صفحات العالم

هاني درويش… من الفحص عن أسباب فشل اليسار المصري الى كتابة الكارثة

وضاح شرارة
يكتب هاني درويش، من القاهرة، مرثية مزدوجة في والدين أو أبوين: واحد “مات منذ أشهر دون صخب” هو والده الطبيعي، وآخر هو “رئيس تحرير(ه)” على رأس صحيفة “البديل”، محمد السيد سعيد، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية (“نوافذ” عدد “المستقبل” في 18/10). ويجمع الكاتب وفاة الاثنين في باب مشترك، عضوي وجارح، هو باب “المجزرة”، كناية عن وفاة الاثنين بمرضين قاتلين في مستشفيين حكوميين قاصرين، تجهيزاً وطاقماً معالجاً، عن تولي علاج مثل الأمراض المعقدة هذه. وباب مشترك آخر يجمع بين الرجلين الراحلين هو “رومانتيكيتهما”. وهذه تكني عن معانٍ كثيرة يحصي ابن الوالدين، المتنازع بين الإكبار والتعظيم وبين الاستضعاف والنقمة، حباتها عند منعطفات روايته، ومقارنته ومرثاته الراحلين وابنهما المتيتم والمتروك على ترجحه وحيرته.

[بطن مصر
ومقال هاني درويش هذا حلقة في مقالات له أقرأها في “نوافذ” منذ بعض الوقت. وقد يكون لقاؤنا في لبنان، في اثناء زيارته بيروت قبل نحو عامين، من دواعي القراءة المتصلة والمواظبة. ولكن الداعي الأقوى، على ما أحسب، هو تناوله أحوال المصريين المعاصرين، على اختلاطها وعشوائها وتشظيها وأطوارها، من غير خشية المراكمة المطنبة ولا النثرية المسترسلة في اللحن المعنوي قبل اللغوي وفوقه، أمكنَةُ سَلْكُ الأحوال في خيوط ووجوه وأنحاء أم عصاه السلك واستحال عليه. ويصدر الكاتب المصري في ما يكتب، في ملحق “المستقبل” الأحدي، عن هوى إحصائي ملحمي وهوميري، على شاكلة لوائح ما تحويه بطون المراكب الكبيرة والراسية على شاطئ طروادة “الحسنة التحصين”. والمركب الكبير والعظيم الذي يجول صاحبنا في بطنه، ويكتب لوائح “موجوداته” هو مصر، أو القاهرة، قاهرة المعز التي جاءها والده في منتصف ستينات القرن الماضي، على وجه التخصيص.
و”الموجودات” التي يحصيها، مُلحّاً وقلقاً وخائفاً ان يفوته شيء منها أو ان يغفل عن بعض معانيها، هي الأشياء والسلع والماركات والاستعمالات والصور والإيقاعات وحركات الأجساد والأوقات والطرق والمهن والقيافات والأفكار والرغبات، ما حصحص منها وما لا يزال في الأرحام وما ذبل وذوى، والحسرات والمخاوف والحسابات والكلمات، وغيرها. ولوائح الكاتب المصري، والكاتب هو غير “المثقف” صغيراً ام كبيراً، تتعقب بلهف بوليسي (على معنى تعهد الحياة المدنية، وهو معنى اللفظة في أوروبا القرن السابع عشر) أحوال “الموجودات” المصرية، وظهورها وأفولها وما بين الظهور والأفول من حياة قليلة وضئيلة، على الأغلب. وهو لا تثنيه الضآلة عن التعقب المحموم، بل تبعثه على العناد والإمعان. وكأن هوى التعقب والإحصاء انفك من موضوعاته وذرائعه، وجرى على غاربه وحده لا يلوي.
وهذا أقرب الى ظاهر الأمر، ويغفل عن باعث الهوى ومحركه، عن هوى الهوى، على قول فلاديمير يانكيليفيتش. ولا يترك الكاتب قارئه الى عناء السؤال المبهم والغامض. فيكتب، في مرثية الأبوين، ان السؤال الجامع الذي يبحث عن اجوبته هو: “ما أسباب فشل اليسار (المصري؟) التاريخية”. والسؤال، معنى وألفاظاً، يطلب بل يشترط، جواباً عنه وتحقيقاً، روايةً. وتنم صيغة السؤال “التقليدية” بشكل الرواية المتوقعة وصورتها. فيتبادر الى ذهن قارئ السؤال ان على الجواب الشافي سرد أو تركيب السياقات التي تضافرت افكارها وأبنيتها وقواها الاجتماعية ومواقفها وأوقاتها ومنازعاتها ومقالاتها ووجوهها الفردية أو الشخصية وأخلاقها، على إخفاق طائفة من الناس، وموقع وقوام، في تصدر حوادث حاسمة، واستثمارها في “نصرة المستضعفين”، على ما يلخص راثي الأبوين “القيمة البسيطة” والجامعة التي ينتهي إليها، على ما يرى، “كل رصيد الإبداع البشري”، وينبغي ان “يحوَّل” إليها، وإلى حسابها.
وأحسب، أنا قارئ مقالات هاني درويش على صفحات الصحيفة منذ نحو عامين، ان جوابه لم ينتظر خياطه حلة السؤال المعلنة والأخيرة. والجواب المتوقع ليس نهراً هادئاً يجري من منبعه الى مصبه. فهو أقرب الى عود على بدء لا يكف عن التنقيب عن البدايات الكثيرة، المظنونة وغير الثابتة، والحاسر بعضها عن بدايات كاذبة أو منحولة وعقيمة. والعود هذا عود من حاضر مضطرب ومتعثر، ينوء تحت عبء اسئلة أقوى إلحاحاً من إثبات البدايات المفترضة، ويجدد الطرق الى البدايات، ويتوه في شبكتها، ويقف في بعضها.
ولعل “فضيلة” صاحبنا هي التي تدعوه الى مغالبة الإحباط، والمضي على أعماله الهرقلية والمتناسلة، وعلى التصدي الجزئي والمبعثر لسؤاله الأوديبي النسبي والتاريخي. والإحصاء المحموم، أو كتابته على النحو الذي يكتبه صاحبه عليه، وجه بارز من وجوه مغالبة الكاتب الإحباط، وعامل راجح من عوامل حمل القارئ على تصديق السؤال، والاقتناع بجديته وجدواه. وقد لا يكون سؤال هاني درويش وصحبه سؤالي (وهي حاله)، ولا أشاركه في وضع “نصرة المستضعفين” المحل الذي يضعها به، من غير ان يضعف هذا الإقبال على قراءته، ولا حمل السؤال على محمل الجد. وهذا ربما قرينة تخطي الكتابة المعاني التي تطفو عليها، او تتلألأ، وبرهان على إعمالها في المعاني هدماً وإنشاء وتسويغاً وإضعافاً، فتخرج (المعاني) مخرجاً لا يشبه كثيراً إرادة المعنى التي نفخت فيها، ويلوِّح بها الكتّاب، أو بالأحرى المثقفون، عادةً على رؤوس الأشهاد، ويتداعون الى الاصطفاف والحرب تحت ألويتها. و “اليساريون” هم اساطين تجريد المعاني من الكتابة والرواية، والمقاصد من السيرورات.
ويرد هذا الى جمع صاحبنا بين كتابة لوائحه المحمومة وبين ثقافته” اليسارية. فيحسب القارئ (وهو انا في المعرض هذا) ان الصفات التي يصف بها الكاتب “بطليه” اليساريين دليل أو مرشد واف الى المحجة المنشودة. فهما كانا “نقيين”، وكانا “ضعيفين” وبطَّنا ضعفهما بالنقاء، وجمعا “ليبرالية لا شك فيها” الى تحرر من الإسار “الستاليني”، واصطبغا بـ “صبغة” إنسانية”، وطابقا بين “النظرية والسلوك الشخصي”، وخجل الاثنان خجلاً “مشبعاً بعدم مسايرة الحياة الواقعية”، وانتصرا للمستضعفين، واعتقلا، وأحبا “تراب” مصر، وتخلت عنهما “الدولة” ولم يتخليا عن “أوهامها” وأوهام “حماها” و “ميريها”، واعتصما بـ “خيلاء الفئة الناجية” اليسارية قبل خلعها وتركها، وقبلا الخلاف العائلي والمهني. والاثنان، على هذا، ضحيتان وأبوان ونبيان ضعيفان ألهمهما الأبناء الضعف والتمرد عليه.
وبعض قسمات محمد السيد سعيد أقرب الى مهنة الابن الصحافي من الوقائع الأبوية، وأدعى الى التمثيل والاقتداء والإعجاب، مثل “تحمله تناقضات كل الطرق المؤدية الى مفترق طرق يساري بامتياز”، ووقوفه “موقفاً أسطورياً مصدقاً نظرية غرامشي في المثقف العضوي”، و “انتحاره بين يدي الرئيس” المصري حين رفع صوته بالدعوة الى “تحول ديموقراطي”، وخروجه من “حضانة” النظام وإعلانه “معارضته الإله”، إلخ، ولا يطعن هذا في الشبه القوي بين الأبوين، ولا في رغبة الابن في شبههما.

[ المثقف والكاتب
فهل تقود الصفات هذه، صفات الرجلين وصفات أفعالهما، “ابنهما” الى محجة أو غاية يرتضيها؟ ومن أي طريق؟
ويضمر السؤال شقاً روائياً، إذا جازت العبارة. فالغاية المرضية والطريق إليها يكنيان عن الحبكة التي قد يتراءى للراوي الكاتب، ولغيره، ان رسومها وصورها تصلح منوالاً مثالياً (يتمثل في الذهن) ينسج عليه خيوط حياته وسيرته ويشبكها، ويروي في ضوئها (ضوء الرسوم) حوادث حياته ويعقلها. وأدخل هاني دوريش الحبكة المرجوة في باب سؤاله عن “أسباب فشل اليسار التاريخية”. وهو يكتب ما يكتب، إصعاداً من مرثاته هذه الى مراثيه في أذواق المصريين الموسيقية وأزيائهم وأثاثهم ومدارسهم وأمراضهم ومساكنهم ومنتجعاتهم السياحية… وعلى النحو الذي يكتب، تحقيقلً للسؤال، وتقليباً للأسباب على وجوهها. وتناول “غيبوبات” الوالد الراحل، وصحواته ليلاً “في عنابر مستشفى صيدناوي للتأمين الصحي”، وخطبته المرضى والممرضين، وتحريضه إياهم على طلب حقوقهم المهضومة في وسط سحب التبغ وأصداء نشيج المرضى، وحداء المريض في نزعه الأخير وبين شدقي الغيبوبة “للسد العالي وحائط الصواريخ (على القنال) والانفتاح” – تناول هذا كله جزء أو بعض من بسط السؤال، ومن تعقب الأجوبة.
ولكن بسط السؤال وتعقب الأجوبة على هذا النحو، إذا صدق ان ما يرويه الكاتب هو جزء منهما، لا يدخلان في باب الحبكة أو تحته. والرواية الإحصائية والمحمومة، وهي تحاكي حمى الناس والأفعال والأقوال والتصورات، تخرج من الحبكات كلها، وعليها، وتخلط الرسوم والسياقات بعضها ببعض. فماذا يزن “التحول الديموقراطي” وأوراقه، بقيت في جيب محمد السيد سعيد، على ما أمر الرئيس مبارك، أم حشرها الرئيس في جيبه أو جيب أحد مرافقيه – في كفة نزع الوالد في عنابر مستشفى صيدناوي، و “تخريفه”، و “نسل بوله من قسطرة في ممرات المستشفى”، وشرائه حذاء “كلاركس” لابنه بـ 400 جنيه فيما هو “يوفر ثمن الأوتوبيس بالمشي نحو ساعة بين مباني القاهرة العتيقة”؟
وكيف قياس “تناقضات كل الطرق المؤدية الى مفترق طرق يساري بامتياز” في صدد إخفاق “البديل” “اليومية اليسارية المصرية” التي روى هاني درويش في مقال سابق نزعها وانهيارها المأسويين والتافهين – على حال محمد السيد سعيد، و “نقائه” و “ضعفه” و “معادلته الصعبة” و “انتحاره” و “نفيه” وراتبه الضئيل و “خجله”، وقبوله “حصاره” بأسئلة الصحافيين ومطالبتهم لأنفسهم بـ “أسعار” مناسبة، وفوق هذا كله قياساً على تركه السفر الى العاصمة الفرنسية، وطلب العلاج الناجع ربما فيها، دفعاً للوحدة (“مينفعش أبقى لوحدي”) وترفعاً عن التماس إعالة من لا يطيق السفر والعلاج إلا معهم؟
ففي الحوادث هذه كلها تظلل المعاني الواضحة والناتئة والمتداولة مثل اليسار والصحيفة اليومية و “أسعار” الصحافيين وأنواعهم والفساد والمثقف العضوي والنقاء والرومنتيكية والأبوة والناصرية وعمال سكك الحديد والزنازين والنقد الثقافي المتحرر من النزعة الإيديولوجية وديموقراطية التعليم الجامعي و “ببغاوات” تعليم الدول “القومية القوية”، والإحصاء هذا من مقال واحد إحصاء ناقص تظللها ظلال كثيرة وكثيفة مصدرها قاع “روسي” دوستويفسكيّ أو أميركي فولكنري (فوكنري). والظلال هذه، على شاكلة السحب الحبلى بالبروق والرعود والأعاصير والفيضانات، تنقلب من وسائل ايضاح بيانية، تُظهر القناعة بالانزواء في هامش الرواية أو الصورة، الى موجة متدفقة تجتاح متن المقالة العقلاني والمتماسك، وتتخلل شقوقه الكثيرة وثناياه العميقة.
وترتسم “مصر” هاني درويش في الشقوق والثنايا هذه، أو هي تخرج منها، من الشقوق والثنايا، شخوصاً ووجوهاً يولد بعضها من بعض ولا تستقر على سمت، وأجساداً مبرحة وملتوية قوضها التعذيب والتجاذب، وأصواتاً ناشزة، ورغبات بائسة تترجح بين طلب الأهرامات “الخالدة” وبين بلوغ منيتها واستيفائها في مضغ علكة أو تعليق “بوستر”. ومزيج المعاني “اليسارية” الواضحة وكتابة الظلال السحابية، لا يقر على قرار. وهو يقضي في مقالات الكاتب الى “نوافذ” بـ “طياحة”، على ما سمى العامليون (اللبنانيون من بعد) حربهم على والي عكا الظالم في أوائل القرن التاسع عشر، يقضي فيها بطياحة مترنحة ومحمومة.
فإذا تناول الكاتب موضوعه، ونوى معالجته معالجة ثقافية (“يسارية”)، وأراد تغليب المعاني المضبوطة والمنقادة على صخب الشياطين المحبوسة في القماقم، لم يأمن خروج الشياطين وعبثها في المعاني فساداً وتحويراً وتكذيباً. فالأسئلة “اليسارية” والنقدية تفترض قعراَ قريباً في متناول النظر والقلم والفهم والعلاج (وقول هذا ليس من باب الاستخفاف ولا المديح بل من باب التقرير). وقد يكون دخول تلاميذ مصر، وهم يعدون عدد “الشعب العراقي”، المدارس في وقت تشغل فيه مسألةُ وباء “اتش واحد” (“انفلونزا الخنازير” التي حمل اسمها الجهاز الإداري المصري على استئصال الحيوان البريء من مصر) وانتشاره البالَ، وتمتحن الجهاز الإداري الوطني الواقعة هذه قد تكون مثالاً على طياحة الكاتب. فلا يكاد التشخيص يخطو خطواته الأولى، ويتكئ على بعض الأرقام، وعلى مذكرات إدارية، حتى تتلبد السماء المدرسية المصرية بغيوم آتية من سراديب العدد والعادات والعاهات الأصيلة والزمانات البيروقراطية والنفعية القديمة والمحدثة. فتسد الأفق وتحجبه. وإذا بالمسألة المدرسية والصحية نذير بقيام الساعة عن يد المسيح الدجال والسفياني الأعور واليماني الأعرج، مجتمعين. وما هذا شأنه، ومن هذا شأنه (على شاكلة الأبوين الراحلين)، لا علاج لأمراضه وأحواله، ولا طريق الى العلاج، وربما الى التشخيص.
ولعل المزيج هذا، او الانقلاب الكارثي من حال الى حال، قرينة على “مشكلة” كتابة ومشكلة كتّاب ومجتمعهم معهم. فكأن كاتب المقالة الصحافية، التشخيصية والتقريرية والعلاجية، لا يسعه الاقتصار على مقالته هذه إلا إذا حجز بينها وبين ملابسات موضوعه بحاجز “يساري” مصري، على المعنى الذي تقدم. فيدعوه اقتصاره، والكاتب (أي هاني درويش في المعرض هذا) يراه قصوراً أو كسلاً، الى معالجة صحافية لا يرضاها إلا إذا رضي بموقع الداعية، العضوي على طريقته. وإذا هدم هذا الحاجز ورفضه، لم يتصل بحال “عضوية” أعمق أو بموقع عضوي أقوى كشفاً.
ففي روايات درويش، أو اخباره في مقالته وآخرها مقاله في “ابويه” ومرثيته فيهما، قد يكون الفرق بين “المثقف العضوي” وبين المثقف التقني والتنفيذي عظيمة على الوجه الأخلاقي ولكنه ضئيل على الوجه العملي. وهو يميل الى تقديم التقويم الأخلاقي على التقويم العملي. ويسكت ربما عن أمرين هما في صلب مقالاته وكتابتها: الأمر الأول هو إفضاء المعيار الأخلاقي الى “رومنتيكية” لازمة، أحسب انه يقصد بها دونكيشوتية متخلفة عن فروسية كتبية وانصرافاً عن تناول الطور الحالي للسؤال الأخلاقي. والأمر الثاني الذي يشيح الكاتب عن فحصه هو ارتماء كتابته في الطياحة المحمومة، وتخطيها المعاني الى لجة لا قرار لها، ولا شراكة عضوية أو تاريخية فيها. فإما عقلانية دونكيشوتية وأخلاقية من غير يد، وإما الطياحة المحمومة و “ليل النقع”. أهي حال مصر؟ وحالنا؟
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى