عبيد السلطة وعبيدهم وما إلى ذلك
ياسين الحاج صالح
غير بضع «دول فاشلة» أو تكاد، تعرض الدول العربية «الناجحة» تمركزاً مفرطاً لحياتها العامة حول نظمها السياسة، وتمركزاً مفرطاً بدوره لهذه حول خلودها في الحكم، أو بقاء أطقمها الحاكمة في السلطة إلى الأبد. ولما كانت الدولة هي مركز القيادة العامة، الذي يجرى فيه إنضاج القرارات والحلول المناسبة للمشكلات العامة، فإن بلداننا تخسر هذا المركز الذي لا منافس له، ولا يسع أية أطراف أخرى أن تحل محله. بل إن المشكلة الأولى التي تهتم بها أطقم الحكم في بلداننا، سلامة ودوام حكمها، تدفع بطبيعتها إلى تصور المجتمع المحكوم مصدر أخطار ومتاعب ومنافسين، الأمر الذي يقتضي مراقبته والحذر من أية مبادرات مستقلة تنبع منه، أو أية تفاعلات غير مراقبة تجرى ضمنه. والأولوية ذاتها تتوافق مع بث مناخات من عدم الثقة ضمن جمهور المحكومين، أو ممارسة سياسة «فرق تسد» في أوساطهم. والحاكم الحصيف يبادر إلى صنع أجهزة ثقة، مختصة في توجيه الضربات الاستباقية، تحبط أية استقلالية سياسية أو مقاومات اجتماعية محتملة. وضمان ولاء هذه الأجهزة قد يستلزم صنع أجهزة أخرى ذات ثقة أكثر، الأمر الذي يتطلب تعميم نظام المحسوبية أو الزبونية، ولهذه مفعول محرض فوري للتمايزات «الطائفية». ولا بد كذلك من بناء تحالفات إقليمية ودولية مناسبة، تضمن استقرار الحكم وأمنه. ومن وجهة النظر هذه قد تكون كثرة الملفات على الطاولة الوطنية شيئاً مرغوباً خلافاً لما يبدو أن الحكومة التركية الراهنة تظن (لا تكف عن تنظيف طاولتها، بما في ذلك من ملفات بدت لوقت طويل مرتبطة بهوية تركيا ذاتها: الكردي والأرمني). فكثرة الملفات تضمن أن تطرق أبواب عواصمنا كثيراً، وأن لا تكف هواتف حكامنا عن الرنين.
هذا كله عقلاني من وجهة نظر الهدف المراد تحقيقه: الحكم الأبدي.
بيد أن هذا يعني أن كثيرين من الحكام عبيد لسلطتهم أكثر حتى مما نحن عبيد لهم سياسياً. مشدودون بحبال تزداد سمكاً مع طول مكثهم في الحكم إلى مصالحهم الذاتية وامتيازاتهم الخارقة، إلى ماضيهم الملبّد، إلى صورهم الممجدة التي يحبسهم ضمنها أتباعهم، فضلاً عما يحتمل من قيود متينة مع أحلافهم، بعض الحكام بالكاد أكثر حرية منا.
بلى، يريد القوم مصلحة بلدانهم ونهوضها، ولا يتعمدون بحال الإضرار بها. لكن لا يمكن الوفاء بالدرجة ذاتها لمصلحتين عليين متعارضتين تكوينياً: الحكم المؤبد والمصلحة الوطنية. لن يبقى لهذه غير «فضلة خير» زعماء.
وتفتح عبودية السلطة الباب لكل أصناف العبوديات الأخرى. قبل كل شيء لا يستطيع الحكام أن يكونوا عبيداً لسطتهم دون أن يجعلوا محكوميهم عبيداً لهم. هنا أساس آلية الاستعباد العام التي تجمع الحكام والمحكومين. فهل يمكن بعدُ الكلام على قيادة؟ على قادة لشعوبهم، أو على دولة تقود المجتمع الذي تحكم؟ وفي المقام الثاني تكسر عبودية السلطة التطابق بين طاقم الحكم وبين الدولة الوطنية، أو بين السلطة والدولة – الأمة. لنقل بعبارة أوضح إن عبودية السلطة تقوض وطنية الدولة. لمصلحة الأهلي والجزئي تحتها، والمراكز الدولية والإقليمية النافذة فوقها. فوق أنها تلغي المواطنين بطردهم من المجال العام وردهم إلى بيوت الطاعة الأهلية. وعبر العبودية هذه تخسر بلداننا سيادتها الوطنية، على نحو ما يخسر مدمن الشراب أو القمار أو المخدرات كرامته وسيادته على نفسه.
ويبدو أن هذا الذل هو ما تحررت منه تركيا. أو بلغت طوراً متقدماً من التحرر منه. كقيادة مفوضة ديموقراطياً، ليس لحكومة حزب العدالة والتنمية مصلحة متميزة عن المصلحة الوطنية التركية. ولا يبدو أن بال أردوغان أو غل مشغول بكيفية البقاء في الحكم، وربما توريثه لأبنائهما من بعدهما، رغم حرصهما الأكيد على فوز حزبهما في أية انتخابات عامة مقبلة. يتعلق الأمر هنا بطبقة سياسية تعيش للسياسة ولا تعتاش منها، وفقاً لتمييز لماكس فيبر. هذا في آنٍ أساس استقلال السياسة وعقلنتها، وأرضية تطور الكفاءة أو المهارة السياسية عند السياسيين. أما العيش من السياسة فيمنح الأولوية العليا لـ «العيش»، فيما لا تكون السياسة غير فن ضمان هذا العيش (أي للمليارات والنفوذ والهيبة والأمان… والخلود). ضمانه لشريحة ضيقة من أصحاب الامتيازات دونهم شريحة أوسع من أصحاب امتيازات أقل… وصولاً إلى جمهور واسع من المحرومين المنكشفين تماماً… في الحضيض.
والواقع أن عبودية السلطة هي الباب الذي عادت منه بنى اجتماعية امتيازية إلى بلدان بدت في وقت غير بعيد أنها تتجه نحو طي صفحتها. يسعنا الكلام اليوم، وليس من باب المجاز أو التهكم، عن سادة ووجهاء و «نبلاء»، وعن ضروب من التبعية والحرمان والفقر كانت مقترنة بأزمنة «الإقطاع» ونظم الأعيان. هذا فضلاً عن اتجاه التمايزات الاجتماعية الثقافية إلى مزيد من التصلب بفعل التعطيل السياسي للديناميكية الاجتماعية.
إذا كان صحيحاً أن الأولوية العليا المفروضة في بلداننا المعاصرة هي للتأبيد في السلطة، وهو صحيح بالقطع، لزم أن تكون الأولوية الوطنية لكسر التأبيد وفتح أبواب بلداننا لرياح التغير السياسي، حتى لو كان من المحتمل لهذه أن تكون عاصفة ومزعزعة في مراحلها الباكرة. من أجل أن يتحرر المحكومون من عبوديتهم السياسية لا مناص من تحرر الحاكمين من عبوديتهم لسلطتهم. وقد يمكن تعريف الديموقراطية في هذا السياق بأنها تحرر الحاكمين من عبودية السلطة، وليس فقط تحرر المحكومين من عبوديتهم للحاكمين.
ليست مشكلة السلطة هي المشكلة الوحيدة أو الأكبر في العالم العربي، لكنها المشكلة الرئيسية. لا نتقدم في حل شيء دون حلها، وإن كان هذا لا يحل بحد ذاته أية مشكلة.
خاص – صفحات سورية –