بين حرية الإبداع وحرمة الدين
د. وحيد عبد المجيد
البدء دائماً من نقطة الصفر تقليد عربي سقيم. يحدث ذلك في كثير من المجالات، بما فيها نشاطات ينظمها مبدعون ومؤيدون لحرية الإبداع يُفترض أنهم يعرفون معنى التراكم وأهمية البناء على ما تم التوصل إليه من قبل. ثلاثة مؤتمرات عربية حول حرية التعبير والإبداع عقدت خلال الشهر الماضي في القاهرة والدوحة والجزائر، بدأت جميعها من نقطة الصفر وليس من حيث ما انتهت إليه أعمال ونشاطات سابقة.
القاسم المشترك بينها، كما كثير مما سبقها، هو إعادة إنتاج الموقف الذي يدعو إلى حماية حرية الإبداع والتعبير، لكن بدون مناقشة في العمق للمشاكل الأساسية التي تواجهها.
ورغم أن القيود التي تفرضها السلطة في كثير من بلادنا العربية على هذه الحرية صارت أقل من تلك التي تنبع من المجتمع، ما زال الخطاب السائد موجهاً ضد السلطة الرسمية في المقام الأول. وهذا خطأ في التشخيص يصعب في ظله التطلع إلى معالجة المشكلة الأكبر الآن، وهي كيفية المواءمة بين الحرية التي لا يزدهر إبداع بدونها والثوابت الدينية التي تبالغ قطاعات مجتمعية في تقدير ما يهددها، ويستخدمها البعض سلاحاً ضد الحرية.
لذلك تضيق مساحة حرية الإبداع الآن مقارنة بما كانت عليه قبل عقود. ففي عشرينيات القرن الماضي، كان بإمكان الدكتور طه حسين أن يناقش حقيقة وجود النبي إبراهيم عليه السلام في كتابه “في الشعر الجاهلي”، فيثير جدلاً ويتعرض لهجوم، لكن الأمر لا يلبث أن ينتهي بحفظ التحقيق الذي فُتح معه في النيابة العامة استناداً إلى أن البحث العلمي ينفي عن الكاتب القصد الجنائي في جريمة ازدراء الأديان التي اتهمه البعض بارتكابها.
وهذا هو المبدأ الذي يحكم التعامل مع الإبداع بأشكاله كافة في أية دولة مدنية. فلا تقييم للبحث العلمي كما لمختلف أشكال الإبداع في الدولة المدنية إلا بمعاييره وقواعده وأصوله. وينطبق ذلك على الإبداع الفكري والأدبي والفني وكل إبداع ينتجه العقل.
لكن هذا المبدأ صار غريباً في معظم بلاد العرب. فالإبداع يُحاكم بمعايير لا تمت إليه بصلة. وبات بإمكان كل من يزعم لنفسه حقاً في حماية عقيدة أو فضيلة أن يُكفّر الإبداع بحثاً وفكراً وأدباً وفناً، وأن يفَّرق بين باحث في العلم وزوجته أو يطلب بسحب جائزة عامة من شاعر أو يدعو إلى مصادرة كتاب أو مجلة.
وما الاختلاف بين الزمنين، في أحد أهم أوجهه، إلا تجسيد للعلاقة بين المدني والديني في التعامل مع حقل الإبداع على اتساعه. فقد طغى الديني على المدني في هذا المجال، بعد أن كان هناك من التوازن بينهما ما يكفل حماية الإبداع، ويمكَّن في الوقت نفسه من المحافظة على قدسية العقائد الدينية.
ولا يمكن استعادة هذا التوازن بدون إعادة الاعتبار إلى مبدأ تقييم ومناقشة، وحتى محاكمة، الأعمال الإبداعية بمعاييرها ومناهجها وليس بقواعد يضعها من لا يمتلك القدرة على إبداء الرأي فيها ولا حتى على فهمها، ويطبقها كل عابر سبيل بصورة عشوائية.
ولتوضيح الفرق بين الحكم على الإبداع من داخل قوانينه ومن خارجها عبر حالة واقعية محددة، يمكن المقارنة بين تقريرين صدرا عن إحدى الروايات التي أثارت عاصفة هوجاء في مصر عام 2000، وهي رواية الكاتب السوري حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر”. وقد صدر أولهما عن مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف متهماً الرواية بأن فيها “خروجا عن ما هو معلوم من الدين بالضرورة وينتهك المقدسات الدينية والشرائع السماوية والآداب العامة والقيم الروحية ويثير الفتن ويزعزع تماسك وحدة الأمة”. وكانت هذه النتيجة منطقية بالنظر إلى مقدماتها التي شملت نزع جمل وعبارات من سياقها والتطرف في استخلاص استنتاجات معينة منها، والمطابقة بين المؤلف وبعض الشخصيات الروائية التي صنعها من خياله، وهي تحديداً الشخصيات الملحدة، وإغفال شخصيات أخرى مؤمنة يؤدي وجودها في الرواية إلى توازن بالمعيار العقائدي.
أما التقرير الثاني، فقد صدر عن لجنة ضمت مثقفين عارفين بأصول العمل الروائي وطابعه مدركين كيفية قراءته ونقده والحكم عليه، فذهب إلى أن الرواية تمثل إبداعاً لعالم متخيل يحاكي عالم الواقع، لكنه لا يتطابق معه، وتعتمد في ذلك على خلق شخصيات متخيلة تعبر عن مواقف واتجاهات متباينة لا يمكن فهمها وما ورد من أقوالها منفصلة عن سياقها ولا عن طابع هذه الشخصيات نفسها أو بمنأى عن أقوال غيرها في الرواية.
والدرس الجوهري، هنا، هو التمييز الضروري بين العمل الإبداعي والتعبير المباشر عن رأي صريح، حتى لا يحدث خلط بين تعبير مجازي أو خيالي أو رمزي وآخر صريح أو مباشر، في حين أن الفرق بين التعبيرين أكبر من أن نغفله. وهذا هو الفرق بين حرية الرأي عبر كتابة مقال أو تقرير أو رسم كاريكاتور يحمل رأياً أو موقفاً صريحاً، وحرية الإبداع الأدبي الروائي أو القصصي أو الشعري حيث يعتمد الكاتب على المجاز الذي قد يجعل الخيال واقعاً أو يربط الواقع بالخيال، ويكون المعنى فيه وراء الكلام المسطور.
ومن السهل، والحال هكذا، لأي كان أن يفهم مقصد مقالة أو رسم صريح المعنى، لكن من الصعب على غير المتخصص أن يحكم مثلاً على رواية مثل “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، وعلى شخصيه فيها مثل “الجبلاوى”.
فهذا أمر يحكم عليه المتخصصون وليس غيرهم، مثلما لا يجوز للاعب كرة قدم مثلاً مهما كانت مهارته أو حتى لمحام أياً تكون عبقريته أن يحكم على مدى سلامة أداء طبيب لعملية جراحية. غير أن المحافظة على حرية الإبداع وصيانتها إنما تفرضان على أصحاب الاختصاص عند تقييم أي عمل إبداعي أن يكونوا أمناء في هذا التقييم حين يتعلق الأمر بأزمة يثيرها بعض ما ورد فيه.
فإذا كان هذا العمل، أو جزء فيه، قد جنح إلى التعبير المباشر، لا يبقى مبرر لتمتعه بالحماية التي ينبغي توفيرها للإبداع الذي لا يكون المعنى فيه صريحاً ظاهراً في الكلام. وإذا انتهك مثل هذا العمل ثابتاً دينياً، لا يصح أن تأخذ أنصار الحرية العزة بالإثم في مواجهة من يتربصون بكل حرية ويشهرون أسلحتهم ضد كل إبداع.
فالحكم على الأعمال الإبداعية ينبغي أن يكون في إطار الاحترام الواجب للعقائد الدينية التي يؤمن بها أناس كثيرون لا يمكن وضع حقهم في احترام مشاعرهم في أي تناقض مع حرية الإبداع.
وليس هناك ما يدعو إلى الجزع مادامت ضوابط هذا التمييز واضحة وأسسه جلية، بل على العكس ربما يكون في هذا التمييز ما يحمي حرية الإبداع ويصونها من تطرف المتطرفين وعبث العابثين.
الاتحاد