التضامن العربي بين الضرورة والاختلالات
سليمان تقي الدين
بعد هزيمة 1967 بدأت تتأسس ثقافة اسمها “التضامن العربي”. تمت المصالحة في مؤتمر الخرطوم بين الدول الراديكالية والدول المحافظة تحت عنوان معالجة آثار العدوان وجمع شمل العرب في مواجهة “إسرائيل” استنفاذاً لقضية شعب فلسطين. كانت تلك الثقافة من ضرورات الأنظمة التي رفعت شعارات تحررية وقومية، بينما كانت الأنظمة المحافظة تحاول أن تستعيد شرعيتها في نظر شعوبها. اجتمعت قيادات الأمة على مهمة “إزالة آثار العدوان” ولو أنها أعلنت اللاءات الثلاث: لا صلح لا اعتراف لا مفاوضات.
ما كان يجري من صراع بين الدول والأنظمة، وبين الشعوب وأنظمتها دخل في غيبوبة التضامن العربي. في تلك المناخات بدأت حركة التحرر الوطني العربية تخسر هويتها وتخضع لسقف النظام الرسمي بشكل مكوناته النازعة إلى التصالح مع أمريكا والغرب والتسوية مع “إسرائيل”. وعندما انطلقت الثورة الفلسطينية بوصفها إجابة تلقائية على فشل الجيوش التقليدية العربية في تحرير فلسطين كان النظام الرسمي لها في المرصاد، فأعاد إدراجها في مشروعه وضمها إلى ناديه وأغدق عليها المال والعلاقات العامة وطوّعها للسياسات التي تعتمدها الدول لا الثورات. أول ما تخلّت عنه الثورة الفلسطينية هو استقلالها الفعلي، وأول عنوان أسقطته أنها “رافعة النضال العربي الجديد” وأول ثقافة خضعت لها هي “ثقافة التضامن العربي”. ومع الزمن صارت منظمة التحرير الفلسطينية جزءاً مكوناً من النظام الرسمي العربي. اختتمت حرب اكتوبر/ تشرين الأول 1973 هذه المرحلة من “التضامن العربي” بأقصى ما اختزنته من إمكانات وزخم، وانشق العرب مجدداً لكن على مهام وأهداف أدنى، وتراجع سقف المطالب العربية بإجماع إلى مشروع تسوية مع الدولة العبرية. لكن الصورة الإجمالية لم تتجاوز حدود المطالبة بأحسن الأحوال باستعادة أراضي 1967. استبعد العرب ومعهم منظمة التحرير هذه المرّة نهائياً من جدول الأعمال، فكرة المواجهة وأعلنوا التزامهم استراتيجية السلام، وقبولهم بالقرارات الدولية التي كانت تصاغ في ظل موازين قوى إقليمية ودولية راجحة يوماً بعد يوم لمصلحة الكيان الصهيوني.
لم تنتج الأمة خلال هذا المسار خياراً بديلاً. النخب القومية التي استولت على مقدرات بعض الدول استغرقت في لعبة السلطة. الأكثر ثورية ولو لفظية منها كان يزكّي ببعض المال لقضية فلسطين، والنهج الذي ساد هو توليد قوى سياسية حزبية هنا وهناك لا تستطيع أن تحمل مشروعاً عربياً. فرّخت منظمات قومية ناصرية وبعثية وماركسية ويسارية على امتداد الساحة العربية. ونشأت حركات تحريرية مسلحة ترفع أكثر الشعارات مثالية في أكثر البيئات الاجتماعية والسياسية تخلفاً. تعززت السياسات القطرية، وصارت القومية والوحدة والعروبة والتحرير، مجرد ملحق يحمل خطاب تلك النخب ولا يسعى حتى إلى إيجاد رابط تعاوني بينها. صارت الحركات السياسية الجديدة جزءاً من نزاعات الدول والأنظمة، وصار أرقى شعار لها “التضامن العربي”، أما التضامن العربي فهو وصفة لسياسات الأنظمة وضروراتها ومصالحها ولا شيء يستحق الذكر في مجال تطوير ثقافة المقاومة العربية، ولا برنامج يستحق الذكر في تنمية المجتمعات وتوسيع نطاق الحريات والمشاركة، ولا شيء يستحق الذكر حتى في بناء علاقات بينية اقتصادية أو تقريب أنظمة التربية والتعليم، أو فتح معابر التواصل الإنساني إن لم نقل إسقاط الحدود.
لكن الأدهى من ذلك كله أننا دخلنا مرحلة من الحروب العربية والإقليمية والأهلية أفقدت العالم العربي بجميع قواه السياسية وحدة الهدف والاتجاه. لم تعد العروبة ثقافة واحدة للأمة، لم تعد العروبة هوية جامعة، لم تعد العروبة أفقاً أو ركيزة للنهوض أو حتى للدفاع عن أمن هذه المنطقة ودولها وشعوبها.
صار للحراك السياسي لغات ولهجات استنفر كل ما هو قبل تشكل الوعي العربي والوعي القومي. ذهبت الأنظمة إلى خزائنها ومخادعها واستحضرت كل ما هو فئوي وجهوي وعصبوي ومذهبي وقبلي وانتقلنا من مرحلة الصراع مع مركز النظام الدولي المستأثر المهيمن إلى “عراك” عناوينه تنبع من نزاعاتنا ومصالحنا وأنانياتنا.
ما نسميه تضامناً عربياً اليوم ليس أكثر من صلح العشائر. ليس أكثر من هدنات تعقبها جولات من التطاعن. ليس أكثر من استحياء البعض أمام النزف العربي من ولوج خطاب الفرقة. صارت فلسطين استثماراً في سوق العلاقات الدولية يتنافس العرب على تصريف أعمالها ويتعهدون إغراء شعبها بالحلول والتسويات ويستقطعونه لخدمة هذه الدولة أو المحور. لم يعد التضامن العربي قادراً على وقف حرب أهلية أو مباشرة المحاولة أو المواساة. لم يعد التضامن العربي قادراً على إنتاج شيوخ الصلح ووجهاء لهم هيبتهم وكرامتهم ومرجعيتهم. ليس من زعيم يتحرك بين العواصم. ليس من قائد يتطوع لإدارة حوار. وليس من مؤسسة طبعاً يمكن استخدامها حتى للخدمات الإنسانية والإغاثة. صرنا في زمن الوطنية فيه أن تطالب بترسيم الحدود وتثبيتها، وإقفال المعابر وتشديد حراستها، وتعزيز التفتيش على المرافئ، والتحري عن هويات الوافدين القبلية. وأقمنا نظاماً من دفع الناس بسياسات زعمائهم وطوائفهم ومذاهبهم. ليس هناك من “تضامن عربي” وليس هناك من ثقافة عربية واحدة بمعنى الهوية والمشروع، وليس هناك من مستقبل لوهم المسالمة والمجاورة والتعايش. التضامن العربي صار وهماً، التضامن العربي أدلوجة لزمن التراجعات والخيبات والنكسات والهزائم. لن يتجدد التضامن العربي إلا على خيارات تؤسس على وحدة الرؤية للأمن القومي بدلالاته المختلفة السياسية والاقتصادية وبلورة مصالح مشتركة بين العرب.
الخليج