ماذا بعد الطائف والدوحة؟
خليل حسين
في العام 1998 وعند انتخاب الرئيس اميل لحود رئيسا للبنان، كانت ازمات لبنان والمنطقة تتراكم وتنذر بشر مستطير رغم ان الكلام عن تفجير الواقع اللبناني في تلك الفترة كان نوعا من التبصير، لكن التدقيق في بعض السوابق اللبنانية كان يثبت ما كنا نتوقعه او نتحدث عنه والذي كان يقابل باستهجان. واليوم انكشفت الأمور فما هي خلفيات الازمة الحالية؟ وكيف تدار الآن؟ وهل من طريق لحلها عبر اجتماعات الدوحة؟
اولا في الوقائع ثمة ثغرات بل فجوات كبيرة في السياسات التي اتبعت بعد اتفاق الطائف على الصعيدين الداخلي والخارجي، ازمات دستورية متلاحقة يتداخل فيها الدستوري بالطائفي وحتى المذهبي، حلول على قاعدة تقطيع الوقت بأقل الخسائر الممكنة. في المقلب الآخر سياسات خارجية وتحالفات وعلاقات تعكس تباينات الشرائح اللبنانية في نظرتها والتي تتقاطع مع سياسات المحاور العربية والاقليمية التي لا تتقاطع الا على مصالحها الخاصة وعلى حساب لبنان تحديدا. عدم اتفاق واضح وجلي على وضع لبنان في الصراع العربي ـ الاسرائيلي وبالتالي دوام بقاء سلاح المقاومة سؤالا مطروحا من قبل الأكثرية وبخاصة بعد عدوان 2006 على لبنان.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري تغيرات دراماتيكية حدثت وكأنها كانت تنذر بمنعطفات كبيرة في تاريخ لبنان السياسي القادم، وكان ابرز ما في هذه الانعطافات مصير المقاومة وسلاحها بالترافق مع ضغوط المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تراكمت المطالب والضغوط الداخلية والخارجية الى ان وصلت الامور الى مكان يصعب التراجع عنه لكلا فريقي المعارضة والموالاة، فكانت مناسبات عدة للصدام المسلح بين الطرفين، الى ان توجت بقراري الحكومة الشهيرين لتفجر الوضع ولتؤكد الشر المستطير الذي نبه منه اكثر من طرف سياسي لبناني وإقليمي. وفي هذا المجال نذكر الملاحظات التالية ذات الصلة بالصراع القائم حاليا ومن بينها:
ـ ثمة خلاف وصل الى حد الصراع حول تحديد موقع لبنان في الصراع العربي ـ الاسرائيلي وبالتالي تحديد موقف المقاومة من سلاحها بعد القرار 1701 وغيره من القرارات ذات الصلة بالوضع اللبناني.
ـ ثمة متغيرات كثيرة طرأت على ادوات الصراع ودوافعه ودعائمه ودخول أطراف عربية وغير عربية مباشرة في الازمة القائمة، وباتت الشروط والمطالب اضخم واعظم بكثير من سابقاتها إبان الحرب الاهلية بين الاعوام 1975 و.1990
ـ ثمة تداخل وسباق محموم بين مشاريع كبرى في المنطقة انقسم اللاعبون الفرعيون فيها بين مراكز اقليمية ودولية فاعلة لا تتيح للاطراف اللبنانيين التحرك بسهولة في واقع ازمتهم.
ـ انفجار الازمة اللبنانية في التوقيت القاتل انتخابات رئاسية اميركية، تضعضع الحكومة الاسرائيلية وترنح رئيسها ايهود اولمرت، انقسام عربي واضح بعد قمة دمشق بين معتدلين وممانعين. غياب واضح للاطراف الاخرى كالاوروبيين. تهاوي الاميركيين في المنطقة بدءا من افغانستان مرورا بالعراق وصولا الى لبنان.
وفي ظل الوقائع السالفة الذكر اتت اللجنة العربية برئاسة قطر لتحاول الولوج في الحل فما هي حظوظها وهل بالامكان الركون الى جهودها فقط؟ في الواقع ما اعلن من بيان بعد سلسلة لقاءاتها مع الاطراف المعنيين لا يعدو كونه بيان حسن نوايا من دون التطرق الى الاطر الحقيقية للحل وذلك للعديد من الاعتبارات من بينها:
ـ صحيح ان الحوار هو السبيل الوحيد للوصول الى الحل المرتجى كما يدعي الجميع لكن هل الاطراف اللبنانية بجميع مكوناتها تمتلك القدرة على اتخاذ القرارات منفردة وتنفيذها يبدو ان ذلك متعذر حتى اشعار آخر، فانطلاق الحوار في الدوحة اشارة مهمة لكنها ليست كافية، اذ لم تستبع بخطوات اقليمية ودولية باتجاه ترك اللبنانيين وشأنهم وهذا الامر ايضا ليس متوفرا الآن.
ـ إن المواضيع المطروحة للحوار ومنها حكومة الوحدة الوطنية وقانون الانتخاب وانتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية تبدو منطقية التسلسل من وجهة نظر المعارضة لكنها غير قابلة للتطبيق في اطار حوار محدود التوقيت والامكانات، فحكومة الوحدة الوطنية سبق ان نوقشت مطولا حتى ضمن اطار المشروع العربي اي المثالثة ولم تر النور، وسبق ان اتفق على العديد من مشاريع قوانين الانتخاب ولم يتخذ فيها القرار اللازم رغم موافقة الاطراف اللبنانية الاساسية على معظمها، وكذلك الامر بالنسبة للعماد ميشال سليمان المتوافق عليه والذي يؤجل انتخابه حتى الآن فكيف لو كان غير توافقي؟
ـ عمليا لقد تم اللجوء من جميع الاطراف الى الجيش اللبناني كملاذ اخير، لكن السؤال المركزي هل بمستطاع الجيش المضي في هذا السياق في ظل زجه في زواريب السياسة الداخلية اللبنانية ومتاهة السياسات الاقليمية والدولية في الوقت الذي يعلم الجميع وضعه الخاص وعدم قدرته تحمل المزيد من آليات الزج والحشر السياسي والعسكري والأمني وبخاصة ما ربط به من مشاريع ومخارج مؤخرا وكأنه يراد تحميله مسؤوليات الفشل الذي ينتظر حصوله في اول منعطف قادم.
ـ صحيح ان متغيرات قد حصلت في الواقع السياسي اللبناني مؤخرا لكنها غير قابلة للصرف السياسي في واقع الازمة الحالية وهي من النوع كالنفخ في البوق الذي لا يصل منه سوى الصدى، ذلك مترافق مع ثبات اقليمي ودولي في المواقع لا يتيح تغيير قواعد اللعبة الخارجية ولا الداخلية، الامر الذي لا يبشر من الناحية العملية باختراقات ذات وزن في حوار الدوحة، وهو في أحسن حالاته سيعيد انتاج واستنساخ قواعد اللعبة الداخلية منذ تسلم حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مهام رئاسة الجمهورية.
إن واقع الازمة اللبنانية الحالية التي وصلت الى حد غير مسبوق حتى في حفلات الصراع السابقة لم تعد قابلة للحل في اطر حوارية تقليدية، فظروفها ووقائعها ومتطلبات ظروف حلها باتت اعقد بكثير من السابق، فباتت مرتبطة بأسس جديدة متعلقة بطبيعة النظام وسياساته الداخلية والخارجية، وصحيح ان هذا الواقع كان شرطا في السابق إلا انه بات اليوم شرطا ضروريا للحل، فهل اكتملت ظروفه؟
داخليا محتوى النظام السياسي فصل على مقاسات اطراف بعضها لم يعد موجودا بالمعنى السياسي، وبعضها الآخر اعطي في ظله اكبر من حجمه الواقعي، فيما البعض الثالث تمدد دوره على حساب اطراف آخرين، في الوقت الذي عانت آليات النظام ومنها الدستوري خللا فاضحا وواضحا، وفي الوقت الذي كانت فيه الطوائف والمذاهب تبحث في هذا الخلل عن فجوات اخرى فيه لتزيد استثماراتها في خلاله وتساعد في تهاويه، وعليه بات الكل مقتنعا في السر قبل العلانية ان الطائف ضاق على مقاس البعض وترهل على البعض الآخر لكن احدا لم يتجرأ حتى الآن على البوح صراحة بما يريد، فالظروف لم تنضج لذلك فإن حوار الدوحة الحقيقي مؤجل الى توازنات جديدة تتيح الجهر بما هو غير معلن. خارجيا، الطرف الدولي الفاعل في سياسات المنطقة دخل كوما الانتخابات الرئاسية، ففي واشنطن من الصعب ايجاد معادلة سياسية يمكن استثمارها السياسي في الانتخابات من قبل الجمهوريين او الديموقراطيين في واقع الازمة اللبنانية، وربما تعتبر هذه الازمة حاليا كالجمرة التي يصعب التقاطها واستثمارها، وبالتالي ترك الامور عما هي عليه افضل الممكن. في الوقت الذي يمكن استثمار الواقع اللبناني الحالي بشكل جيد من الاطراف الاقليميين في الوقت الضائع، فلماذا يكون الحل في الدوحة وفي هذه الظروف تحديدا؟
إن القراءة الدقيقة لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر تفضي الى ثابتة مؤكدة مفادها ان لا حل لأزمات لبنان المتلاحقة من دون توفر شرطين اساسيين، الاول توازنات اقليمية ودولية مستجدة تراعي المصالح المتبادلة في واقع ملفات الصراعات القائمة في المنطقة وهي في طور التشكل ولم تبلغ نهاياتها المرجوة، والثاني متعلق بالاطراف الداخلية التي ينبغي ان تستنفد قواها في حروبها الداخلية على قاعدة حرب «داحس والغبراء» وهي في بدايتها.
ثمة ادارة جديدة في الولايات المتحدة الاميركية تطل برأسها وتحمل مشاريع سلام عربية اسرائيلية بدأت طلائعها في الظهور، الامر الذي يستلزم دخانا كثيفا في المنطقة، فهل بدأ اضرام النار في لبنان كالتي سبقت زيارة السادات للقدس، وهل بإمكان الاطراف اللبنانية لعب الدور نفسه؟ وأي ثمن سيدفعه اللبنانيون؟ ربما هو سؤال جريء يستحق الاجابة سريعا لكن الاكيد لن يكون في حوار الدوحة، بل في اروقة السياسات الدولية والاقليمية التي تجيد استثمار الاوطان المشرعة على كافة الاحتمالات.
([) أستاذ جامعي