صفحات مختارةموفق نيربية

في تسييس السياسة: منازع واتجاهات متضاربة

null
موفق نيربية *
دَرَجت كلمة التسييس في الأعوام الأخيرة في الخطاب العربي، وكان هذا فألاً حسناً، على رغم كون استعمالها في منطقتنا يأتي لأسبابٍ متباينة، منها ما يهدف إلى إبطال هجمة على النظام القائم، أو إبطال هجمة النظام على المجالات التي لا بدّ لها من الاستقلال.
يمكن تسييس المدارس والجامعات كما نعرف نحن الذين عايشنا أنظمةً ثورية وشمولية وتسلطية، أو كما اتهم المحافظون الرئيس أوباما حين توجّه بخطابه (التربوي) إلى طلاب المدارس. نحن «ناضلنا» حين كنا شباباً من أجل تسييس كلّ شيء، حتى الفيزياء.
يمكن تسييس العدالة والقضاء. فيتهم كثيرون السلطة بانتهاك استقلال القضاء والتأثير في قراراته في محاكمات معارضيها. كما تتم إثارة ذلك أحياناً في شأن المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري. وأخيراً برز اتهام لرئيس الوزراء العراقي بتسييس طلبه لتحقيق دولي في تفجيرات بغداد. والأهداف من ذلك مختلفة.
يمكن اتهام الهيئة التي تمنح جوائز نوبل للسلام بأنها تتأثّر باتجاه سياسي، كما حدث في كلّ مرة تُعلن فيها أسماء الفائزين بها. وآخرها مع باراك أوباما، الذي جاءت الانتقادات المباشرة من بلاده بأنه ما زال غراً وفي بداية ولايته، ليس كما حصل مع وودرو ويلسون في نهايتها. ومن آخرين، إما لأنه لم يُثبت بعد الأقوال بالأفعال، أو لأنه مجرد طبعة محدّثة من رئيس للإمبريالية الأميركية، فالعالمية.
يمكن تسييس حقوق الإنسان، باستعمالها لتمرير مطالب معينة لدول قوية من دول ضعيفة، أو بالامتناع عن الإصغاء لكل منتقدٍ لحالتها في منطقتنا، بحجة أن ذلك انتهاك للسيادة الوطنية وتدخل في الشؤون الداخلية، أو باتهام مثيري الموضوع بأنهم ينبغي أن يهتموا بالانتهاكات الإسرائيلية في غزة والضفة، أو الأميركية في غوانتانامو، ولا يتوجهون إلينا نحن أصحاب حقوق الإنسان ومؤسسيها منذ حمورابي.
يمكن تسييس الدولة، من خلال طغيان السلطة المتغلبة عليها، وإصدار قوانين أو فرض قواعد سلوك تتآكل من سمتها الرئيسة كأداة للتوازن الاجتماعي والحقوقي. ويمكن أيضاً تسييس الفساد، بجعل الغنيمة جزءاً من طبيعة الدور وحجمه في السلطة، حين لا يبقى لأكبر سادتها إلا تنظيم الأمر، بما ينفع في ربط الأتباع وضبط التزامهم وإبقاء السيف مصلتاً على رقابهم. يمكن ببساطة أيضاً تسييس الجيش وتحويله أداةً لحماية السلطة لا الدولة. لكن ذلك يحدث أكثر في جنوب العالم بالطبع.
نرى لتسييس السياسة وجهين محتملين، من جهة السلطة ومن جهة معارضيها. فالسلطة (الاستبدادية) تركّز على حجب السياسة ومنعها وتشويهها. تعمل على قصر السياسة – كما يحدث في التيار الكهربائي – وحرفها عن مفهومها الأساسي.
السياسة – مثلاً – تتعلّق بالمجتمع والدولة المعنيين. فتحاول السلطة فعل أيّ شيء لتكريس فكرة أن السياسة هي تنافس، أو صراع بالأحرى؛ ولكن مع الخارج. ضمان الاستقلال والكرامة الوطنية هما السياسة عينها، فلذلك تصبح كلّ ممارسة سياسية مستقلة على أساس شرعنة السلطة وتحديث الدولة وتمدينها خدمة لذلك الخارج. لا سياسة إلاّ في مواجهة العفريت الخارجي الآثم.
حين تتفقّد جريدة عالمية تجد صفحةً أو صفحاتٍ تحت عنوان «السياسة»، تكون مخصصة للدفاع عن برامج الحكومة وإجراءاتها، أو برامج المعارضة وحركاتها. في بلادنا يكون ذلك تحت عنوان «المحليات»، في حين يتركّز الزخم والتوتّر في صفحات الأمة وصراعها مع الخارج المهيمن الطامع. هناك: السياسة شأن داخلي، وهنا: السياسة تتموضع خارج الحدود. تصبح الحكومة نفسها شيئاً غير السلطة، وتتحول إلى هيئة بلدية واسعة من نوعٍ ما، من دون علاقة لها بالسياسة.
«السياسة» بمعناها المتعلق بتنافس قوى وأحزاب من سلطة ومعارضة، غير موجودة، وهي محظورة بقوة السلاح وغضبة السلطان. هنا يكون تسييس السياسة مَسخاً وتشويهاً لها. هو إحلال للإيديولوجيا محلّها، أو للإجراءات الأمنية التي تحفظ «الوطن» وتدافع عنه.
يمكن حَرف السياسة أيضاً باتّجاه الجماعات البشرية ما قبل الوطنية، من طوائف وقبائل وأحياء. يمكن حرفها بحيث لا تبقى منها إلا المحاصصة بين الأمراء، على نَسق ما يحدث في لبنان تحت عنوان الديموقراطية التوافقية، والديموقراطية والتوافقية كلتاهما منها براء. ذلك حديث آخر، لكنه يتضمن قَصر السياسة وحجبها ومنع أية قوة مدنية حديثة من النمو، إلى حدّ السخرية منها في الدهاليز، والإشفاق عليها في العلن.
لكنّ لتسييس السياسة باباً آخر، من الجهة المعارضة، للأسف. ذلك يظهر في شكلين: أولهما الخضوع لابتزاز السلطة، والمزايدة عليها في حقل الوطنية لإثبات أنها المقصرة فيه، أو لاتّقاء شرّها واتهاماتها الجاهزة بالتخوين والتكفير. من دون انتباهٍ إلى أن المعارضة تقبل بذلك مفهوم قَصر السياسة المذكور، وتوافق على إبقائها في حيّز «الخارج»، فتساعد على تحصين السلطة وتكريس استمرارها، بل تقديسها ومنع التساؤل حولها.
ثانيهما تعميم السياسة وتجريدها، أو فَرط التسييس. عند ذلك تميل القوى المعارضة إلى إكساء أيّ مجالٍ بلبوس السياسة الفظة المباشرة، وتعارض كلّ ما يتعلّق بالخصم، حتى إن كان بعضه صحيحاً، أو كان ذلك الموقف ضاراً بالدولة والمجتمع. في لبنان مثلاً، تتراجع برامج تيار الجنرال ميشيل عون إلى منزلةٍ ثانوية في مقابل المكسب المتعلّق بأشخاص أو إحراج الخصم وممانعة نجاحه في أيّ شكل. هذا حين تكون هنالك برامج، كما في حالة التيار المذكور. في حالاتٍ أخرى هنالك خصومة مع البرامج عموماً، واستصغار لشأنها، أو عجز عن الدخول فيها، أو لعلّه الاقتناع بأنها لا تساوي شيئاً. في سورية أيضاً، تفتقر المعارضة إلى هذه البرامج، وتعوّض عنها بفرط التسييس، واللجوء دائماً إلى فكرة بسيطة تقول إن سبب كلّ شيء هو الاستبداد، وحلّ كلّ شيء هو الديموقراطية. تخطر على البال هنا معادلة تساوي بين الفكرتين: «الديموقراطية هي الحل»، و «الإسلام هو الحل»، أو الحلول القديمة الأخرى.
الاتجـــاه المعاكس لتسييس السياسة هـــو «استقلالها» وتكريس الاعتراف بها وبحق المواطنين في ممارستها، وفي برمجتها وضبطها وتدعيمها بالوقائع والغايات، واستنادها إلى الدراسات الاختصاصية، التي توضح الأهداف العمليـــة المطلوبـــة مــــن ممارسة السياسة، وإلا لا تتوقف السياسة عن أن تكون سياسةً وحسب، بل تغدو لا شيء. كما حدث لذلك الطالب الجامعي الجديد في قصة كرتون قصيرة ساخرة بقسوة، حين ذهب إلى مكتب المستشار المسؤول عنه وقال له:
«أريد أن أختص، أريد أن أعرف أكثر فأكثر، عن الأقل فالأقل، حتى أعرف في المستقبل كلَّ شيء… عن لا شيء».
فردّ عليه مستشاره بعد تفكيرٍ، قائلاً: «حسناً… يمكن أن يتحقق لك ذلك إذا اخترت الاختصاص بالعلوم السياسية».

* كاتب سوري
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى