مصدر العنف في الرأسمالية المعاصرة
مازن كم الماز
أدت الرأسمالية المعاصرة إلى تفتيت البشرية , إلى تشظيها , إلى أعداد لا تتوقف عن التكاثر من البشر في عزلة شبه كاملة عن بعضها البعض . المجتمعات السابقة على الرأسمالية قامت على سحق فردية الفرد لصالح مجموعة يعرف كينوتنه بالانتماء إليها ,كانت فردية القائد ( القبلي أو العشائري أو الديني أو الإقطاعي ) تختزل فردانية كل أفراد مجموعته . لكي يتحول البشر إلى عمال مأجورين كان على البنى السابقة أن تحطم لصالح مؤسسة العمل المأجور بوعد من الطبقة الثالثة بنظام و مؤسسات تعطي الأولوية لفردية كل فرد , لكن الوعد بفردانية حقيقية كان كذبة أو وهما , فقد قامت الرأسمالية بتدمير فردانية الملايين لصالح فردانية أقلية محدودة جدا من البشر , استبدلت الرأسمالية المؤسسات البطريركية التي تمارس قمعا صريحا لفردية أعضائها بمؤسسات تمارس قمعا ضمنيا , خفيا , رغم أنها في فترات ما عندما كان هذا القمع غير كاف لجأت إلى الفاشية , أكثر أشكال كراهية الآخر و أكثر أشكال العزلة عن الآخر لا عقلانية و عنفا , لتحول البشر إلى مجرد آلات مملوكة للدولة , الوحش المتعطش للدماء . الستالينية هي أيضا مثلت مخرجا بطريركيا أبويا للنظام الرأسمالي , مخرجا خدم هذا النظام بالتأكيد على سحق فردانية المنتجين لصالح أقلية بيروقراطية تختزل في سلطتها تلك الفردانيات المسحوقة تحت وطأة مؤسسات النظام الأمنية و البيروقراطية . عمليا حافظت الرأسمالية على كل المؤسسات البطريركية الأبوية من العائلة الأبوية إلى المدرسة و الجامعة و الجيش و السجن و المستشفى ( وفقا لفوكو ) , و حتى عندما عدلتها , كانت تقصد تخفيف توتراتها الداخلية , خاصة بين الأفراد و بين القوانين الصارمة لهذه المؤسسات . مؤسسات العمل المأجور تحمل في داخلها تراتبية هرمية لديكتاتورية حقيقية , تمنع و تحاصر أي إمكانية للعمل ضد النظام , بشكل جدي , فالبديل الوحيد عن عزلة الفرد هو كسر تلك العزلة بالانضمام إلى مؤسسات النظام : الحزب السياسي , مؤسسات تشكيل الرأي العام الإعلامية الهائلة من الصحافة إلى السينما إلى الرياضة , و المعمل الرأسمالي الخاضع لبيروقراطية الإدارة حيث يستبدل الحراس في الأنظمة قبل الرأسمالية بمشرفي العمل و بيناتهم و خططهم لمراقبة العمال و معاقبتهم و “تحفيزهم” و “مكافأتهم” على الخضوع المطلق . لأن الشرط الأول لأي عمل منظم ضد النظام السائد هو كسر عزلة البشر عن بعضهم ليكونوا قادرين على التواصل كمقدمة ضرورية لأي فعل منظم , حتى الناس الذي يجلسون على رأس المؤسسة السياسية أو العسكرية ليسوا إلا خدما للنظام أو للمؤسسة , هذا بالتحديد ما يعطي الرأسمالية مظهرها الخارجي “الديمقراطي” أي غير الشخصي أو غير الفردي الذي يسميه منظرو نظام العمل المأجور بالمؤسساتي . أما البديل الوحيد المتاح للفرد عن الخضوع الكامل للنظام فهو العنف الذي ينطوي على تدمير الذات , العنف الذي يتفجر اليوم في كل مكان ما دام النظام قادر على أن يستبعد أي عمل منظم ضده . لا تلغي الرأسمالية أسباب العنف و الجريمة , إنها تتحدث عنها بصورة علنية أكثر مما فعلته و تفعله المجتمعات قبل الرأسمالية , فالمصدر الثاني للمظهر الخارجي “الديمقراطي” للرأسمالية هو فضائحيتها على العكس من إنكار المجتمعات قبل الرأسمالية لأي عرض لممارسة الأفراد لفرديتهم بما في ذلك الخروج على قيم المؤسسات الأبوية الأخلاقية الصارمة , هذا لأن الرأسمالية في الأساس لا تلغي الاستلاب الإنساني , بل إنها تصل به إلى مستويات غير مسبوقة , إلى أن تجعل من القيد مغروسا داخل روح الإنسان , بحيث يصبح أي عمل احتجاجي على النظام و قمع مؤسساته في الأساس معزولا و فرديا , و في حالات غير قليلة ينتهي بتدمير الفرد لذاته………
خاص – صفحات سورية –