علم لي في الوقت الراهن بوجود فلسفة مهيمنة يمكننا القول بامتلاكنا لها ـ كما حدث على سبيل التمثيل مع الوجودية في لحظة معينة ـ من بين كل المشاهد الفلسفية المتناقضة التي رأيتها وهي تتعاقب والتي انتميت إليها أحيانا سواء بشكل مركزي أو بشكل هامشي وهو الأغلب كما كان الحال مع الوجودية والبنيوية والماركسية.
لكم معرفة جيدة بالولايات المتحدة الأمريكية التي قمتم بالتدريس في جامعاتها على امتداد أربعين سنة. ما العلة حسب تصوركم في غياب الود المتبادل بين الأمريكيين والفرنسيين؟
إنني ألمس في البدء وبشكل يقيني نوعا من المنافسة بين ثورتين أو ربما نزوعين مختلفين نحو الكونية. بيد أنني لا أرغب في أن أخوض هذا النوع من التقييم الشامل. لنقل بأنني أكن إعجابا لا يوصف للجامعة الأمريكية وطريقة اشتغالها وطبيعة الأبحاث التي تجري برحابها. أما الآن، وفي غمرة هاته الانتقادات التي تصلني أصداؤها والتي تطول هاته الهستيريا الوطنية، فإنني أجد عسرا في استعادة هذا الإعجاب بالجامعة الأمريكية.
ثمة مظهر آخر لأمريكا لا أحسني فقط غريبا عنه بل عاجزا عن تحمله، ويتمثل في هاته الأصولية البروتستانتية التي تتحدد في إسباغ رمزية إنجيلية على الأحداث السياسية. ينبغي تحرير السياسة من المعايير التي لا تمت لها بأية صلة. وهنا يكمن مكسب الغرب المتمثل في الفصل بين حلقة السياسة وحلقة الدين ليس بغاية حصر هذه الأخيرة في مجال ‘الخاص ‘وإنما بهدف وصلها بجمهور لا يمتلك القوة والوضع المؤسساتي.
كيف يمكن للفلاسفة أن يمارسوا تأثيرا على الواقع؟
ثمة عمل كبير ينبغي إنجازه ويتجاوز ما هو دلالي لكي يستشرف توظيفا صحيحا للمفاهيم وتطهيرا للمفردات وذلك بهدف الخلوص إلى إرغام متبادل على إنتاج الحجة الأفضل. استمعت هذا الصباح على سبيل التمثيل إلى نقاش انصب تحديدا حول قضية العداء للأمركة والمظاهرات السلمية التي يتجاور فيها المدافعون عن نزعة سلمية ميونيخية مثالية: ‘أيا كانت الحروب ودوافعها، فإنني لن أخوض أيا منها’ والاتجاه النقيض الذي يقول: ‘لن نخوض إلا الحروب التي تشرعها الأمم المتحدة ‘. ثمة اختلاف كبير بين الاتجاهين. هكذا، إذن، يضحي من اللازم إجراء تحليل للمسكوت عنه ولهذا الخبط المفاهيمي. ينبغي أن لا نستسلم لهذه النزعة البدائية المعادية لما هو أمريكي والتي تتبنى الفكرة التي مؤداها: ما دام أمريكيا فهو سيئ بالضرورة.
يتحدد دور الفيلسوف بداهة في فهم الرهانات، وهنا يكمن حسب تصوري ما هو عصي على الاحتمال في إطار الوضعية الحالية أعني الجهل بالرهانات. لا قدرة لأحد على أن يعرف ما يريده هذا الشخص أو ذاك. لماذا العراق وليست كوريا الشمالية؟ ما هو دور الرهان النفطي؟ هل اتخذت الولايات المتحدة قرار الحرب بطريقة مسبقة؟ أحسني في حالة التباس ثقافي وعتمة شاملة لا مثيل لها وعصية على الاحتمال.
لنعد إلى شخصكم. كيف تعيشون المكانة الرفيعة التي تحظون بها؟
قيل باستمرار إن الاعتراف بريكور تم بشكل متأخر وأن ذلك ما يفتأ مستمرا في الوقت الراهن؛ وهو ما يشعرني دائما بالدهشة. لم أشعر إطلاقا فيما يخصني بأي نقص في الاعتراف بجهودي لسببين فيما أعتقد. حظيت دائما على افتراض عدم اعتباري فيلسوفا مهما بالإعجاب والتقدير من لدن طلابي. كنت في الحقيقة أستاذا سعيدا ولم أشعر بأي شيء من جراء عدم اعتباري معادلا من حيث الأهمية لجيل دولوز أو ميشيل فوكو. لقد سمحت لنفسي بأن أخص بالذكر هذين المفكرين اللذين أعجبت بهما أكثر من الآخرين. تتحدد العلة الثانية في أنني لم أكن أعير غير قليل من الاهتمام للقراء حين كتابة مؤلفاتي. وما كان يبدو يقينا إحدى مساوئ عدم الانتباه في لحظة زمنية معطاة لانتظارات القراءة أصبح في النهاية عنصر ديمومة. كانت مشكلتي متمثلة في معرفة ما إذا وفقت في الإجابة على أسئلتي الخاصة. وكان هذا سببا في جعلي ليس فقط قليل المبالاة بمن سوف يقرأني وإنما غير قلق من الطريقة التي استقبلت بها فعليا مؤلفاتي.
أية قراءات كانت الأجمل على امتداد حياتكم؟
تبقى الكتلة الإغريقية بالنسبة لي عصية على التغيير. ينضاف إلى ذلك أنني أقاوم بشدة أولئك الذين يرغبون من خلال مقررات الإصلاح الجامعي إنجاز قطيعة بين القدماء والمحدثين. أعترف بأنني أجد انجذابا قويا نحو الاستمرارية الثقافية الكبيرة.
ونحن ننوجد داخل هذه الاستمرارية بشكل جيد حين قراءة المآسي أو كتـــب مؤرخي الإغريق. وتعزى العلة في ذلك يقيـــنا إلى أنه لم يحدث أي تغيير يذكر على امتداد الزمن فيما يهم الرغبات والأهواء السياسية والعلاقة بالسلطة. وقد استطاع أولئك الذين اعتادوا قراءة كتبي أنني نادرا ما أستعمل كلمة ‘حديث’ وأستعيض عنها بكلمة ‘معاصر’. لا أستعمل إطلاقا كلمة ‘حديث’ باعتبارها صنفا مقارنة بالقدماء.
لا أعرف ما تعنيه كلمة ‘حديث’، ولم يكن حصرها في عصر الأنوار بالذي كان يروم إليه شارل بودلير الذي كان يقول إن ‘الحديث هو زمن العابر وليس الكوني’.
وقراءاتك الأدبية؟
كان لزاما عليّ وقد كنت طفلا وحيدا أن أكون قارئا. أعترف بأنني ما زلت مواظبا على قراءة الروايات المعاصرة: لوكليزيو وإيخنوز، كما أنني غالبا ما أعيد قراءة فلوبير: مدام بوفاري. أحب أن أعثر في الأدب على تمثيل حيوات الآخرين.
أما سؤال التخييل فقد صادفته فيما يهمني حين اشتغالي على كتاب ‘الزمن والمحكي ‘ويتمثل في التنافس بين التاريخ والتخييل في سياق فهم الذات بمساعدة الخارج والآخرين.
كيف تنظرون إلى اقترابكم من سن التسعين؟
أعيشه بهدوء. وقد سبق لي أن عبرت عن أفكاري في خصوص الموت في كتابي ‘النقد والقناعة’. أما العبارة التي تصاحبني باستمرار فهي: أن أظل حيا حتى الموت. وتتمثل مخاطر أرذل العمر في الحزن والسأم. يرتبط الشعور بالحزن بذلك الإرغام على التخلي عن كثير من الأشياء؛ إذ ثمة ما يمكن وصفه بعملية نزع للملكية. يعتبر الحزن عصيا على الضبط، أما ما يمكن التغلب عليه فيتمثل في الاستسلام للحزن.؛ وهو ما كان آباء الكنيسة يطلقون عليه: أكيديا أو القرف المفرط من الوجود؛ وهو ما لا ينبغي للمرء أن يستسلم له. يتمثل دواء السأم في أن يظل المرء يقظا ومنفتحا على ما هو جديد؛ وهو ما كان ديكارت يدعوه بالإعجاب، وهو مثيل للدهشة. وأعترف شخصيا أنني ما زلت قادرا على الشعور بالإعجاب وإن بلغت سن التسعين.
I La conviction et la critique. Paul Ricoeur. Nathalie Crom, Bruno Fraat et Robert Migliorini, in Ricoeur: Cahiers de L’herne. Direction Myriam Revault D’Allones et Francois Azouvi. Ed.l’Herne. 2004.
ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
القدس العربي