أسئلة مصر المصيرية في هوة بلا قاع: مرتضى وشوبير ونور … الحياة لم تكن يوماً في مكان آخر

هاني درويش
التكرار المخزي لسؤال إلى أين تتجه مصر؟ ما زال قادرا على ملء فراغات إجاباته، وتتحول من حوله كل الأسئلة الأخرى إلى مجرد مادة لزجة مجترة. فالهاجس بالسؤال وملل إنتظار إشارات مبهمة حول الإجابة عليه يتطلب حشوا فارغا من القضايا المثيرة القادرة على شغل الوعي الجمعي المصري بأي شكل. وهذا الشهر تهندست في هذا الفراغ قضيتان كبيرتان أهتمت بهما الصحف والفضائيات: الأولى قضية ضبط شبكة للمثليين جنسيا في أحد الفنادق يتقدم المتهمين فيها ثلاثة فنانين هم نور الشريف وخالد أبو النجا وحمدي الوزير. والثانية قضية البلاغات المتبادلة للنائب العام بين أحمد شوبير نائب الحزب الوطني والإعلامي الرياضي الشهير ومرتضى منصور النائب السابق والمستشار السابق ورئيس نادي الزمالك الأسبق في قضية باتت تعرف بإسم “الشريط الصوتي المخل”.
وقبل شرح أبعاد القضيتين اللتين جمعتا صنوفا من الشعب المصري حول شاشات التلفزيون وفي ساحات المنتديات يجب التذكير بالفضاء العام المأزوم والمشبع بأسئلة نخبة مصر. مؤتمر سنوي للحزب الوطني الحاكم تصدر عنه إشارات مبهمة حول قضية التوريث، لهاث مضنٍ في طرح اسماء مرشحين للرئاسة تنتجه القوى السياسية المعارضة، تأزم موقف المصالحة التي ترعاها مصر بين حماس والسلطة، التكيف مع هاجس إنفلوانزا الطيور في الأوساط الشعبية كقدر وبلاء وإشاعة سخيفة في أدنى التوقعات، وتدشين تحالف “مايحكمش” المناهض للتوريث بقيادة أيمن نور في مواجهة تحالف”عايزينك” السيبري المدافع عن حق جمال مبارك في وراثة مصر، و قضية الخلافة والخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين في ظلال تصاعد المواجهة الأمنية معهم، ثم أخيرا تجليات المواجهة المرتقبة بين منتخبي مصر والجزائر في موقعة “الزحف المقدس” إلى كأس العالم لكرة القدم وما إعتراها من مواجهات وصدامات إعلامية وجماهيرية متأججة.
في قلب هذا الخليط من اسئلة النخب والعوام المتباينة الحرارة تم تفجير قضيتي الموسم بكثير من المبالغة في الإهتمام والتغطية الصحافية والإعلامية وكأن قوي غامضة على حد تعبير صديق مقرب- تسعى لتسخين الأجواء أو تحمية الفراغ ببعض المشهيات من القضايا القائمة على تغول السير الفضائحية لنجوم المجتمع.
وأول ما يلفت الإنتباه في ميكانيزمي تفاعل كلتي القضيتين هو الموقع الحساس للصحافة المصرية فيهما. ففي قضية نور الشريف كان لصحيفة حديثة النشأة سبق تقديم الخبر دون دليل واحد ، وفي قضية نائبي الرياضة كانت صحافية مغمورة هي من قامت بتسجيل “المكالمة المخلة أخلاقيا”.
بمعنى آخر، كانت الصحافة ومعاييرها المهنية المبتذلة في مصر هي القاضي والجلاد في آن، حيث عاد السؤال الأبدي حول “درجة حرية الصحافة” وآليات محاسبتها لذاتها او محاسبة القوى المجتمعية الأخرى لها، سؤال صعب لمهنة تلعب دور الترمومتر غير الحيادي لقياس درجة عافية مريض(مجتمع) تتدهور حالته. فالحالة الصحافية المزدهرة التي أنتجها إنتعاش ثم خفوت الهم السياسي العام في السنوات الأخيرة يدفع الصحافة والصحافيين أنفسهم للدفاع عن موقعهم من معادلة التأثير في المناخ العام بأي وسيلة. وبما ان المبالغة في التحميل على حدود دور الصحافة يتجاوز قدراتها الذاتية وموقعها الحقيقي كسلطة ناعمة تخرج المهنة وممتهنيها من كل أزمة مثخنة اكثر بجراح المصداقية المفقودة، وكان المهنة التي شهدت نموا في فاعلية دورها تأكل نفسها بنفسها في خضم صراعها المنفلت العقال للبقاء على مكتسباتها.
لتفصيل هذه الفكرة يجب تأمل مشهد القضيتين المثيرتين ببعض من التركيز. ففي قضية “المثلية الجنسية” نشرت جريدة “البلاغ الجديد” خبرا مفاده القبض على الفنانين الثلاثة في فندق خمس نجوم بتهمة ممارسة الفجور، والجريدة الجديدة تنتمي لفلسفة تدهور الأجيال الصحافية المستنسخة من نموذجي “عادل حمودة” مضروبا في “إبراهيم عيسى” حيث عمل كادرها التحريري تحت قيادة رئيسي التحرير الأشهرين في مجال الصحافة المستقلة. وبتجريد أكثر مهنية تنتمي “خلطة البلاغ الجديد” إلى ثقافة مهنية تعتمد على الفضائحية(عادل حمودة) مموهة بقشور الضمير السياسي القومي الأخلاقي(إبراهيم عيسى)، وهي الصحافة التي بنت مجدها الإنفرادي من علاقتها ببعض أجهزة الأمن (مخابرات او أمن دولة) كقاذفة قنابل دخانية تستتر خلفها تلك الأجهزة في لحظات التجاذب السياسي السري العنيفة.
ينشر صحافي وثيق العلاقة بأجهزة الشرطة الخبر. يصطدم الخبر فورا بالخيال الجمعي المحتفي بـ”ذكورة الحاج متولي”(الشخصية التاريخية للممثل الشهير). تثور قيادات نقابة الممثلين فتقدم بلاغا إلى النائب العام ضد الجريدة. يجري إيقاف الجريدة التي تصدر بترخيص خارجي ويحوّل ثلاثة صحافيين إلى محاكمة جنائية عاجلة بأمر من النائب العام. باقي المشهد معروف، حملة تطهير ضمير تشنها صحف وفضائيات تستضيف في وقت قياسي نور الشريف لعشرات المرات على الشاشات والصفحات مدافعا عن نفسه، متزامنا مع وقوف رئيس تحرير الجريدة خائبا أمام سلطات التحقيق واعدا بتقديم “سي دي” من جهات الأمن بالواقعة، وطبعا الأخيرة تنكر معرفتها بالقضية والصحافي.
يسري في الفضاء التأويل والتأويل المضاد، من لم يصدق “مثلية” الأيقونة التمثيلية المصرية سارع إلى التلميح بمؤامرة إسرائيلية على القطب الناصري الكبير الذي قدم عملا في رمضان المنصرم يهاجم فيه الدولة العبرية.
آخرون لطموا الخدود على ما اصاب مهنة الصحافة من تردي وشككوا بالأساس في أحقيتها لإستعارة السلطة الرابعة. وصمت الجميع أمام تعاون هذا النوع من الصحافة الفضائحية تحديدا مع الأجهزة الأمنية، وكأن مجمل المهنة يجري التشكيك في جدوى دوره من الأساس لصالح بنية خربة من العلاقات السلطوية أنتجها الإختراق الأمني التاريخي للمهنة. وقف الصحافي مستغيثا بمن اعطاه المعلومة ولم يجرؤ لا هو ولا قيادات الأمن بالتحقيق أو الكشف عن مصدره الأمني. الأزمة أن “إستشهادية” نور الشريف التي تجمع توقيعات البراءة المجتمعية مع كل طلة ملغومة هي الأخرى بالشكوك. فنور الشريف نفي عن نفسه “تهمة المثلية” وإن لم يجرمها. إعترف بالحق في المثلية لكن لغيره. وفي ظل إنبثاق القضايا بلا معنى ثم إختفائها بلا معنى لن يصل أحد لحقيقة ما جرى. فسرعان ما ستتحوّل القضية والتحقيقات فيها إلى سطور منزوية في صفحة الحوادث. ستبقى حقيقة ما جرى حكرا على من خرج ماؤهم المتسخ للعلن دون إرادة، وسيبقى بلا شك غصة” المهنية المنعدمة” في حلوق الجميع، رغم أن سيناريو بأنصاف الحقائق يبني بلا شك سيناريو يبدو منطقيا، ولنتخيل الآتي:
تضبط شرطة الأداب في الفندق الشهير سهرة لمثليين وتقوم بتسجيل إعترافاتهم. يتصل ضابط الشرطة بالصحافي ليبلغه أن ثمة قضية “جاء فيها ذكر لنور الشريف وباقي النجوم”. لن يفرق الصحفي بين “جاء فيها ذكر” وبين “ضبط الفنانون في أوضاع مخلة”، بل ربما لجأ المصدر إلى إلهاب القضية ببعض التوابل عندما حول محاججة أحد المتهمين بمعرفته بالنجوم الثلاثة إلى “ضبط للنجوم الثلاثة”. يتسلم الصحفي المعلومة مغلوطة أو صحيحة ثم يجري علىها بهاراته الكتابية. تأتي الصدمة. الصدمة هنا محلها “نور الشريف” في العقل الجمعي، جماهيرا وزملاء إعتقدوا أن خدش “فحولة” الأيقونة يمثل تهديدا لمرتكز الثقة في النوع كله، وإلا كيف نبرر تلك الحملة التكذيبية من المبدأ التي تطوع لها “عبدالله كمال” القريب من لجنة السياسات جنبا إلى جنب مع أعدائه السياسيين كـ”بلال فضل” وباقي الكتيبة القوم إسلامية الشهيرة؟
القضية الثانية بطلتها الصحافة أيضا، حيث قامت صحفية تحت التمرين بجريدة الفجر-لاحظ المدرسة الصحافية الهامة التي تنتمي إليها- بتسجيل مكالمة لأحمد شوبير وهو يطلب منها أولا الحصول على معلومة تخص تحقيقات النيابة في قضية فساد. ثم تسدرجه الصحفية للحديث عن مرتضى منصور الذي يهدد عضو لجنة السياسيات بسي دي جنسي مع فتاة، يحاول شوبير إستغلال الفتاة للحصول على السي دي المعني. يوجه سباباً بأحط الألفاظ لخصمه الإعلامي والرياضي. يقدم مرتضى بلاغا للنائب العام بمحتوى المكالمة وسط 22 بلاغا آخر ضد الشخص نفسه، يستأذن شوبير مجلس الشعب في إسقاط الحصانة عنه ليقدم بلاغا ضد مرتضى والفتاة لتسجيلهما مكالمة دون إذن، تنتقل التسجيلات إلى موقع اليو تيوب، تعرض الفضائيات المكالمة وتستضيف مرتضى وشوبير والصحافية للدفاع عن وجهات نظرهم .
على قناة المحور تظهر الصحافية التي عرفها الملايين صوتا فقط، فتاة في الخامسة والعشرين لا تستطيع نطق نصف حروف اللغة العربية بشكل صحيح. تتحدث بمنتهى الفجاجة عن أنها كانت تعتقد شوبير مثالا للكفاح، وكيف تعلمت على يده الصحافة “وهو الذي بدأ حياته نائما اسفل مدرجات النادي الأهلي بعد أن جاء من طنطا” على حد قولها، كيف فوجئت بلغته وسبابه، ثم حديث تافه عن كيف تسرب ملف المكالمة من تليفونها المحمول ليصل إلى مجهولين عرضوا عليها الملايين، تطلب حماية الشرطة على الهواء من تهديدات عضو لجنة السياسيات. يطلب الصحافي المحاور لها حمايتها بعد أن تلقى هو الآخر تهديدات من متصلين على هاتف القناة (لم يذهب للكشف عن أسمائهم طبعا كي تستمر الإثارة). ولنحو ساعتين تتحدث الفتاة بسذاجة عن أنها ضحية واقعة بين “كبيرين” دون أن يسألها أحد عن السبب الأصلي لتسجيلها مكالمة من تعتبره معلمها الأول في الحياة؟ دون حتى ان يحلل أي إعلامي اللغة المبطنة والفضائحية في حوار رجل الأخلاق الرياضية وفتاة من عمر إبنته، دون حتى أن يفكر أحد في ذلك النمط من الصحافيين الذي تحول إلى “مخبر صحفي” لجمع المعلومات من أماكن حساسة كالنائب العام أو مؤسسة القضاء، نمط تمتهنه فتاة الخامسة والعشرين بجهاز محمول وعلاقات مريبة بنخبة المجتمع الشرطي والقضائي تسمح لها أن تكون فقط “صحفية المعلومة السرية”، فما يظهر من المكالمة ثم في لقائها يؤكد أنها تعمل لحساب من يدفع اكثر فتسجل مكالمات للكل على الكل فيما هي ترتقي بطموح “من جاءت من أسفل مدرجات النادي الأهلي” صحافيا.
بقي أن نعرف أن مرتضى منصور وشوبير هما اكبر حزبين ناجحين لجماهير الغوغاء التلفزيونية. كلاهما تسلق في تلافيف السلطة نجاحا ونفوذا، كلاهما قريب حسب إدعائهما المسجل- من الرئيس ونجله، كلاهما من إنتهازيي الصعود الإجتماعي الجديد لنخب الألفية الثالثة في أقصى سلم تجليات السلطة.
يتحدث صديقي المقرب عن عصر قضايا الغوغاء. وهو يلاحظ أن نقاشنا المستفيض عن هذا الوعي الجمعي المنحط تكريس لمشروعيته الجديدة، تكريس لقنابل الدخان التي تستتر وراءها قضايا أهم مثل مستقبل السلطة والصراعات البينية بين أجنحتها. يرى صديقي قوى غامضة تجلس الآن لتراقب ذلك المناخ الضبابي الذي تستعر به أحوال مصر. وكأن الفاصل بين “القضايا الهامة” و”القضايا الغوغائية” دقيق وقابل للملامسة. لكن ما لا يعترف به صديقي أن الميكانيزم الجمعي ينتج كل هذا معا دون إرادة. ينتجه دون قانون متماسك وخيوط مركزية تنتهي في قبضة واحدة. وأن المؤكد هو ان ثمة هوة بلا قاع يتدحرج إليها الجميع نخبا وغوغاء، هوة لن يستطيع أحذق المنجمين الوصول لمنتهاها، فالأشياء في مصر تهوي… وفقط.
المستقبل