صفحات ثقافية

عشرون عاماً على غياب صموئيل بيكت امبراطور مسرح العبث: الدرجــة الصفــر مــن اللغــة

null
عبيدو باشا
عشرون عاماً على غياب صموئيل بيكت. عشرون سنة على غياب أحد أبرز مسرحيي تجربة العبث في العالم، أو أحد ابرز المسرحيين في العالم. صاحب تجربة استبطان مدهشة. ذلك أن نصه استبطن كل الاشياء اللاعادية . لم يحقق المسرحي مسرحه بالتقنيات. لا تقنية في مسرحه. لا تقنية بتاتاً، سوى تقنية بناء المنهج الخاص به. وهو منهج أدبي، أقام مسرحه على نحو دوري بالتواتر الشفهي. إذ ان نصوصه هي في واقع الأمر سلسلة أثيرة في العاب انتقال من العالم الواقعي الى العالم الخيالي، عنده: ترك بيكت للمتفرج غير العادي ـ بطبيعة الحال ـ اتخاذ القرار بصدد علاقته بالمسرح. علاقة بحقيقة أم علاقة بفانتازيا. تجلت اللعبة في استمراريتها. بذا: بدا بيكت صاحب الاختيار الاول والاخير في علاقة الناس بمسرحه او بعلاقة مسرحه بالناس. وجد الكثيرون ان خياره هو خيار ضد الاخبار والاعلام والتسلية والترفيه. وجد القليلون: بقي مسرح بيكت بحاجة الى مشاهد واحد هو: بيكت. انه نقيض الجمع. من بيترال الى ويسكر. ومن اوزبورن الى بولت. ومن بريشت الى مايرهولد وبيسكاتوروستانسلافسكي.
المدهش في مسرح بيكت أن شخصياته الخيالية أكثر واقعية من الشخصيات الواقعية العامة. وهي محكومة دوماً بقياسها بالشخصيات الروائية الخالصة. تستحوذ الشخصيات هذه ـ في أغلب الاحيان ـ على أهمية تماثل الاحداث العامة. لا خطورة في مقارنة الاحداث المسرحية بما يحدث لسياسي حقيقي أو بطل من ابطال الرياضة أو داعية اجتماعية أو داعية ديني. لا غرابة في ذلك. لأن بيكت كتب للرواية كما كتب للمسرح. كتب للإذاعة كما كتب للتلفزيون والسينما. غير أن تجربته محسوبة على المسرح والرواية أكثر بكثير مما هي محسوبة على الإذاعة والسينما والتلفزيون. إذ ان بيكت أحد ابرز المساهمين في تجربة بناء الرواية الجديدة في اوروبا. لم تنتبه الاقلية الى أن شكل المسلسل في تجربة بيكت (المسرحية أشبه بالأخرى) جعلت صنعة الكاتب أسهل منالاً. ما ان يشتغل بالتقنية هذه، حتى تنتفي الحاجة ـ بالقياس اليه ـ الى اشراقة ازمنة او ذكاء في ابتغاء تقديم عرض بالتعريف به وبشخوصه الرئيسية في بداية كل حدث. فشخوص بيكت معروفة عند الجمهور. انها تتغير بأسمائها. وفي الاحداث اللاعبة بها. شخصيات معروفة سلفاً لدى الجمهور، تدفع الجمهور الى قراءاتها بصعوبة سهولة حضورها في المسرحية هذه او تلك. بيكت صاحب مسرحيات اقتصادية في استخدام الوقت والشخصيات واللغة. شروع بالكتابة بالمسرح من وسيلة اتصال جاهزة تؤدي الى الراحة قليلاً والى الهلع.
ما يخلفه حضور مسرحية بيكت لدى الجمهور مدعاة الى القليل من المسرة واللذة بالقياس الى روح انشراح غريبة تتأتى من الخوف المدرك ادراكاً صلباً. صفة الادراك متعة غير مؤذية . مسرحية بيكت روائية. روايته غير مسرحيته. كتب بالرواية: «مورفي» و«وات» و«الحب الأول» و«موت مالون» و «الذي لا يُسمّى». كتب بالمسرح: بانتظار غودو، نهاية اللعبة، آه الايام السعيدة، الشريط الأخير. كتب مسرحيات أخرى. غير أن المذكورة هي المشهورة. انتظرت بانتظار غودو سنوات حتى وجدت أحد المخرجين الفرنسيين المغامرين. أخذ النص وقدّمه وسط اعتراض مدير الصالة. جاء جمهور مرتاب ومتحسس. ثم: لم تلبث «بانتظار غودو»: أن سمرت مشاهديها أمام أحداثها الى النهاية . وفرت المسرحية الشروط النفسية والاجتماعية لحضور أبطالها في الصالة الباريسية المعتمة. شخصيات قليلة. أفراد معزولون. اقام الافراد مشهدهم الطويل على الافعال الفردية وعلى ردود الفعل الفردية. الاهم: ان شخصيات بيكت ذات حساسية عصبية عالية. الأهم: ان حساسية الشخصيات العصبية البيكتية العالية، انتقلت الى جمهور مشاهديها. تعرض المتفرجون الى تأثيرات كاسحة. استهدفهم ابطال المسرحية بعدم قدرة هؤلاء على النظر الى ابعد من بيكار رؤيتهم الشخصية. شخصيات مرعوبة بعزلتها. شخصيات توزع الرعب بينها. يروى ان المسرحية مقتبسة من مسرحية «العميان» لمترلينك. افادت مسرحية بيكت من مسرحية مترلينك ـ اذ استفادت ـ بحيث بدت أكثر عطاء منها. اقتربت الكتابة من شخصيات «بانتظار غودو» خطوة خطوة وبلا رحمة. وكلما اقتربت الكتابة من الشخصية انذرت الشخصية بقرب لحظة الختام. غير ان الختام لا يأتي. هذا سر شقاء الشخصيات. هذا سر استخدام بيكت للمونولوغ الداخلي باتصال وثيق بالالفة المرعبة في المسرحية المسرحية واللامسرحية في آن.
سحق اللغة
شخصيات بيكت قليلة في المسرح و الاذاعة. هي أقرب الى بعضها في المسرح والاذاعة. شخصيات بيكت قليلة في الاذاعة والمسرح والتلفزيون. «آه جو» تمثيلية تلفزيونية لبيكت. بطل التمثيلية واحد. البطل الآخر صوت. يسمع صوت امرأة هو سبب شقائه، قبل أن تحلّ لحظة الختام. لديه: لحظة الختام هي الأهم. تقترب الكاميرا من وجه الرجل، بحيث لا يبقى من الوجه هذا الا السواد الذي يغطيه باستثناء بؤبوي عينيه المفعمين بالرعب الفظيع. هذه تيمته المفضلة بكافة أشغاله الفنية ـ الثقافية. يتميته الأخرى: سحق الكلمة. ذهب الرجل ـ من العام 1936 وحتى العام 1989 عام وفاته ـ الى تجربة مسرحية خاصة اتسمت بالعمق. وسمت التجربة بحركة سحق اللغة وتدميرها نهائياً في صالح اللغة المشهدية بإطار معرفي ـ حسي. تحاشى في ذلك المنطق المتعارف عليه. لا علاقة لآرتو بحسية بيكت. تعود حسية بيكت الى خوفه من الانزلاق الى المعرفة الجزئية. قادته الحسية دوماً الى الشامل. في حين الصق أرتو الحسية بالطقسية . قفز بيكت بذلك فوق المناقشات الذهنية الفلسفية المنطقية الى الصورة الشعرية الخالصة. لذلك: خرج بالمكان من الحتمية الى النسبية . لذلك: خرج بالزمان من الحتمية الى النسبية. توصل الرجل في بحثه عن جوهر الحقيقة الإنسانية الى فكرة نسبية الحقيقة. عنده: لا حقيقة مطلقة. ليس ثمة حقيقة مطلقة. انه هكذا في مسرحه كله. شخوصه تشبهه. كلامه يشبهه. إنه فردي ونادر الكلام. شخوصه تشبهه، لأنها تعيش في عزلة ميتافيزقية تامة ـ بشكل عام ـ ولا تشعر بأي تعاطف في ما بينها. يشكل احتضار الكلام عنده الطرف الثاني من معادلة قديمة يشكل احتضار الذات الإنسانية طرفها الاول. احتضار الكلام واحتضار الذات. انهما قطبا مسرح بيكت واعماله التلفزيونية والاذاعية والروائية. انهما ما يشدان المشاهد الى نقطة هدفه. بدلاً من أن يتجول المشاهد بحرية، يضحى اصطفاف الشخوص على المنصة أكثر تعقيداً بالعملية هذه. لا يمكن اقتناص التعقيد بنظرة واحدة. ما يحتاجه ذلك: قراءة بالبصيرة لا بالبصر. قراءة بالقلب لا بالعين. قراءة بالاحساس لا بالادراك. لا عرض فاعليات على منصة بيكت. لا عرض. بل حضور مهموس. حضور جسدي مهموس. وحضور لغوي اكثر همساً. الهمس امتداد فاعليات الكاتب. انه عينه و اذنه وقلبه، يعينه على اختيار وجهته في اقامة العلاقة بالمشاهد. يهيمن الكاتب على المشاهد هيمنة كاملة. يرفد ذلك خشبة المسرح بفوائد تركيز الجمهور الكلي على المساحة المسرحية، بحيث تضحى عملية استيعاب ما يجري من موقع ممتاز عبر طريقة الايصال التقنية. يؤثر ذلك بالدراما المسرحية. لأنه يزيد دراما الجمهور عليها. إنتاج الكاتب هنا: انتاج. متابعة المشاهد هنا: اعادة انتاج بلا اشارات تلقائية. احتاج هذا ـ دائماً ـ الى تدريب مسبق. ادت مسرحيات بيكت المتسلسلة الدور هذا. بل إن واحدة من ميزاتها الرئيسية هي تدريب المشاهد على المشاهدة كما تجب المشاهدة.
بيكيت وبريخت
يقدر صموئيل بيكت برتولد بريشت. يعترف بامتنانه لبرتولد بريشت بصفته منظراً للدراما المسرحية، كما فعل جان لوك غودار. لا غرو في ذلك. طالما أن أحد أهم أفلام المخرج السينمائي الفرنسي ـ الضربات الأربعمئة ـ قائم على تغريب سينمائي ترد صوره الماهرة الى برتولد بريشت وتغريبه. لن يقدّر صموئيل بيكت برتولد بريشت، لأنه الأبعد عنه وعن منهجه المسرحي ومسرحه بمنهجه. تقنية بيكت هي غير تقنية بريشت وعلم الجمال في مسرحه هو غير علم الجمال في مسرح بريشت. إن التصادم بين الاثنين هو واقع الاثنين. بريشت مسرحي لغة في مسرحه وفي بياناته. بيكت ضد اللغة في مسرحه. لن يعترف بالوحدة الجوهرية للدراما. لن يعترف باللغة كوسيلة. سوف يتعاطى مع اللغة كهدف. إضفاء تأثير الغرابة على العمل الفني من الاشتغال على اللغة: استخدم بيكت المزج بين الكوميديا والمهزلة واليأس في «بانتظار غودو». تتصرّف شخوصه في المسرحية كما يتصرّف مهرجو مسرح المنوعات. جماعة ثرثارين. تشبه ثرثرتهم ثرثرة الكوميديين الهزليين. اللافت: اكلت الثرثارة اللغة في «بانتظار غودو»، قبل أن تضحى اللغة هدف بيكت الاول. اشارت مسرحياته الى موقع الانسان المأساوي في العالم الاجوف المتضمن معناه الخافي على الناس. اشارت مسرحياته الى ذلك بالكلام. ثرثار اولاً. ثم الاقتصاد بالكلام. ثم بقتل الكلام. ذلك أنه اشتغل على كتابة مسرحياته بالملاحظات. يفعل، ينط، يومئ، ينظر، يغضب، يرقص. وهكذا. بكل الاحوال: انتج مسرحه تأثيره المأساوي علينا. أحسب انه اشتغل على اللغة، لكي ترسم اللغة دراما اللغة. ثم: أن تلغي اللغة اللغة. ثم: تلغي اللغة الدراما. بيكت ليس كاتب سيناريو في المسرح. كل من يشير الى ذلك يؤكد فهمه الخاطئ لتجربة الرجل النقية والمهمة في آن. دراستها ضرورية لمن يريد أن يفهم الدراما ومن خلالها أن يستوعب الطبيعة الإنسانية نفسها.
كبت وحشي للعواطف والمشاعر. كبت الرجل ذو العينين الصقريتين عواطفه ومشاعره في مسرحه، في لغة مسرحه غير اللاهية في بحثها عن تقنيات تدمير اللغة. إنه هكذا دائماً. انه ضدي دائماً. حتى انه في مساهماته البارزة في كتابة الرواية الجديدة، كتب متمرداً على من أحبهم. جاء الى الثقافة والأدب والفن من حبه بروست واعجابه الادبي الكبير به. جاء الى الرواية من اعجابه الكبير بجيمس جويس. عمل كسكرتير له في فترة من الفترات. بعدها: وجد نفسه شريك كلود سيمون والآن روب غرييه وفيرجينيا وولف في تجربة كتابة الرواية الجديدة. رواية ضد ثوابت الرواية الأوروبية والأميركية. ضد ثوابت زولا وهمنغواي وبروست وجويس. سكنت الضدية صموئيل بيكت. لم تصبه على حين غرة. لأنه ضد التكيفات المتوقعة وغير المتوقعة. لا شيء لديه الا ما هو نافذ البصيرة. نفاذ بصيرة كشافة. وظيفتها الأولى: تعرية آليات بحث الإنسان عن ذاته وعن الآخرين في حياة مجنونة لن يلبث ابطالها ان يبحثوا عن الأمل في كل المواقع والهنيهات بحصائل مأسوية وتأثيرات مأسوية للحصائل المأسوية نفسها. نوع فني مركب يتطلب حنكة عالية من المشاهد في مرتبة حنكة الكاتب. يمهد أسلوب بيكت الطريق لانسجام الجمهور مع توقعاته. غير أنه لا يلبث أن يطيح بتوقعاته هذه وسط عواصف من عواطف مدمرة. تعقيد وحداثة. إنجاز التأثير بخيبة الأمل الفجائية. وبإعادة توجيه التوقعات. لذا: يقع مسرح بيكت عند ضفتين. ضفة جمهور يتبنى مسرحه. وهو جمهور صاحب خبرة في الفن. ثم: ضفة جمهور يجد نفسه على مبعدة من فن بيكت لأنه يدفعه الى البرم والضيق. الأخير جمهور بخبرة فنية ضئيلة. يمس الجمهور الأخير شيء يتخطى ويتجاوز تجربته اليومية الأرضية. في حين يتغلغل الجمهور الآخر في الطبقات التحتية لمسرح بيكت، حيث مشاكل الإنسان والمصير الانساني ما يبعث في الانسان تأثيراتها السامة المطهرة.
اللامعقول
تحفر مسرحيات بيكت في الحياة اليومية للناس، لكي تمدّ الناس باستبصار نفاذ لا يتناول الحياة الانسانية وحدها في ازماتها المجردة وغير المجردة والعواطف النبيلة وغير النبيلة المتصلة بها. بل تمدّنا أيضاً باستبصار ينصبّ على سلوكيات المجتمع وطرائقه ونقاط الضعف في الخلق الانساني وما فيه من شذوذ. على خط افقي: بنى بيكت واحدة من مسرحياته. في قلب سطل زبالة: بنى بيكت مسرحية أخرى من مسرحياته. إنه قيصر مسرح اللامعقول، لأن مسرحه يدفع دائماً الى الشعور بأن الناس هم في جو واحد بوضعيات مختلفة كثيرة. لن ينفس الرجل عن قلق الناس. بل يزيد القلق الإنساني. تدعوه الى أن يواجه المحن. لذا: تمتاز تجربة المسرحي الايرلندي بالشجاعة والكرامة. طالما ان شخصياته معذبة كهاملت والملك لير. لن تؤكد الشخصيات نبلها وجلالها الا بالموت. لأنها لا تهاب الموت. شخصيات بيكت ميتة بدون أن تموت جسدياً. هذه وسيلة واحدة من وسائل. يستخدم بيكت نصه في إشعار المشاهدين: اما انهم يعرفون اكثر مما يعرفه المسرحي أو أقل مما يعرفه بكثير. بالحال الأولى: يحدث الترقب والتوتر والتوقع. بالحال الثانية: يصبح انغماس المشاهد المسرحي اعمق. حتى انه يكاد يصرخ في وجوه الممثلين على المنصة، بضرورة أن لا يمثلوا بالطريقة الحمقاء هذه. هنا يتجلى مصدر الكثير من اعمال بيكت. هذا قراره الأول. هذه طريقه الاولى والاخيرة، منذ بداياته وحتى لحظة وفاته في العام 1989. عشرون عاماً على موت آخر كبار اللامعقول . سبقه رفاقه الى الموت. بحسب مسرحهم: سبق رفاق بيكت المسرحي الايرلندي الى الخلاص، الى الحياة الحقة. عشرون عاماً على موت آخر كبار اللامعقول. مات بعضهم، بانطفاء تجاربهم. ومات بعضهم الآخر بانطفائهم. في حين ظل بيكت حياً باستمرار تجربته حية. مات جورج شحادة. مات يونسكو. مات غيلردود البلجيكي واداموف القوقازي. محضت عصبة مسرح اللامعقول العالم المسرحي آفاقاً أخرى في ظل انــسداد الآفاق في العالم. عاش مسرح العبث بموت الحرب العالمية الثانية.
لم يتحمل مبدعون كثر شعور الوضعية الاكسترا متأزمة. خرجوا على دمار الحرب وعلى تحطيم الحرب لكل المعايير والاخلاق والمبادئ الاخلاقية والبنى والناس. مرحلة على وشك الانتهاء. بدا جلياً ان اللحظة هذه لحظة ظهور الملوك الجدد والملائكة الجدد. من أبرزهم: صموئيل بيكت. رجل بحضور معدني. رجل بجسد اشبه بشريط معدني مشدود. رجل يشبه مساره. مسار قلق وسط صرخات مصيرية مثيرة لكل شيء الا للهزء. بدا الناس كالعميان وسط الاسف والذعر والتوترات القصوى في الوضع الدرامي. محض مسرح بيكت عيون العميان للعميان. محض مسرح بيكت الناس قدرة التحكم بالأصوات والوقفات في الشحنات ذات الطول العبثي الاعلى. عبث المسرح في مقابل عبث الحرب. لا نتائج طيبة لحرب لأي من الافرقاء اذا ما قيست النتائج بالخسائر. بيكت حبة من حبات سبحة قصيرة. سبحة بخمس حبات. لم يغادر رجل السوداوية الحقة الجمهورية الفرنسية منذ وطأ ارضها بالعام 1936. جاء لكي يدرس بروست عن قرب. جاء لكي يدرس جويس. أثرت الاقامة فيه. ولأنه رجل لغة كتب بلغة الاقامة كل ما كتبه. حاز اجازة في الادب الفرنسي والادب الايطالي. ثم: لم يضع الرجل سراويله هناك. لم يرتبك. ولم يذل. افلت عبثه في فضاء عالمه الجديد. افلت العبث من عقال باريس الى العالم. تقطعت انفاس الناس امام المولود الجديد ذي الإلقاء السريع والنبرة الخفيضة. حقق مسرحه تأثيره المباشر والعملي في الانتاج العالمي. منح جائزة نوبل للآداب. غير انه رفض أن يتسلمها في استوكهولم. واذ تسلم قيمتها ـ حيث أراد ـ عمد الى توزيعها ـ سراً ـ على الكثير من المعوزين. مات بعد عام على موت زوجته. قضى أعوامه الـ 83 بالتفوق على الكسل وضعف الارادة والخرف. نعاه ناشره بتقرير لا علاقة للحزن به: مات بيكت بمرض الشيخوخة. اضطرب تنفسُّه ومات. لعله صاغ بيان موته قبل ان يموت. ان التكتم الذي أحيط بمرض بيكت ووفاته ودفنه يتفق مع طبيعته. لم يعلن عن وفاته الا بعد اسبوع على الوفاة. دفن المسرحي الشهير بالسر في جبانة مونبارناس. لم يجهد الرجل نفسه إجهاداً هائلاً للوصول الى أعلى ذروة. سعت الذروة اليه. تلقى الدعوة بوقفة واحدة مشحونة بالمشاعر وما هو ضد المشاعر كما تشير الى ذلك وضعيته المسرحية. لم تطوق وقفته لا الروح التجارية ولا الفظاظة ولا الوحشية ولا الهمجية.
السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى