التكفيــر أم الحــوار؟
د. حسن حنفي
تعددت ظواهر التكفير في حياتنا المعاصرة. وتخصص في ذلك بعض مشايخ الفضاء، الطامعين في الشهرة والسلطة. وحولوا المعركة من الخارج إلى الداخل، من الصهيونية والاحتلال، من فلسطين إلى مصر قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي التي قادت حركات التنوير في القرنين الأخيرين، في إطار مخطط التجزئة والتفتيت بداية بالتكفير ونهاية بالاقتتال وسفك الدماء في العراق والسودان والصومال وأفغانستان وباكستان.
والتكفير أحد مظاهر التسلط الديني والعقائدي والمذهبي والطائفي باسم “الفرقة الناجية” ضد الفرق الضالة الهالكة طبقاً للحديث المروي من القدماء، والذي يشكك بقوة في صحته علماء كبار منهم ابن حزم والعز بن عبدالسلام. لا فرق بين التسلط الديني والتسلط السياسي. الأول عن طريق التكفير والشق على قلوب الناس، والثاني عن طريق الأمن والتفتيش في المنازل. الأول يعتمد على القدماء وما استقر في التراث ووقر في أذهان الناس وتحول إلى دين شعبي. والثاني عن طريق أجهزة الأمن والاعتقال وقوانين الطوارئ والإخلال بالوحدة الوطنية.
والقدماء فرق عديدة. فالاجتهاد أحد مصادر التشريع. والصواب متعدد. وقد نشأ حوار داخلي بين الاتجاهات الإسلامية المختلفة، فرق كلامية متباينة، مذاهب فقهية متعددة، مدارس فلسفية متعارضة، طرق صوفية متناقضة، مناهج للتفسير متباعدة. وهو أحد مظاهر الثراء في التراث الإسلامي. يتعايش الجميع في حضارة واحدة. بها المؤمن والملحد، المسلم والكافر، السني والشيعي، الأشعري والمعتزلي والخارجي، الشافعي والحنفي والمالكي والحنبلي، الظاهري والباطني، العقلي والقلبي.
والآن الكل يعاني من القهر السياسي والتسلط الحزبي، الحزب الحاكم، والطبقة المسيطرة، طبقة رجال الأعمال. فلماذا نضيف إليها القهر الديني، والتسلط الفكري، لا فرق بين رجال الأعمال ومشايخ الفضاء؟ كان تكفير القدماء تكفيراً للمعارضة السياسية، المعتزلة والخوارج والشيعة، باسم السلطة الدينية القائمة، الأشاعرة. فكان التكفير الديني مقدمة للاستبعاد السياسي. فلماذا لا يكون اليوم التحرر الديني مقدمة للتحرر السياسي؟ لماذا لا يتحرر الإنسان في الفكر قبل أن يتحرر في الفعل؟ لماذا لا تهتز السلطة الدينية حتى تهتز السلطة السياسية؟ هذا ما حدث في بداية الإسلام عندما هز عقائد الجاهلية فاهتز نظامها الاجتماعي.
إن من قال لأخيه أنت كافر فقد باء بها أحدهما. ويقر القرآن الكريم بتعددية الصواب (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). وإذا كان في قول تسعة وتسعين وجهاً من كفر ووجه واحد من الإيمان فإنه يُحمل على الوجه الواحد. ينتهي الرأي الواحد إلى التقليد والجمود وتكرار المحدثين للقدماء، والأواخر للأوائل. وهو ما نعاني منه هذه الأيام في جامعاتنا ومراكز أبحاثنا ورسائلنا العلمية. فالزمان متغير، والعصر يتبدل، وكذلك الفكر والرأي والمنظور. لا يمكن السير بساق واحدة، ولا رؤية العالم بعين واحدة، ولا التنفس برئة واحدة.
شرط التقدم العلمي هو توالي الافتراضات، والانتقال من افتراض لآخر. وكل افتراض ينطبق على دائرة في الطبيعة. وكلما اتسعت الدوائر اتسعت الافتراضات. لا يستبعد افتراض افتراضاً آخر بل يضمه. فالعلم دوائر متداخلة وكذلك الدين سواء بالنسبة للرؤية أو للجمهور، علماء ومؤمنين. يقوم العلم والدين معاً على الضم وليس الاستبعاد، الحوار وليس التكفير وإلا وقع الذهن البشري في التكرار والتقليد والجمود. بل إن الوحي نفسه تطور من نبوة إلى نبوة. وتوالي الأنبياء طبقاً لظروف كل عصر. والغاية واحدة، تحرر الفكر البشري من الأوهام. بل إن الشرائع تتغير في حياة آخر الأنبياء كما يدل على ذلك الناسخ والمنسوخ بتغير الواقع وتقدم الزمان.
وإن لم يحدث التجديد والتطوير والتحديث والاجتهاد من الداخل فإن البعض يترك القديم كله ويتجه إلى الجديد، يترك الموروث ويتبنى الوافد. أسهل عليه، وقد أثبت جدارته في تقدم الفكر الغربي. يتسم بالعقلانية وحرية الفكر والاعتماد على نتائج العلم والبرهان. يبدع ويجدد وينقد. يرفض السلطتين الدينية والسياسية، الكنيسة والإقطاع. ويقيم حياته على حرية الفكر والمواطنة. وقد أصبح نموذجاً للحداثة عند كل الشعوب وفي فجر النهضة العربية منذ قرنين من الزمان. ثم انتكس في منتصف القرن العشرين. ومعه انتكس الواقع العربي وارتد إلى ما قبله في العصر العثماني، التسلط السياسي والديني. وانقسم الوعي العربي إلى قسمين: أصولي يدافع عن القديم ويتشبث به ويجد فيه خلاصه، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها، وحداثي يدافع عن الجديد وينقطع عن القديم، يبدأ بما بدأ به الآخرون. ويقع الخصام ثم العداء وربما الاقتتال بين الطرفين كما هو الحال في الجزائر. وتضيع الوحدة الوطنية في الثقافة والسياسة لصالح التكفير الديني والتخوين السياسي.
إن الأسهل على التكفيريين قبول العلمانيين من الإسلام الوسطي المستنير، الذي تتبناه عامة الناس، إذ يسهل إخراج العلمانيين بجرة قلم واحدة، أنهم لا ينطلقون من الإسلام ولا يهدفون إلى عزته. وإنه في صالح العلمانيين أيضا تكفير مشايخ الفضاء للإسلام العقلاني المستنير باعتباره منافساً لهم في الاستنارة ومتميزاً عنهم بالارتباط القديم. فالإسلام المستنير مكفر علناً من مشايخ الفضاء وسراً من أفندية الثقافة. ومن الأصعب على التكفير الديني استبعاد الإسلام المستنير لأنه يقوم على نفس الأرضية، الإسلام، ويدافع عن تعددية الرأي ويرفض احتكاره. وهو جزء من المعارضة السياسية، فالمعارضة الدينية والمعارضة السياسية سواء. كما أن التسلط الديني والتسلط السياسي سواء.
هل الفكر جريمة؟ وهل البحث العلمي تهمة؟ من المدعي؟ ومن المدَّعى عليه؟ وما قانون الاتهام؟ صحيح أن الحسبة لم تعد في يد الأفراد بل في يد المدعي العام، إن شاء قبل وإن شاء رفض، ولكنها تظل سيفاً مسلطاً من بعض الدول ومن رجال الدين على رقاب المبدعين، مفكرين وشعراء وأدباء وفنانين. إن حرية الرأي جزء من الدستور ومن الحقوق الطبيعية للإنسان. لا يمكن سلبه أو نقضه. وإن لم تتم ممارسته علناً تتم ممارسته سراً.
غاية التكفير الشهرة والإعلام وإثارة الزوابع والكسب من قنوات الفضاء التي لا تجد ما تعيش عليه إلا الإثارة، الدين أو السياسة أو الجنس. والرد على التكفير بالدفاع عن الكُتاب والمفكرين هو نشر للبدعة، وانحراف بهموم الناس والإعلام إلى ما لا يفيد، وترك تهويد القدس وقضايا الفساد والقهر الداخلي. وما أسهل جر الناس إلى قضايا الدين. ولا يمكن توحيد فكر الناس وآرائهم ولكن يمكن توحيد أعمالهم مع الإبقاء على خلافاتهم النظرية. ممكن العمل في جبهة وطنية واحدة في برنامج عمل وطني مشترك من أطر نظرية مختلفة كما فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، في وضع الحجر الأسود في عمامته، وإمساك كل قبيلة بطرف منها.
هذا ليس دفاعاً عن شخص أو أشخاص أو دخولا في حادثة أو أحداث. بل هو دفاع عن تاريخ مصر، طه حسين وأمين الخولي ومحمد خلف الله حتى أحفادهم من الأدباء والكتاب والشعراء والفنانين والمفكرين والعلماء، وإبقاء على روح مصر وجذوة عقلها المستنير.
الاتحاد