حتى لا تتحول العلمانية الى أصولية
خالد غزال
من الشائع اليوم في الحديث عن الاصوليات، التركيز على الاصوليات الدينية، وخصوصا الاسلامية منها، بالنظر الى احتلالها موقعا سياسيا متميزا في الصراعات الدائرة داخل المجتمعات العربية والاسلامية، او على الصعيد العالمي بعد العمليات الارهابية التي جرى تنفيذها في اكثر من مكان في العالم الغربي. تتسم هذه النظرة بالاختزال والتبسيط، وتحمل في الآن عينه شيئا من الانحياز ضد دين محدد ومجتمعات معينة. فالأصولية بمعناها الواسع والشامل تتجاوز الثقافة السائدة حولها لتجد نفسها متموضعة في مناحٍ عديدة، تبدأ من الانسان الفرد نفسه، في نظرته الى الامور وفي التعاطي مع الآخرين، وتمتد لتطول بالتاكيد ما يحمله الفكر الديني، وتتوسع اكثر لتشمل الحركات السياسية والايديولوجية على السواء.
عندما يأخذ تعريف الاصولية ما يتجاوز التعريف الديني، فيمكن القول انها منظومة من الافكار والمفاهيم المتحولة الى ايديولوجيا، تلتزمها تيارات سياسية او دينية، ويؤمن بها الفرد ويعمل باندفاع لترجمتها في الواقع. تستند الاصولية في وصفها ايديولوجيا الى ثوابت نظرية ومسلمات تنطلق منها، اهمها تشكيل رؤية شاملة للعالم، تدعي بموجبها امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكارها، وتؤمن لها اصطفائية تميزها عن البشر الاخرين. تعطي هذه الرؤية الشمولية للاصوليات وهما واعتقادا ايمانيا ترى بموجبه انها قادرة على تأمين حلول لمشاكل البشرية وخلاصا لها من معضلاتها. قد لا تشكل الافكار الاصولية في حد ذاتها خطرا اذا ما بقيت في ميدانها النظري، لكنها تتحول الى قوة مادية تهدد المجتمع وتتسبب له في حروب ونزاعات داخلية، وذلك عندما تنجذب الى مشاريع سياسية، وتأخذ على عاتقها انقاذ المجتمع او تغييره وفق الرؤية الايديولوجية التي تنطلق منها. تحمل الاصوليات في معظمها مشروعا سياسيا يهدف الى قولبة المجتمع بدءا من الفرد وصولا الى المجموع، ويتسم هذا المشروع بالرؤية المتشددة التي ترفض الخيار الديمقراطي وتسعى الى تكريس وحدانية السلطة، وترفض الاخر والتعددية في مختلف اشكالها. لذا تبدو مشاريع الاصولية مفعمة بالتعصب، يهيمن على فكرها جمود عقائدي يمنع التواصل والاحتكام الى العقل وحق الاخر في التعبير، وصولا الى تكفير وتخوين من لا يتوافق مع طروحات هذه الاصولية. تسببت الافكار التي حملتها الاصوليات، في الماضي والحاضر، عندما امكنها استلام السلطة في اكثر من مكان، في استخدام العنف وسيلة لتحقيق اهدافها ومشاريعها. في هذا المجال،لا يمكن قراءة الحروب العالمية والاهلية في معزل عن هذه الافكار والمفاهيم، التي «تلهم» السلطات الحاكمة، وتحدد لها مسار نهجها وسيرها في ممارسة السلطة، وهي حروب ادت الى تدمير المجتمعات عالميا والى تمزيق النسيج الاجتماعي في كل بلد وصلت فيها الى السلطة.
ولأن الاصولية تحتل اليوم هذا الموقع الهام في الحياة السياسية والثقافية، كثرت الاقتراحات والمشاريع الساعية الى الوقوف في وجهها ومنع تفاقمها وصولا الى استئصالها. تبدو الردود العنفية هي الاكثر رواجا منذ سنوات، من دون ان تتمكن من الوصول الى نتائج حاسمة في الحد من تصاعدها. لا تواجه الاصولية بالعنف المادي، ولانها حصيلة تناقضات داخلية وخارجية من قلب المجتمعات التي نشأت فيها، ونتيجة عوامل تسبب بها الخارج، والتي تتقاطع عند قهر الشعوب ونهب ثرواتها وابقائها اسيرة الجوع والبطالة والتهميش والفقر والاضطهاد السياسي والقمع الفكري.. بمعنى اوسع، اسيرة التخلف المتعدد الاوجه، فان الجواب على الاصولية يجب ان يكون جوابا مجتمعيا يطول الاسس التي ولّدت هذه الاصوليات.
يشكل الاصلاح السياسي والاجتماعي والتنمية البشرية الواسعة والثقافة السياسية والمدنية، احد عوامل التصدي لهذه الاصولية. تطرح العلمانية نفسها حلا يطال السياسة بشكل كامل، كما يطول العلاقة بالدين وفصله عن السياسة. يثير الحل العلماني نفسه معضلة اذا لم يقترن بشروط تضعه فعلا في مواجهة الفكر الاصولي. يستند التحفظ الى ان العلمانية التي جرى تطبيقها في اكثر من مكان تحولت الى اصولية شبيهة بالاصولية الدينية لجهة الاسس التي قامت عليها والممارسة التي طبقتها. في الاتحاد السوفييتي السابق ومعه دول المعسكر الاشتراكي، جرى تطبيق للعلمانية باوسع معانيها، لجهة الفصل بين الدين والدولة، كما ان تركيا في عهد مصطفى كمال طبقت هذه العلمانية ايضا، والامر نفسه عرفناه في تونس على عهد الرئيس الحبيب بورقيبة. في الحالات الثلاث، هيمنت الدولة على الدين بديلا عن الفصل بينهما، وفق المبدأ العلماني الذي يعطي الحرية للدين من دون ان يكون محددا للسياسة. وفي الحالات الثلاث تحولت العلمانية الى دين جديد هو الالحاد، واستند الى ما يناقض الديمقراطية، لذا لم يكن خارج المألوف نعت هذه النماذج بـ «العلمانية الاصولية». فما الذي يمنع العلمانية ان تسلك سبيلا اصولياً؟
ان اقتران العلمانية بالديمقراطية يعتبر الشرط الرئيسي والضروري لانتاج برنامج سياسي وثقافي يمكن ان يساهم في توليد فكر يتصدى بحق الى المفاهيم الاصولية والى الدعاة الذين يبشرون بهذا الفكر.. اول هذه الشروط ان تعي العلمانية موقعها بضرورة فصل الدين عن الدولة، ووضع الدين في مكانه الروحي والانساني والعقيدي، واعطاء الحرية في الايمان او عدم الايمان، وفي الاعتقاد والالتزام الديني وفق حرية الانسان وخياراته، ومنع السلطة من الهيمنة على الدين.. وثاني هذه الشروط يتصل بتحكيم العقل في تفسير قضايا الطبيعة والمجتمع بعيدا عن الاستناد الى الفكر الغيبي او الاساطير والخرافات.. وثالث هذه الشروط توفير الحرية الشخصية والسياسية وحرية الرأي والتعبير، سواء اتخذ ذلك طابعا فرديا او عبر الحركات السياسية او المجتمع المدني. رابع الشروط القبول بالاخر كما يعبر عن نفسه والعيش سويا ولكن مختلفين، واحترام الرأي واستخدام الحوار وسيلة لحل المعضلات..
ان ما جرت الاشارة اليه كشروط لعلمانية منفتحة وغير اصولية، هي في الواقع مبادئ يقوم عليها تحقيق الديمقراطية، ما يعني ان مواجهة الفكر الاصولي تقع في حدي العلاقة الجدلية بين الديمقراطية والعلمانية والاقتران بينهما والعمل المشترك لتحقيقهما، وهو امر يسمح بتوليد ثقافة سياسية بعيدة عن العنف وقابلة لان تؤسس لفكر يمكن له اختراق الفئات الشعبية على مستوياتها المتعددة.
كاتب من لبنان