مشاهد على هامش الحجاب
إبراهيم فرحان خليل
من أكثر المناظر شذوذاً التي يمكن للمرء مشاهدتها في شوارع بعض المدن العربية منظر رجل بلحية خفيفة أو كثيفة يرتدي الجينز وإلى جانبه امرأة دون لحية مغطاة بعباءة سوداء من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها، لا تكاد المخلوقة التاريخية تتبيّن طريقها لولا إرشادات الديك المودرن الذي يتقدّمها بخطوة أو أكثر، لا يلتفت إلى وجهها أو يكلّمها إلا إذا دعت الضرورة.
هذا الديك الذي يبيح لنفسه أن يخالف زيّ رسول الله والصحابة الكرام، ويجبر زوجته على الاقتداء بزيّ أمّهات المؤمنين، هو ذاته الذي يبيح لنفسه من المكروهات والموبقات ما يحرّم عشر معشاره على امرأته، ويقفل على حريمه بسبعة أقفال قبل أن يخرج للتنزّه في سوق النسوان. يحمد الله في اليوم الواحد ألف مرّة على أن خلقه مسلماً موحّداً، وأكثر ما يعجبه في الإسلام أنه دين ذكوريّ مفصّل على قياسه يسمح له بفرض إرادته السامية على أمّه وأخته وزوجته وهو مأجور مثاب في ذلك. قد يستخرج فتوى لتسريح أمّ عياله على أهون سبب أو استحضارها إلى بيت الطاعة على الرغم منها، وقد يستخدم الشرع في الزنا المقنّع والتسرّي ونكاح المتعة والزواج من أربع، وسوى ذلك من متع “الذبذب” بلغة عمر بن الخطاب.
وليس ذلك بالطبع حال الإسلاميّ المتديّن الذي يرتدي الجبّة والعمامة والشروال القطنيّ الأبيض، ويحمل في يده مسبحة، وعلى رأسه قبعة بيضاء صغيرة مغربلة وفي جيب قميصه سواكاً إذا كانت المرأة التي ترافقه محجّبة بالكامل، لأنّ الزوج هنا متوافق ومنسجم مع نفسه ومعها، وإن كان كلاهما عابرا للزمان وربّما للمكان، بل قد يكون الرجل من الورع بحيث يساويها بنفسه في الحقوق والواجبات باستثناء أن يفرض الحجاب على نفسه.
كم مرّة زرت أحد أصدقائك القدامى في هذا الزمن الرديء ففوجئت به وقد فرض الحجاب على بناته في سنّ السادسة أو السابعة؟! وكم مرّة صادفت في الشارع إحدى قريباتك المسنّات وقد أرخت على وجهها النقاب فلم تعرفك ولم تعرفها؟! وكم مرّة دخلت قاعة الامتحان لتفاجأ بأنّ نصف الطالبات يرخين على وجوههنّ، ولا يسمحن للمراقب بمقارنة صورة الوجه بصورة الهوية الشخصية الموضوعة على المقعد.
والقصة في أصلها أنه منذ أربعة عشر قرناً ضايق بعض سفهاء اليهود إحدى نساء الرسول “سودة بنت زمعة”، وحين أراد الرسول معاقبتهم احتجّوا بعدم معرفتهم إيّاها فرأى الرسول، بعد استشارة أصحابه، أن يقطع الطريق على اليهود الملاعين ويأمر نساءه بوضع الحجاب كشارة مميّزة يعرفن بها من بين سائر نساء المسلمين، ونزل القول الإلهيّ مصدّقاً “ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين” الأحزاب59. وكان من نتائج التطوّر الإسلامي السلحفاتي أنه بعد أربعة عشر قرناً من قبض الرسول ووفاة أمّ المؤمنين وهلاك سفهاء اليهود قلب الإسلاميون الآية رأساً على عقب، وحوّلوا الحجاب إلى وسيلة لعدم التعرف على النساء درءًا للفتنة، وتوسّعوا فيه أكثر؛ فجعلوا منه مظهراً من مظاهر الحفاظ على الذات وعنصراً رئيسياً من عناصر الهوية تعرف به الأنثى المسلمة من غير المسلمة، خاصة في بلدان المهجر في مواجهة ثقافات الأمم الأخرى على إثر الموجات الأخيرة من الفتوح الإسلامية المباركة باتّجاه أوربا وأمريكا، والتي تسبّبت فيها بشكل رئيسيّ، وربما وحيد، الأنظمة العربية المستبدّة منتجة القمع والفقر والإسلام الأصوليّ معاً.
ولمّا كانت بلاد الشرك تبيح لمن شاء فعل ما يشاء بشرط عدم الضرر، فقد طاب للمهجّرين الإسلاميين الإقامة فيها، فراحوا ينشئون أحزابهم وروابطهم وجمعياتهم ومنظّماتهم الإسلامية والخيرية والجهادية التي تنشر الحنفية باستخدام أحدث أساليب المشركين الدعائية، وبدورهم تأقلم فحول المسلمين من أنصار الحجاب مع واقع الحال، واستفادوا من مفاهيم الحرية الشخصية وشرعة احترام الرأي الآخر في تبرير وفرض تغطية كامل الجسد البشري بالسواد، ثم نشر تلك الكائنات في شوارع ومدارس فرنسا وأمريكا، فأصبح من الشائع أن ترى داعية فصيحا وبضّا ومترفا تصل به الحماقة والدوغمائية معاً إلى درجة تضييع وقت جماعة المصلين في المسجد أو المشاهدين في التلفزيون في وصف المستحبّ والمكروه من أنواع الحجاب، وألوانه وقياساته وطريقة وضعه ونزعه. ووصلت به القحة إلى درجة وصف السافرات، وهو مقيم في بلادهنّ، بأقبح النعوت والإفتاء بمروق من يقلدهنّ من الدين وخروجهن من الملّة.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قلب الغرب للمسلمين ظهر المجنّ، وتعرّض عموم المسلمين للمضايقات، وأصبحت إطالة اللحية وإسدال الحجاب في نظر الأوربيين والأمريكان بمنزلة إشهار سلاح في الشارع، ونتج عن ذلك الكثير من الحوادث المؤسفة لم يكن آخرها قتل صيدلانية مصرية في ألمانيا على يد جرمانيّ متطرّف تعرّف عليها من خلال حجابها قبل أن تتعرّف المغدورة على روح الآية 59 من سورة الأحزاب.
أمّا أخواتنا الجليلات من الداعيات الإناث، فلا أجد وصفاً أجمل ولا أدقّ من وصف أستاذنا المرحوم خليل عبد الكريم لهنّ بـ(الكهلات الشهلات عاشقات القيود)، اللواتي يكرهن أنفسهنّ وجنسهنّ كرهاً أعمى يصل بهنّ أحياناً إلى التطلّع إلى الذكورة والرغبة في الاسترجال، لا لشيء إلا ليردّدن خلف أيّ يهوديّ متزمّت دعاءه الصباحيّ المضحك: “الحمد لله الذي لم يخلقني امرأة”.
ولم يعد من المستغرب خاصة بعد موضة اعتزال الفنانات المصريات ودخولهنّ جنّة الحجاب، وتحوّلهن من نجمات شبّاك إلى خطيبات في الحريم الفضائي المتحلّق حولهنّ يطلبن الفتوى ويسألن المشورة فيما أشكل عليهم من شؤون دينهنّ ودنياهنّ، أن ترى من كانت بالأمس تعرض من لحمها أكثر ممّا تخفي، وتختار بضاعتها من أسفّ الكلام وأكثره شوارعية، تراها اليوم وقد لبست وجه الورع والتقى وأمست من النورانية ألمع من قضيب النيون، ومن الزهد والقناعة أسمح من ذئبة هرمة، لا تريد أن تقنعك إلا بشيء واحد هو أنها نادمة على ما فرط من أمرها في ممارسة الفنّ الحرام، وأنّها لم تعد ترجو من هذه الدنيا الفانية سوى قضاء الوقت في التعبّد لنيل رضاء الله واللحوق برسوله الكريم في الجنة. لو توقّف الأمر عند هذا الحدّ لما وجدنا فيه ما يدعو إلى الخوف والتوجّس، ولردّدنا مع المردّدين أنّ حريات الناس أثمن من أن نحجر عليها بدعوى العلمانية والعقلانية، ولكن المرعب بالفعل هو أنّ إخوتنا الإسلاميين الجدد المتخرّجين من مدارس إخوتنا القوميين والإخوانيين القدامى، أصحاب مشروع شموليّ تصديريّ مصبوب في قالب مصمت واحد لا يحول ولا يزول، وهم مصمّمون بشكل جادّ على أسلمة الكرة الأرضية وإغلاق مصانع شفرات الحلاقة وإفراغ الشارع والمؤسّسات من النساء. وها هم وقد أدركوا أنّ عليهم مدّ النار بالحطب قد افتتحوا عدّة قنوات فضائية موجّهة خصيصاً للأطفال، لا ترى في أيّ من برامجها المتنوّعة وجه امرأة واحدة، بل بنات صغار دون العاشرة وقد ارتدين حجاب التقى وهنّ يغنّين بأصواتهنّ الرقيقة أغنية تتغزّل بالحجاب، وتدعو إلى الاقتداء ببنات الرسول (اللواتي لم يكنّ يرتدين الحجاب وهن في تلك السنّ بالطبع!!).
خرجت الدعوة في القرن السابع من بيت متواضع في مكة، حيث يلتقي الرجال بالنساء يومياً وفي كلّ مكان، ويلبس الناس ما يناسبهم ويروق لهم ويلائم عصرهم، ويعرضون الدين على العقل، والشريعة على الشورى، لتنتهي هذه الدعوة في القرن الواحد والعشرين على شاشات الفضائيات العاملة ليلاً نهاراً من أجل دفنها ولمّا يزل بها رمق.
موقع الآوان