أوباما يسوق إيران الى بيت الطاعة
أديب طالب ()
في ظاهر الأمر أن إيران الرئيس محمود أحمدي نجاد، لم ترفض اليد الممدودة للرئيس الأميركي باراك أوباما بهدف الحوار، وارتقاء للمحادثات، ثم التفاوض حول تخصيب اليورانيوم وحول فتح منشآتها النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
في ظاهر الأمر ثانية، قبلت إيران في جنيف وفي فيينا وما بعدهما، مشروع المدير العام للوكالة محمد البرادعي القاضي بأن ترسل إيران ثلاثة ارباع مخزونها من اليورانيوم ضعيف التخصيب الى روسيا ففرنسا ويعاد لها مخصباً بنسبة عشرين في المئة، أي أنه يصبح صالحاً للاستخدامات النووية الطبية.
في واقع الأمر وبعد أيام من ظاهره، تعددت الآراء والاجتهادات للسادة قادة السياسة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تعالوا خصبوا اليورانيوم “بتاعنا عندنا”، ترسلون الينا ما نحتاجه من يورانيوم عالي التخصيب وندفع لكم ثمنه، ومن ثم نرسل مخزوننا من اليورانيوم ضعيف التخصيب بالتدريج اليكم، وحسب تهويناته سبحانه وتعالى، حقنا في تخصيب اليورانيوم قضية وطنية سيادية خارج أي نقاش وخط أحمر.
الإدارة الأميركية أعربت عن استيائها، وذكرت ساسة إيران، بأن عليهم إدراك تبعات التأخر في تقديم اجابات رسمية واضحة ومحددة، أجاب الرئيس الإيراني: سنرد في الوقت المناسب، وهذا لا يعني أن ثمة وقتاً محدداً.
في ظاهر الأمر ثالثة، أن إيران غير مهتمة بالحصار الاقتصادي براً وبحراً وجواً، وغير مهتمة حتى بالخيار العسكري!
الى متى يستمر حلم وصبر “القط” الأميركي مستر “توم”، على مراوغات “الفأر” الإيراني مستر “جيري”؟ هل يبدو أن “توم” و”جيري” لا يستغني أحدهما عن الآخر؟ رغم العداوة الصريحة بين “الشيطان الأكبر” وبين رأس “محور الشر”.
قصة توم وجيري المعروفة بطرافتها، من قبل الكبار قبل الصغار في العالم، قصة ساذجة لسبب واحد، هو انه في واقع الأمر ودائماً يفترس القط القوي الفأر الضعيف المراوغ افتراساً همجياً.
إيران تعرف مدى سذاجة “قصتنا”، وتعرف أكثر أن أميركا شنقت فلاناً بعد أن حاصرته اقتصادياً وهزمته عسكرياً لانه عصاها وخرج عن طاعتها. وتعرف أكثر وتعلم علم اليقين أن أميركا صاحبة القرار في العالم كله، وتطالبها بدور اقليمي عال وبدور معقول في إدارة العالم قالها نجاد صراحة وتطلب تزويدها بتقنية حديثة في صناعة النفط، وإيران تتكئ على متكأين هنا، الأول قدرتها وقدرة أذرعتها على التدخل ضد أو مع مصالح أميركا في المنطقة، وحتى في بعض أركان العالم، الثاني هو مشروعها للوصول الى صنع الذرة، وعلى الأقل الى القدرة التكنولوجية والمادية على ذلك. المقايضة هنا لصالح أميركا، وان تمت فبشروطها، إلا أن ليس أمام إيران إلا القبول لأن أميركا هي الأقوى!
إيران محشورة في الزاوية شاءت أم أبت، ومضطرة ان لم يكن اليوم فغداً للقبول بسياسة الاحتواء الأميركي الحليم، وبالعودة الى بيت الطاعة الأوبامي، بعد ان تمردت عليه منذ عام 1979.
عوامل مساعدة في سياسة الاحتواء الأميركي لإيران:
رغم أن المادة الرابعة من دستور إيران لعام 1979 تقضي بأن كل الشرائع الناظمة لحياة الإيرانيين الدنيوية، تقوم على الاسلام ورغم أن دستور تركيا لعام 1982، يقضي بأنها دولة علمانية حتى العظم والى الأبد.. رغم إسلامية تلك وعلمانية هذه، حصل التقارب التركي الإيراني الأخير، ولقد أعطته الإدارة الأميركية شكلاً من المشروعية، عندما قالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون أن “تركيا قوة إقليمية وكونية صاعدة”، كما كشف ماهية هذا التقارب، كلام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، عندما قال إن زيارته لإيران ترتبط بتسوية مشاكل المنطقة والقضايا العالمية”. وأي شيء يشغل المنطقة والعالم أكثر من وصول إيران الى الذرة، وصولاً للسيطرة أو لتقاسم السيطرة على المنطقة، وصولاً الى اليمن على سبيل المثال وفي ضوء الوقائع؟
حصل التقارب التركي الإيراني، لا لأن كل من الدولتين يتشارك شعباها العداء لدولة العدوان الإسرائيلية فقط، وانما لأن مصالحهما تقتضي ذلك.
التقارب التركي الإيراني، لن يصب في سلة المراوغات الإيرانية، بل سيصب في سلة الاحتواء الأميركي السلمي الحليم لإيران، باعتباره حلاً مناسباً، يبعد عن المنطقة شبح الحروب، وعن إيران بالذات يبعد شبح حرب أميركية إسرائيلية، قد تعيدها لا سمح الله الى العصر الحجري. وعلى ضوء هذا التقارب الايجابي نستطيع فهم التباعد التركي الإسرائيلي.
حدث آخر مهم، في دعم سير الاحتواء قدماً، ولا يقل أهمية عن حدث التقارب هو ما نشهده من محاولات سورية طازجة لإحياء المفاوضات السورية الإسرائيلية الموضوعة راهناً بحالة تجميد حيوي، وقد يكون الاحياء بداية برعاية تركية أو كرواتية أو فرنسية أو روسية ربما؟ أما في النهاية فالراعي الحقيقي هو الأميركي بلا شك. ان لهذا الاحياء سبباً سورياً مباشراً، هو استرداد الجولان، وله نتيجة مباشرة هي التعرية المبطنة لشرعية تمسك إيران في الدفاع عن الحقوق العربية ومنها “إزالة إسرائيل من الوجود وتسليم أرض فلسطين كاملة غير منقوصة ولو شبراً واحداً الى “المقاومين” الفلسطينيين ليقيموا عليها دولتهم الإسلامية العتيدة! ان ذاك الاحياء وهذه التعرية يساعدان جيداً في دفع إيران الى سلة الاحتواء الحليم.
ثمة عامل لا ينقص أهمية عن العاملين السالفين هو التباين في المواقف السياسية بين ساسة إيران، بين المعارضين الموسويين وبين المؤيدين الموالين للرئيس نجاد، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فهو التباين بين النجاديين الخامنئيين أنفسهم.
مهدي كروبي “المرشح السابق للرئاسة الإيرانية والمتشدد في معارضته قال: “إيران لا إسلامية ولا جمهورية ولا ما يحزنون”، قالها في 27/10/2009 وخلال الأسبوع الماضي، وفي دائرة الموالاة الإيرانية، هذا لا يتنازل عن التخصيب في الداخل، وذاك موافق على شراء اليورانيوم العالي التخصيب بنسبة عشرين في المئة من فرنسا أو حتى أميركا مع بقاء مخزون إيران من اليورانيوم ضعيف التخصيب لديها، وثالث قال انه لا يمانع في إرسال المخزون الى الخارج، ولكن على دفعات تحدد إيران توقيتها وكمياتها، وعندما أصر الأميركان على الرد في المهلة المحددة، قال نجاد سنرد بالوقت المناسب، أي بالوقت الذي يناسبنا!
التباين بين الساسة الإيرانيين، ليس توزيعاً للأدوار كما يتمنى أحباب إيران النجادية، لأن الدولة الديكتاتورية تحرص على الرأي الواحد، والقرار الواحد مما يعزز استغلالها لقضايا الوطن وحرمة السيادة. التباين أمر فرضته الانتخابات الرئاسية الأخيرة المشكوك بنزاهتها وديموقراطيتها، وفرضه تباين آراء الموالاة نفسها.
التباين بين الساسة الإيرانيين رافعة من روافع الاحتواء الحليم الأميركي لإيران، وهو فضلاً عن ذلك، له دور سلبي على صعيد الحلف الاستراتيجي السوري الإيراني. ان ما هو استراتيجي أصبح لا يستند الى جدار إيراني صلب ومتماسك وموحد. ان هكذا شعور سوري يفيد الاميركان لانه يدفع إيران الى بيت الطاعة الأوبامي السلمي الهانئ، ويفيد السوريين إذا أرادوا لانه يساعدهم في الاقتراب من الأميركي “الحبيب”.
أوباما: اتقوا غضب الحليم!
الرئيس الأميركي باراك أوباما صابر وحليم، وحليم في اللغة هو التأني غير العجول، وقال تعالى: “ان ابراهيم لحليم أواب”. صبر أوباما وحلمه، ليسا من محاسن الأخلاق الفردية فقط، فالرجل رئيس أعظم دولة بين الدول العظمى في العالم، وليس مختاراً لحارة “الضبع” الشامية في ما سلف من الأزمان، لذا كان صبره وحلمه مبرمجين ويستندان الى رؤية شاملة لمعوقات السلام في العالم كله، ويستندان الى أجندة زمنية محددة، رسمها بمعية كبار الساسة الأميركيين والأوروبيين، وبخبرة مئات من المستشارين التقنيين اقتصادياً وعسكرياً وإدارياً وأمنياً، وقد اختصر هؤلاء الرؤية الأوبامية لإيران بكلمتين فقط هما التفاوض الصبور والاحتواء الحليم، نافين أي ضربة عسكرية استباقية كما تحلم دولة العدوان الإسرائيلي، ونافين انتظار وصول إيران للذرة ومن ثم ردعها.
ان أي حديث عن فشل أوباما تجاه المراوغات الإيرانية وتجاه “المقاومة والممانعة” الفلسطينية حديث متسرع ودوغمائي، وهو خارج الكلام السياسي الجاد المسؤول. وهذا ما يبرع فيه القوميون المتعصبون والمتدينون المتشددون وكل معتد إسرائيلي أثيم. قال رمضان شلح رئيس منظمة الجهاد الإسلامي في 31/10/2009 وبمناسبة ذكرى اغتيال فتحي الشقاقي: “مشاريع أميركا في المنطقة فشلت، والمقاومة أثبتت صلابتها، وإسرائيل قلقة على وجودها”، إذا كان كلام الدكتور شلح صحيحاً فلماذا يحاول رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة التقرب من أميركا وطلب الاعتراف بحماس؟
هدف الرؤية الأوبامية، احتواء الأعداء لا قتلهم، والأسلوب هو تكلم باتزان ولطف وهدوء، واترك عصاك الغليظة ظاهرة للعيان. المناورات الحربية الأميركية الإسرائيلية مثال وهذا أولاً، والكلام الديبلوماسي الأميركي خلال الأسبوعين السالفين.
مثال: نقلت وكالة رويترز ما يلي:
“بعد ساعات من إعلان وسائل إعلام إيرانية ان طهران تقبل الإطار العام لاتفاق الوقود النووي الذي صاغته الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولكن بعد إدخال “تعديلات كبيرة” عليه، أفاد مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي الجنرال جيمس جونز ان الولايات المتحدة ستكون مستعدة للرد إذا تقاعست إيران عن اتخاذ خطوات ملموسة قريباً للوفاء بالتزاماتها في شأن برنامجها النووي”. وأضاف: “كل الخيارات مطروحة”، مشيراً الى خيارات واشنطن في التعامل مع إيران إذا واصلت تحدي المطالب الدولية”.
وقال جونز في كلمة في واشنطن أمام جماعة “جاي ستريت” وهي جماعة ضغط ليبرالية مؤيدة لإسرائيل: “يتعين على إيران الآن الوفاء بتعهداتها… سنرى خلال فترة قصيرة ما إذا كان الحوار قادراً على تحقيق النتائج الملموسة التي نرغب فيها وسنكون مستعدين ما إذا كان الحوار قادراً على تحقيق النتائج الملموسة التي نرغب فيها وسنكون مستعدين إذا لم يحصل ذلك”. وأوضح ان الاتفاق على نقل إيران اليورانيوم المنخفض التخصيب الى بلدان اخرى سيكون خطوة اولى جيدة نحو تقليص قدرتها على صنع سلاح نووي في المدى القريب.
وأشار الى انه “إذا نفذ فسيؤخر امتلاك إيران القدرة على صنع أسلحة نووية، ذلك انه سيقلص مخزون إيران الى أقل بكثير من الكميات اللازمة لصنع سلاح نووي، وستستغرق إعادة تكوين الكمية اللازمة من أجل امتلاك تلك القدرة وقتاً”. الديبلوماسية الأميركية تعرف إيران جيداً، وتقدر المساحة زمناً وشكلاً والتي تدور فيها المراوغات والمماطلات الإيرانية.
ان صبر وحلم الرئيس أوباما، تركا للإيرانيين ـ موقتاً ـ أن يتحكموا ظاهراً بسير الأحداث، وحتى يتضح لشعبه ولشعوب العالم حجم المماطلات والمساومات الإيرانية، وحتى يحفظ للساسة الإيرانيين ماء وجوههم، وبعدها عليهم، ان يتذكروا المثل القائل: اتق غضب الحليم.
() كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –