عـالمـان
سليمان تقي الدين
يكاد العالم يخلو من الحروب والمشكلات الأمنية إلا تلك المنطقة ذات الثقافة الإسلامية. منذ ثلاثة عقود تقريباً نشأ «استشراق» جديد في مواجهة الإسلام. أول صدام نوعي حصل في التاريخ المعاصر بين المسلمين والغرب ربما يكون قرار حظر النفط في حرب تشرين 1973. استيقظ في الغرب شعور بتحكّم هذه السلعة الاستراتيجية وذهب كيسنجر للقول إنه يجب إعادة هؤلاء لبيت الطاعة. ثم كانت الثورة الإيرانية وأزمة الرهائن وأخذت وسائل الإعلام الغربية تصوّر العربي والمسلم إرهابياً معادياً للحضارة. على ذاك الإرث تأسست فيما بعد نظرية صراع الحضارات فوضعت في مواجهة الغرب الإسلام والتنين الآسيوي الصيني والهندي.
عندما قرّر النظام الإمبراطوري الأميركي أن يملأ فراغ القوة للقطب الآخر اندفع نحو الشرق. لم تكن أحداث 11 أيلول 2001 إلا لحظة افتتاح مسار دولي جديد. اختار الأميركيون الأحداث والوقائع التي تبرّر تلك الحرب. لكننا اليوم نعرف أن جزءاً أساسياً منها كانت من صنعهم. من المعروف على الأقل أن الحرب العراقية الإيرانية واجتياح العراق للكويت ليست خارج الرعاية الأميركية. أما اتهام العراق بأسلحة الدمار الشامل فكانت من أساسها أميركية الصنع. ذرائع التدخل الأميركية موجودة دائماً في لبنان والسودان، في الصومال أو اليمن، وفي غير دولة كما حصل لتغيير السلطة في باكستان، من صعود مشرّف وسقوطه ومقتل بوتو واستخدام هذا البلد للتدخل في محيطه كدولة أو كجماعات. لم يعد العالم يقسم إلى شمال وجنوب، وشرق وغرب (رأسمالي واشتراكي) أو دول متقدمة ونامية، المشهد اليوم عالم تديره السياسات السلمية وآخر تديره الحروب. عالم الإسلام هو عالم الحروب. على حد ما نعلم هناك بؤرة توتر واحدة هي إسرائيل وبضع دول عربية ما زالت تحتفظ بالتضامن مع الشعب الفلسطيني في بحيرة من المصالح الأميركية.
الحرب الأميركية على المنطقة هي التي فتحت أبواب الفوضى. هي التي أعطت شرعية للإسلام السياسي أن يتوسع في لعبة العنف. هي العنوان الذي يتأسس حوله وفي مواجهته تيار التشدد الديني سواء انتمى إلى أكثريات أم أقليات مذهبية. أولويات السياسة في المنطقة صارت المواجهة مع الغرب ومن خلاله مع الأنظمة السياسية التي تتعاون معه.
كل الملفات الأمنية والأزمات السياسية المفتوحة في المنطقة يجمعها اليوم عنوان واحد سياسي أمني يدور حول مواجهة إسرائيل وأميركا والأنظمة.
الأنظمة السياسية تظهر صورتها كوجه آخر من الإسلام السياسي وتزعم أنها «إسلام الاعتدال» في مواجهة «إسلام التطرف». خلف هاتين الواجهتين تغيب مشكلات الأمن القومي أو التنمية، ازمة المشاركة والحريات، أزمة بناء الدول وتطويرها وقضايا التصنيع والزراعة والبيئة والمياه والتعليم. نحن أمام انشطار إيديولوجي جديد وجبهات أمنية من عنف منظم دولي وعنف شعبي مضاد. لسنا أمام برامج للتقدم الاجتماعي أو للإصلاح السياسي، بل في قلب دوامة من صراع العصبيات والمذاهب والقبليات والنزاعات الجهوية. اليمن أمام تحديات حركة مذهبية جديدة ومطلب انفصال جنوبي. والعراق أمام أزمة تكوين قاعدة سياسية لسلطة الدولة ومعادلة المذاهب وتعبيراتها وتوازنات القوى الإقليمية التي تورطت فيه. وفلسطين أمام أزمة تكوين مرجعية وطنية لقضية تحرر مطروحة على التصفية. وفي لبنان أزمة حكم لنظام لا تستطيع مؤسساته استيعاب المجتمعات الطائفية الأقوى من الدولة والقادرة على تعطيلها.
لكن خلف هذه الظاهرات كلها هناك دول لديها شرعيتها ولديها استقرارها الوطني، غير أن المشروع الغربي لا يريدها نموذجاً بل يريدها حالة شاذة. يضغط الغرب بأشكال مختلفة على النمور الآسيوية الإسلامية ويخلق لها الأزمات المالية. ما يزال يحجب تركيا عن الدخول في المنظومة الأوروبية ويحاصر إيران ويجوّف النظام المصري ويدعم سياساته الضعيفة، ويدير ما بقي من مشكلات لإخضاع هذا «العالم الإسلامي» بتبريرات عدة لهذا الإخضاع.