اعتقال هيثم المالح: ما الذي يوهن عزيمة الأمّة… حقاً؟
صبحي حديدي
ليس للمرء أن يرتاب في أنّ بين أبرز الأسباب التي دفعت سلطات أمن النظام السوري إلى اعتقال المحامي هيثم المالح (78 سنة، القاضي السابق، وأحد كبار المحامين المخضرمين المشتغلين، والمنشغلين تماماً، بحقوق الإنسان في سورية، والذي سبق له أن اعتُقل أعوام 1980 ـ 1986 بسبب مطالبته بإصلاحات قضائية ودستورية) كانت إشاراته الواضحة إلى حال الفساد التي تستنزف طاقات البلد، وتنطوي على نهب المال العام، وشيوع الهدر والتبذير، وغياب الرقابة الفعلية. اعتقال المالح يستوجب وقفة خاصة مستقلة، حين تتضح أكثر خلفيات اعتقاله، إذْ أنه عُرض على قاضي التحقيق العسكري يوم أمس، بعد أن كانت النيابة العسكرية قد وجّهت إليه بعض تلك التهم التي صارت جاهزة مكرورة: نشر الأخبار الكاذبة، وهن عزيمة الأمّة، الإساءة إلى رئيس الجمهورية، والإساءة إلى القضاء…
فماذا عن آخر تفاصيل هذا الفساد، ليس في مستوى الذئاب الكاسرة، وهي أشدّ فتكاً من القطط السمان، غنيّ عن القول، وصارت فضائحها أشبه بالسيرة المألوفة المعتادة، المتضخمة على غرار كرة ثلج هابطة من علٍ؛ وإنما على المستوى المعيشي اليومي الذي يخصّ أبسط متطلبات أمن المواطن في مأكله ومشربه وصحته ومسكنه وبيئته. ومن الخير أن نقتبس شاهداً من أهل النظام، أي التقرير الاقتصادي لمجلس الإتحاد العام لنقابات العمال، وهو جهاز سلطوي بامتياز، وإنْ كان الكيل الفائض يدفع قياداته إلى ذرّ بعض الرماد في العيون، بين حين وآخر. التقرير، الذي صدر قبل أيام قليلة، يقول التالي: ‘بالرغم من كلّ ما يتمّ الحديث عنه من إنجازات حكومية على مختلف الأصعدة في الصناعة والتجارة وحتى الزراعة والسياحة، إلا أنّ الواقع يقول إن هناك تراجعاً اقتصادياً ومعيشياً لأصحاب الشرائح الشعبية من المجتمع السوري، حتى أنّ تلك الانجازات لم تنعكس على الخزينة’. ازدادت عجوزات الموازنة العامة للدولة عاماً بعد آخر، يتابع التقرير، لترتفع من 84 مليار ليرة عام 2007 إلى 192 مليار ليرة عام 2008، ثمّ إلى 226 مليار ليرة عام 2009، وإلى 250 مليار ليرة عام 2010.
كذلك يقول التقرير ان نسبة النمو التي يتمّ الحديث عنها، والتي فاقت نسبة 6 بالمئة العام الماضي، حسب أرقام وزارة المالية، ‘لم يشعر بها أصحاب الأجور لأنها ناجمة عن اقتصاد ريعي يتمثل بالخدمات المالية والعقارات بشكل خاص’. ويستغرب التقرير أن بعض أعضاء الفريق الاقتصادي في الحكومة ‘يعيد سبب عدم شعور المواطنين بنتائج هذا النمو إلى الجفاف الذي خرب المنطقة، والى أزمة الغذاء العالمية والى ارتفاع الأسعار عالمياً’، لأنّ الأرقام الفعلية تشير إلى أنّ سورية جاءت في المرتبة الرابعة عشرة عربياً من حيث معدّل النمو الحقيقي للناتج المحلي الإجمالي، فبلغ 5.15، منخفضاً عن معدّل 6.3 بالمئة لسنة 2007.
كذلك يتوقف التقرير عند نتائج الأداء الاقتصادي من خلال عدد من المؤشرات، بينها زيادة أعداد الفقراء لتشكل نسبتهم نحو 30 بالمئة، وعددهم نحو 5.3 مليون مواطن، يعيشون على أقل من 90 ليرة يومياً للسكن والصحة والتعليم والطعام والنقل والكساء، وسوى ذلك. وهذه الظاهرة تقترن مع زيادة عدد العاطلين عن العمل، وزيادة ‘حدّة التفاوت الاجتماعي وتدهور الطبقة الوسطى، وغياب العدالة في توزيع الدخل ما يتسبب في اتساع قاعدة الفقر’. يضيف التقرير تفاقم المشكلات المعيشية، وانخفاض القدرة الشرائية لأصحاب الأجور، واتساع الهوة بين الأجور والأسعار، وارتفاع معدّلات التضخم إلى حدود تفوق النسب الحكومية المعلنة (نحو 8 بالمئة فقط، في حين أنها تبلغ الضعف حسب تقدير التقرير، و14.5 حسب تقدير جمعية سيدات الاعمال السورية).
لا تغيب عن التقرير مؤشرات أخرى مثل ‘تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي’، و’أزمة الطاقة الكهربائية المعروفة بانعكاساتها العديدة على الصناعة والتجارة والزراعة والبيئة والمجتمع’، و’تراجع أسعار المواد الخام المصدرة سواء النفط أو بعض المواد الزراعية’ و’زيادة العجز التجاري’. لافتة تماماً، في جانب خاصّ سياسي ـ عقائدي، تلك الغمزة من قناة اقتصاد السوق الاجتماعي، النظرية التي بدت عزيزة على قلب بشار الأسد ذات يوم غير بعيد، ثمّ طواها النسيان في نهج النظام الفعلي كما في نهجه اللفظي، فلا يلاحظ التقرير ‘غياب الجانب الاجتماعي لاقتصاد السوق’ فحسب، بل يسجّل التالي أيضاً: ‘مع اعتقادنا أنّ بعض القائمين على السياسة الاقتصادية لا يؤمنون بالجانب الاجتماعي لهذا الاقتصاد، وأنه سبق لأحد أعضاء الفريق الاقتصادي أن وصف الجانب الاجتماعي في اقتصاد السوق بـ (هذا الشيء)’!
وفي الوقائع العملية ثمة تفاصيل أقرب إلى السوريالية، بينها أن تكون الأسمدة المستوردة أرخص سعراً من الأسمدة المحلية التي تبيعها المصارف الزراعية والجمعيات الفلاحية، بمعدّلات تتراوح بين 20 إلى 30 بالمئة، الأمر الذي أسفر عن تراكم كميات هائلة من الناتج المحلي في مستودعات الشركة العامة للأسمدة. ولا حاجة إلى تبيان الرابح الحقيقي من وراء هذا التباين الفاحش في الأسعار، ولا حاجة أيضاً لتبيان الخاسر الأوّل… والأخير. ليست أقلّ سوريالية نظرية معاون وزير الإقتصاد، خالد سلوطة، التي تعيد سبب ارتفاع أسعار اللحوم (ألف ليرة سورية للكيلوغرام، كما أشار هيثم المالح في حوار على فضائية ‘بردى’) إلى سبب وجيه واحد، هو أنّ الدولة وفّرت الأعلاف الرخيصة لمربّي المواشي! ولقد تناسى هذا العبقري أنّ الحكومة تقدّم لرأس البقر الواحد كيلوغراماً واحداً من غذائه اليومي بسعر مدعوم، في حين أنّ استهلاكه الطبيعي يتجاوز ذلك الكيلوغرام الحكومي اليتيم بعشرين ضعفاً على الأقلّ!
ولكي لا يغيب البعد المأساوي عن هذه السوريالية المفتوحة، ثمة ذلك التفصيل المفزع الذي يقول بوجود نحو 52 ماركة تجارية لعبوات مياه معدنية ‘يُعتقد أنها مقرصنة’ حسب تعبير خليل جواد، المدير العام للمؤسسة العامة للصناعات الغذائية، الذي أضاف أنّ ‘البلدان التي يتمّ الإستيراد منها ليس فيها هذا الكمّ الهائل من الينابيع، بل تتمّ فيها معالجة المياه لتصبح قابلة للشرب، مثلها مثل مياه الحنفيات التي توفرها مؤسسات المياه في المحافظات للمواطنين’. ومثل زميله العبقري، صاحب نظرية العلاقة بين رخص الأعلاف وغلاء اللحوم، تجاهل هذا المسؤول سبب تسلل هذه العبوات إلى أسواق الإستهلاك السورية، واستمرار بيعها علانية وفي وضح النهار، رغم أنه كان بنفسه قد أقرّ أنّ ‘هناك العديد من هذه العبوات تمّ تحليلها في المخابر الرسمية، وقد تبين أنها مجرثمة أو حاملة لمعادن ثقيلة بنسب عالية’!
أهذه وقائع لا توهن عزيمة الأمّة، ويوهنها حديث المالح عن الفساد، وغياب الدولة، وانتهاك القوانين؟ ألا يقول تقرير ‘منظمة الشفافية العالمية’ إنّ سورية تراجعت تسعة مراكز عن التقرير السابق، وهي تحتلّ المرتبة 147 من أصل 180، والمرتبة 17 على مستوى الدول العربية، فلا يليها في ذيل مؤشرات الفساد إلا السودان والعراق؟ هذه، في نهاية المطاف، منظمة غير حكومية، تجتهد على نحو علمي محايد لإماطة اللثام عن مؤشرات الفساد والإفساد في العلاقات الإستثمارية والتعاقدية بين دولة ودولة، أو بين دولة وفرد، أو بين شركة عملاقة ودولة وفرد، أو بين هذه الأطراف جميعها حين تشترك في شبكة معقدة من الصلات والمصالح والمنافع المتبادلة. وهي تشدّد على نوعين من الأولويات العامة، هما سهولة توفير المعلومة وشفافية الإنفاق، وعلى أولويات محددة بينها نظام قضائي حرّ لمعالجة الفساد، ومواثيق دولية، واهتمام بالتربية والتعليم.
ومن جانب آخر، لكي لا يظنّ أحد أننا نستثني دولة أو نظاماً من الآفة، فإنّ الفساد (كما الإفساد) ليس شارعاً وحيد الإتجاه: هنالك الفاسد والمرتشي وقابض العمولات، وهنالك أيضاً المفسد والراشي ودافع العمولات. وتقارير المنظمة تسجّل هذه الحقيقة، بل هي تتكىء عليها بصفة أساسية حين تتحدّث عن العواقب البنيوية الوخيمة التي تلحق بالاقتصادات النامية جرّاء شيوع الفساد في أجهزة الدولة المعنية مباشرة بالتنمية. والتقرير الرائد الذي وضعه باولو ماورو في سنة 1995 يشير إلى أنّ الدول الأكثر فساداً تشهد القليل فالأقلّ من توجّه ناتجها القومي الإجمالي إلى الإستثمار، والقليل فالأقلّ من معدّلات النموّ. وهذه الدول تستثمر في قطاع التربية والتعليم أقلّ بكثير من استثمارها في قطاعات إنشائية، لأنّ هذه القطاعات توفّر فرصة سمسرة لا توفّرها الإستثمارات في قطاع التربية.
وفي المقابل، تشهد مؤسسات ودوائر وفروع ‘البنك الدولي’ و’صندوق النقد الدولي’ مراجعات جذرية تتناول مسألة الفساد والإفساد، وتسفر أحياناً عن صياغات متسارعة وقرارات دراماتيكية بالغة الخطورة، تبدو إدارية تقنية من حيث الشكل، ولكنها من حيث المحتوى الأعمق تظلّ سياسية واقتصادية وفلسفية أيضاً. إنها، كما يُقال لنا، ‘حرب شعواء’ ضدّ الفساد المالي، أو ضدّ استشراء ‘سرطان الفساد’، ولم يعد في وسع المؤسستين اللتين تتحكمان في أموال العالم (والعالم الفقير لمزيد من الدقة)، الصبر على هدر الأموال العامة، والرشوة، والإختلاس، وتخريب الإقتصادات الوطنية، وعرقلة ‘برامج التعديل الهيكلي’ بوصفها ‘إنجيل الإصلاحات’ المقدّس في عرف خبراء المؤسستين.
لكننا نعرف أنّ جميع بلدان العالم (نعم: جميعها بلا استثناء) تضمّ رجالاً يستمدون ألقابهم من النسبة المئوية التي يحصلون عليها لقاء تسهيل أو توقيع مختلف أنواع العقود مع مؤسسات استثمارية صغيرة أو كبيرة، محلية أو عابرة للقارات. هنالك ‘المستر 5 بالمئة’، أو ‘المستر 10 بالمئة’، أو حتى ‘المستر 15 بالمئة’. وكان التنظير الرأسمالي البراغماتي قد اعتبر، مراراً في الواقع، أن حصّة هذا ‘المستر’ ليست جزءاً طبيعياً لا يتجزأ من كلفة التنفيذ فحسب، بل هي حصّة حيوية لا غنى عنها في سياق تذليل المصاعب البيروقراطية التي تعترض الإجراءات الإدارية على اختلاف مستوياتها، من توقيع العقود ذاتها وصولاً إلى الاستلام النهائي للمشروع والمصادقة على سلامة تنفيذه. بمعنى آخر، كان أصحاب هذا التنظير لا يرون غضاضة في تقديم الرشوة، ولا يخشون في ذلك أية عواقب قانونية أو سياسية أو أخلاقية.
أكثر من ذلك، مضى زمن غير بعيد (أواسط الثمانينيات، في الواقع) شهد دورية اقتصادية رأسمالية عريقة مثل ‘هارفارد بزنس ريفيو’ تعتمد ما يشبه الفلسفة ‘الثقافية’، المستندة إلى مقاربة ‘أنثروبولوجية’ عنصرية النبرة، في تفسير شيوع الرشوة والفساد في بلدان العالم الثالث: هذه ‘مكوس’ لا تُدفع للفرد وحده بل للقبيلة بأسرها، وثمة شبكة من المصالح المشتركة بين الأفراد والقبائل تستدعي تحصيل نصيب غير مباشر من الثروات، يُوزّع على أفراد القبيلة أو يُصرف في تحسين سُبل عيشها داخل المؤسسة الأكبر للدولة. ما تدفعونه، تخاطب المجلة كبار مستثمري الكون، ‘لا يذهب إلى الأفراد وحدهم، بل إلى جماعات أوسع نطاقاً، وبالتالي إلى الأمّة بأسرها في نهاية الأمر’!
فكيف إذا اختصر النظام الأمّة في عائلة، يمثّلها نفر محدود من ذئاب كاسرة، تدير قطيعاً من قطط سمان، تتولى بدورها تشغيل جمهرة من أدوات التنفيذ، في نظام تختلط فيه المزرعة بالجمهورية الوراثية، ولا يتكامل فيه الفساد إلا على يد أجهزة الإستبداد؟
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –
هاد كلام جميل جدا و كله حقائق بس و الله نحنا الشعب صار عنا حالة يأس مستفحل و ما النا غير الله
برأيكن يا ناس شو هو الحل؟؟؟؟؟؟