… في أن نشر ثقافة حقوق الانسان عربياً ضرورة للتقدم
غالية قباني
يمكن لأي مراقب عربي برمج ذهنيته على متابعة مستوى الالتزام بحقوق الانسان في العالم ونشاط الانظمة المعنية بها، أن يلمس بسهولة انتهاكات يومية لهذه الحقوق في العالم العربي. والأمر لا يحتاج الى متابعة محاضر المحاكم والمخافر والمعتقلات، أو زيارة أروقة وزارات الداخلية، ليلمس هذا الخرق، فهو واضح جليّ في سلوكيات الأفراد قبل الأنظمة، انه قابع في اللاوعي، لأنه جزء من تربيتنا ونظرتنا الى لآخر المختلف. انها ثقافة الحط من شأن المختلف عنا واعتبار أنفسنا الافضل بين جميع الأمم.
ما الذي يقلق العربي في بعض البلدان العربية هذه الايام ويجعله يتصرف بتحامل وكراهية نحو الآخر المختلف: في الدين والطائفة والقبيلة والقومية؟ هذا كلام بعيد من المبالغة، ويكفي تصفح المواقع الالكترونية العربية والصحف الورقية، للاطلاع على كتابات معيبة في عنصريتها، لا يبدو فيها ان اصحابها، او من يعلقون عليها مؤيدون، يشعرون بأن ثمة عيباً فاضحاً في الفكر المطروح فيها!.
لا بد ان ظاهرة عنصرية المجتمعات العربية نحو المختلف عنها، على اختلاف شدتها من مجتمع الى آخر، هي ثقافة متجذرة بتأثير من القيم العشائرية القبلية، وبتاريخ طويل من عدم الاستقرار والخوف من الغريب في منطقة أذاقها الدهر مرّ الاحداث، من هيمنة الاجنبي واجتياح الجيوش لها في الحروب والغزوات الكثيرة، اضافة لكل المتغيرات السياسية الحادة التي مرت بمجتمعاتها. وهي أهوال تهون معها مسائل الهجرة والنزوح من المناطق المجاورة او البراري البعيدة، رغم ان المهاجرين عادة ما يحملون المختلف من الافكار والسلوكيات التي «تهدد» التراث الثقافي للمجموعة المضيفة. على ذلك، لم تكن أي مجموعة من البشر، تشعر بالامان الا داخل عشيرتها او حيّها، او بين اهل قريتها او مدينتها. ففي تلك المجموعات يتفق الافراد في القيم والسلوك والميول المختلفة في هذه الحياة، وفي توحيد كل ذلك شعور بالامان والطمأنينة في المجتمعات غير المتحضرة تعوضها عن وجود سلطة الدولة.
ولا بد ان هذا الميل الى الاحتماء خلف ظهر الحليف القريب، انتقل الى زمن الاستقرار في الحواضر بالنسبة للمجموعات القادمة من عالم البداوة والريف، والى زمن التوسع العمراني والسياسي في المجتمعات المستقرة التي شملت لاحقاً اطيافاً مختلفة من الثقافات والطوائف والأعراق. ولكن حديثنا عن مجتمعات مستقرة لا يعني انها دول امتلكت كل مقومات الدولة الحديثة، أي دولة المؤسسات، ففي غياب هذه المؤسسات، او تعطيل فعالية واحدة منها او اكثر كالسلطتين القضائية التشريعية، لحساب هيمنة السلطة السياسية، تغييب لمفهوم المواطنة ولفكرة المساواة بين الافراد داخل الدولة. ومعلوم انه بمجرد ان تغيب الدولة بمؤسساتها كحكم محايد، والطبيعة لا تحب الفراغ، حتى تظهر المجموعات الدينية او العرقية او المناطقية بقوة، وتكون مظلة بديلة للافراد، تستقطب الولاءات وتمنح الشعور بالحماية والانتماء.
الكتابات التي تحفل بها طفرة الصحف والمواقع الكترونية، تتجاوز في تحاملها ما أشرنا اليه في البداية الى ضحايا اضيفوا الى القائمة. فقد ظهر لدى «المعلقين الجدد» شكل جديد من التمييز العنصري، هو العداء ضد الاجانب، وهي الشكوى التي طالما رددها الاعلام العربي دفاعاً عن الجاليات العربية والمسلمة في الغرب. في الغرب الافراد ليسوا ملائكة ولكن هناك ضوابط لأي تجاوز على هذا المستوى، تتمثل في وجود مؤسسات وتشريعات، ووجود قضاء يمكن اللجوء اليه عند الحاجة. في الغرب لا يمكن ان يمرر الاعلام المحترم بسهولة كتابات تسخر من الاجانب بصورة فجة، مثل مطالبة من يريد الحصول على جنسيتها، تغيير اسمه واسم عائلته لانهما «لا يناسبان الجنسية الجديدة»! او حتى تغيير ديانته، او وضع سقف لعدد سنوات الاقامة يطرد بعدها الشخص من البلد كي لا يفكر بالاستقرار فيها. في الغرب لا تنشر هذه الكتابات بسهولة، لأن في ذلك خرقاً كبيراً لحقوق الانسان. لكن في اعلامنا العربي، نطلع الآن على كتابات بعيدة عن أدنى احترام للجاليات التي وفدت الى بلداننا منذ سنوات طويلة، وأعطت البلاد من جهدها الكثير، أياً كانت طبيعة العمل الذي قامت به، بدءاً من كدح الخدم والعمال حتى نشاط رجال الاعمال.
عندما كنت أكتب هذا المقال، طالعني الإعلان عن البدء رسمياً في إطلاق برنامج نشر ثقافة حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، ولفت انتباهي ان البرنامج سيطاول المواطنين والمقيمين معاً، مستعيناً بوسائل الإعلام والتربية والتعليم والتدريب، وذلك بحسب رئيس هيئة حقوق الإنسان السعودية الدكتور بندر العيبان. وهي خطوة رائدة في المملكة وفي المنطقة بصورة عامة، مع التمني ان يلحق البرنامج بتشريعات ومؤسسات تتابع الخروقات على هذا المستوى.
ان غياب مفهوم حقوق الانسان في مجتمعاتنا، هو شكل من أشكال الأمية الحضارية التي تحتاج الى تثقيف عام، بل الى دورات في محو هذه الامية، لأن غياب ثقافة حقوق الانسان في المجتمع يمنع عنه صفة التقدم والتحضر. وحملة التثقيف ليست بالسهلة، ففيها اعادة برمجة لعقلية مجتمع بأكمله، ووتدريب كل فرد وكل مسؤول في ادارة صغيرة او كبيرة في الدولة، بضرورة ان يحترم الآخر وخصوصيته وحقوقه. ويحتاج الأمر الى تضمين حقوق الانسان في المناهج المدرسية، كي يتعلمها الصغار منذ نعومة اظفارهم وتصير جزءاً من ثقافتهم وسلوكهم اليومي. وربما كان يجب فرض الدروس على الاهل ايضا، حتى يكونوا بموازاة ثقافة ابنائهم في هذا المجال، ولكي لا يشوشوا على الدروس النظرية بأخرى عملية مناقضة، تنسفها تماماً.
الحياة