العرب بين الواقعية و”الوقوعية”
عمّار علي حسن
لا أحد ينكر ضرورة التفكير بواقعية في السياسة، المحلية والدولية معاً، ولا يمكن تجاهل أن الشحن المعنوي الذي أراد حشد الجماهير خارج الواقع طالما انتهى إلى كوارث، في الحالة العربية وغيرها. ولكنّ هناك فارقاً كبيراً بين الواقعية كمنهج سياسي عملي، قائم على حسابات دقيقة، وإدراك وفهم عميقين للمعطيات الحياتية، يرمي إلى تحويل الخسائر إلى مكاسب، والضعف إلى قوة، وإلى استغلال الركائز والمقدرات المتاحة مهما كانت قليلة في حل المشكلات الموجودة، وبين الوقوعية التي تعني الارتكان إلى رد الفعل، والالتصاق بالأرض، وافتقاد الفاعلية، والاكتفاء بدفع بعض الضرر، وإنجاز ما يفضي إلى مجرد الاستمرار في ظل ضعف بنيوي وهوان، والتذرع إما بأن هناك “مؤامرة” تحاك ضدنا، أو أنه ليس في الإمكان أفضل مما يبذل من جهد وما يتحقق من نتائج، أو أن أي حركة إيجابية، حتى ولو بدرجة منخفضة، ستنظر إليها القوى الكبرى في العالم على أنها تحدٍّ وعناد، ومن ثم ستسعى إلى “تأديب” صاحب هذه الحركة.
والواقعية السياسية مدرسة ذات شأن في العلاقات الدولية، عليها قامت أمم وتكونت إمبراطوريات، وأراد لها منظرها ومفكرها الأول هانز مورجنثاو، أن تكون إطاراً لتفكير عقلاني في حساب القوة وتعزيزها.
ولا تقوم الواقعية على حساب ركائز القوة المادية الملموسة، العسكرية والاقتصادية والتقنية، فقط، بل تمتد إلى ما يسمى “القوة الناعمة”، التي تتمثل في الحنكة الدبلوماسية، وديمقراطية نظام الحكم، والثروة البشرية، التي يراكمها نظام تعليمي ناحج وعصري، يحقق بمرور السنين مكانة متعاظمة لأهل العلم والفكر والأدب، وقدرة مستمرة على إنتاج أشكال من الفن تنافس عالمياً، وإفراز كوادر رياضيين يحققون إنجازات ملموسة، مثلما حدث في غانا مؤخراً.
إن التاريخ طالما شهد نماذج لدول أوجدت لنفسها مكاناً على خريطة العلاقات الدولية بفعل حسن توظيفها لقدراتها الناعمة. فالدبلوماسيون المحنكون أمكنهم أن يجلبوا احترام العالم للهند في حقبة ما بعد الاستقلال، وقت أن كانت بلادهم، تعاني من ضعف اقتصادي وعسكري. واليوم يلعب تقدم الهند في تكنولوجيا الاتصالات الدور نفسه. والصورة الذهنية العامة عن العقلية اليابانية جعلت اليابان تحظى بمكانة عالمية، خاصة بعد استخدام هذه العقلية في خدمة الصناعة والإنتاج والإدارة المتطورة، على رغم أن اليابان دولة بلا ذراع عسكرية قوية. والنظام القضائي لبلجيكا يمكنها من لعب دور دولي لا يتوافر لغيرها. والدور المحايد الذي تلعبه سويسرا جعلها مقصداً لحل الكثير من الصراعات والمشكلات الدولية، ومركزاً لجذب رؤوس الأموال الطائلة. وقائد كاريزمي مثل مانديلا جعل بلاده تحظى باحترام دولي سريع بعد طول استهجان ونبذ إبان الحكم العنصري. ورئيس مثقف مثل سنجور لفت الانتباه إلى السنغال بشدة حين كان يحكمها. وفضلا عن تنامي اقتصادها فإن وجود حاكم يمتلك رؤية دولية ولديه مواقف مشهودة في مقاومة الهيمنة واحترام الخصوصيات والاستقلالية مثل مهاتير جعل لماليزيا دوراً ملموساً، على الأقل على الصعيد الإسلامي. والأديب جارسيا ماركيز الفائز بجائزة نوبل جعل العالم يعرف أن كولومبيا ليست مكاناً فقط لتجارة المخدرات، وكرة القدم جلبت للبرازيل شهرة ومكانة، لم يكن بوسعها أن تحققها من خلال الركائز الصلبة للقوة، كالاقتصاد والقدرات العسكرية وغيرها. وبوسع التاريخ الحضاري أن يجلب المكانة والاحترام الدوليين، شرط حسن توظيفه في خدمة الحاضر، وليس الاكتفاء بالوقوف عند حديث الذكريات عن المجد الحضاري في الأزمنة الغابرة.
ولا يعني هذا أبداً إهمال الركائز الصلبة للقوة، فكثير من الدول السابق ذكرها، اهتمت ببناء اقتصاداتها وقدرتها العسكرية، على التوازي مع تعزيزها الركائز الناعمة للقوة، خاصة أن هناك تغذية مرتدة، أو تبادل منافع، بين جناحي القوة هذين. فمع انتعاش حركة التصنيع العسكري وتعزيز معدلات النمو الاقتصادي وتنويع قاعدة الإنتاج، يتم رفع كفاءة الأفراد، من الناحية المهنية، باكتساب مهارات جديدة والإلمام بتقنيات حديثة. كما يجري على التوازي تعزيز القيم الاجتماعية الإيجابية، مثل الإنجاز والانتماء والتنافس والانخراط …الخ، وهي جميعاً من أوجه القوة الناعمة.
وحتى تكتمل عملية البناء لا ينبغي التوقف عن لعب أي دور دولي، أو العجز عن هذا الفعل، بدعوى أن الدول لا تزال في مرحلة تشييد قدراتها، أو ترميم ما تداعى من قوتها. فالدول التي تستكين لعجزها المؤقت أو تستسلم لحالة ضعف ألمت بها، وتفضل الانسحاب من الأدوار المنوطة بها، تخسر مكانتها بسرعة، خاصة إذا كان هناك من يعول على هذه الدول إقليمياً أو دولياً في أن تمارس سياسات ناجعة في محيطها، وتشكل رقماً في المعادلات الدولية لصالح قضايا تخدم مصالحها الوطنية وأمنها القومي.
وكثير من الدول العربية لديها من مصادر القوة الناعمة ما قد تجهله، أو تهمله، أو تتلكأ في استخدامه، لحجج واهية، أو تفشل في توظيفه لخلل في الإدارة أو وهن في الإرادة. ففضلا عن القوة البشرية غير المستغلة ومن بينها شخصيات حازت صيتاً عالمياً، توجد الطاقة الروحية الدافعة المتمثلة في ميل العرب عامة إلى التدين، ويتوافر الدبلوماسيون المحنكون الذين أثبتوا، وقت أن تركت لهم حرية الحركة والاجتهاد، قدرة فائقة على كسب معارك التفاوض السلمي، وهناك خبراء في مجالات شتى، وحركة أدبية وأنشطة فنية عاشت نابضة عفيّة عدة عقود، قبل أن ترشح عليها سلباً الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة.
ومن الأفضل أن نشرع في استغلال ما لدينا من مصادر القوة الناعمة حالياً، وتعزيز الموفور منها مستقبلا، بدلا من الاستسلام لضعف قوتنا “الصلبة”، وانعدام طموحنا إلى أن نكون فاعلا دولياً قبل أن نخرج من الباب الخلفي للتاريخ.
الاتحاد