الأخلاق و السياسة , دفاعا عن اللا سياسة
مازن كم الماز
رغم ارتفاع عدد المحجبات بشكل عام بين الفتيات و النسوة السوريات , و ربما العربيات عموما , فإن هذا لا يؤشر على ارتفاع أو تحسن في الحالة الأخلاقية العامة , تماما كما أن تزايد عدد مرتادي المساجد , و ربما دور العبادة الأخرى لبقية الأديان , ليس مؤشرا على نفس الشيء , إنه على العكس يترافق مع انحطاط أخلاقي غير مسبوق , من المؤكد أن الحجاب أو عودة مظاهر التدين بشكل عام ليست هي المسؤولة عنه , لكنها من دون شك جزء من الظاهرة , من المشهد الكلي , سواء أكانت سببا أم نتيجة . إن الموقف السائد من الأخلاق يقوم على النفاق , إن هذا الموقف ليس فقط مبررا على ضوء القيم و الممارسات السائدة , بل و صميمي في الممارسة و الوعي السائدين . لنأخذ على سبيل المثال الممارسة السياسية السائدة , إنها اليوم , كما أبدا , تحاول أن تزعم أنها أخلاقية و تقوم على أسس أخلاقية , لكنها بكل بساطة تتناقض بشكل مباشر مع الموقف الأخلاقي الذي يقوم على المنطق الإنساني البسيط و الأكثر صحة و صدقا في هذه الأحوال و في كل الأحوال . قضية ما تسمى بالعدالة في اغتيال الحريري مثلا واضحة جدا و بسيطة , رغم أن ذات المنطق الأخلاقي الإنساني البسيط يمتعض من أن اغتيال الحريري دون ال 150 ألف لبناني و فلسطيني الذين قتلوا في لبنان يستحق وحده العدالة , حتى أن منطق هذه العدالة العوراء يتجاوز الطرح الطائفي ذاته , فالحريري ليس السني الوحيد الذي قتل في لبنان , و لا رئيس الوزراء السني الوحيد الذي قتل في لبنان و قتلته يسرحون و يمرحون بل و يتفذلكون عن العدالة و ملاحقة المجرمين و القتلة , و لا السني الوحيد الذي قتل بأيدي شيعية إذا صح أن قاتله شيعي . و لا قضية مثل ما يسمى بشهود الزور تستحق التفكير هي الأخرى , فشهادة الزور وفق الأخلاق السائدة و المنطق الأخلاقي الإنساني البسيط مخالفة أو جريمة أخلاقية إن شئت , و من الغريب أصلا أن يكون ملاحقة شهود الزور أو على الأقل إلغاء شهادتهم , مثل قضية مقتل الحريري أو أي إنسان آخر , مجالا للجدل و الخلاف . لكن هذه السياسة يا صديقي , و الأكثر إمتاعا هنا أن تجد من يحاول أن يقنعك أن كل هذا الصخب له أساس أخلاقي , هذه هي قمة النفاق . في الحقيقة يقوم الإعلام التابع لهيك سياسة على عدة مبادئ , إن صح تسميتها بالمبادئ , منها أن الكذب الذي نقوله نحن وحلفاؤنا حقيقة و الحقيقة التي يقولها خصومنا كذب , أن من نقتلهم نحن أو حلفاؤنا يستحقون الموت وفق عدد لا ينتهي من المبررات و أن من يقتله خصومنا شهداء . أننا عندما نسرق فإننا نأخذ مالا حلالا لا شك في ذلك و أن ما لدى خصومنا مسروق ممن نريد نحن أن نسرقهم أي ليس الغرض إعادة المال لأصحابه بل أن يكون متوفرا لنسرقه بإذن الله طبعا . الحقيقة أن الوصايا العشر نفسها التي تدور حولها ما تسمي نفسها أديان سماوية و ما تلاها من إيديولوجيات شمولية نفسها وضعت لكي تنتهك من قبل أقلية محددة بعينها , بينما يعتبر الإنسان العادي إذا انتهكها , علنا , مجرما و غير أخلاقي . ليو تولستوي , الذي تمر هذه الأيام ذكرى رحيله المائة , سخر من أولئك الذين يقتلون رغم أن المسيح أوصاهم : لا تقتل , و استنتج أن كل الدول و الحكومات التي تمارس القتل تتصرف ضد تعاليم المسيح . الغريب و الشاذ في الموضوع أنه عندما يقوم شخص واحد بارتكاب جريمة قتل يكون عدد ضحاياه محدودا , أما عندما يصدر سياسي أو رجل دين أو جنرال أوامره بالقتل فعدد الضحايا يكون غير محدود , رغم أن هذا لا يسمى أبدا جريمة وفق منطق الأخلاق السائد , السياسي أو الديني على حد سواء , تصوروا معي هذه الواقعة , لقد قام رجال الدين السنة بتبرئة كل القتلة في أيام الفتنة من جريمة القتل , لم يمنعوا فقط تطبيق أحد حدود الله الواضحة و الصريحة جدا و البديهية إنسانيا في نفس الوقت , بل و اعتبروا كل من أصدر الأمر بقتل آخرين أكثر من بريء , اعتبروه مجتهد أيها السادة , و سموا هذا النفاق اجتهادا أيضا , و النخبة السياسية اللبنانية , من بري إلى جعجع , قامت بنفس الشيء تماما بالنسبة لل 150 ألف ضحية الذين مسحتهم من الوجود فبعد أن اجتهدت في قتلهم اعتبرت هذا اجتهادا حسنا أو مستحسنا على وزن الفقه الإسلامي و أنه قد حقق للبنان و لها و حتى لمن قتلتهم المصالح المطلوبة بإذن الله طبعا , مجازر ببشاعة الكارنتينا و الدامور و صبرا و شاتيلا اعتبرت و كأنها لم تكن , لا داعي للاستغراب فالنخب الحاكمة و المتنافسة أيضا مارست هذا خلال قرون طويلة بشكل “أخلاقي” تماما . و لذلك اخترعت النخب منذ القدم شيئا سمته القوانين , لأنه إذا كان من الصعب أن تكون بريئا وفق المنطق الأخلاقي الإنساني البسيط فإنه من الممكن تماما أن تكون بريئا أمام ما يسمى بالقانون و كانت مهمة هذه القوانين أن تقدم بديلا عن المنطق الأخلاقي الإنساني البسيط و المباشر أي أن تحاول تصوير أفعال النخب غير الأخلاقية على عكس ما هي عليه , و أضاف عليه التنوير المعاصر ما يسمى بالدساتير , لذلك فالنخبة السياسية لا تتحدث أبدا عن الأخلاق كيلا تجد نفسها أمام محاكمة المنطق الأخلاقي الإنساني البسيط بل تتحدث عن الدساتير و القوانين , إنها عندما تريد أن تشتم خصومها تتحدث عن لا قانونية أو عن لا دستورية أفعالهم , الأمر الذي لا يعني أي شيء على الصعيد الإنساني , و ليس من الغريب هنا أن يسمي رجال الأديان و القوانين الوضعية أنفسهم على حد سواء على أنهم فقهاء في هذه المواضيع أي ضليعين في تبرير أفعالهم أو أفعال أسيادهم . مثل الأخلاق المعلنة , بما في ذلك الدينية , وضعت هذه القوانين ( التي تسمى لذلك بالوضعية ) فقط لكي تنتهك على يد واضعيها و ممن يسمي نفسه حارسا عليها , مثلا حرمت الأديان التي تسمي نفسها سماوية السرقة , لكنها جميعا شرعنت و قوننت ما سمته أخذ الغنائم , أي أخذ ما يملكه الإنسان بعد قتله , هذه ليست فقط سرقة , إنها سرقة مسلحة , نهب , سرقة من نوع قذر و همجي , سرقة وقتل في نفس الوقت . و جميعها حرمت الزنا لكنها جميعها شرعنت و قوننت اغتصاب النساء اللواتي يتم أسرهن ممن تصنفهم على أنهم كفار أو أعداء , هذا أفحش من الزنا , لأن الزنا يتم برضا الطرفين أما هذا فجريمة اغتصاب بشعة , تضاف لقتل البشر و سلب أموالهم , ثم نسائهم و أطفالهم , همجية ما بعدها همجية , ترعاها الأديان التي تسمي نفسها سماوية و يكرر رجال دينها و سدنتها ليل نهار على البشر المقموعين المكبوتين ألا يقتلوا و ألا يزنوا و ألا يسرقوا .. الخ . و أضافت البرجوازية هنا ابتكاراتها الحداثوية , يقول البعض أننا نعيش عصر الحداثة و التنوير بل ما بعد الحداثة و التنوير , و خلافا لما قد يزعمه البعض فقد أدخلت الحداثة البرجوازية بالفعل فروقا نوعية في مستوى النفاق الأخلاقي , فالإعلام و السياسة المتنورة تعني أن تستخدم مقتل بضعة ألوف في مانهاتن , قتلهم بلا شك تعبير عن الهمجية في أبشع صورها بالتأكيد , لتبرر مقتل مئات الألوف في أفغانستان و العراق و وزيرستان و غيرها , و لو أن ما بعد الحداثة البوشية اعتمدت أيضا على وصول بوش لمرحلة الكشف الإلهي حيث أصبح يتلقى رؤى و أوامر إلهية مباشرة من ربه فيم يتعلق بقتل كل تلك الآلاف المؤلفة , يعج التاريخ بمهووسين على هذه الشاكلة لكن درجة تزييف هذه الظاهرة غير مسبوقة , و العنوان حداثوي و تنويري يا سيدي , نعم لقد غيرت الحداثة البرجوازية وجه العالم , فلا من نسميهم اليوم بالهمج أو إنسان الكهف و لا حتى الحيوانات المفترسة , و لا يأجوج و مأجوج في آخر الزمان , قتلت و ذبحت و سفكت الدماء كما فعلت الحكومات البرجوازية من بني الإنسان في المائة سنة الأخيرة , بل و أكاد أجزم أنه لو امتلك الهنود الحمر قنبلة نووية كتلك التي ألقاها الأمريكان على هيروشيما لما استخدموها ضد عدوهم الأبيض أيا تكن ظروف المعركة , وحده البرجوازي الهمجي المتنور و الحداثوي فاق كل القتلة على مر العصور , حتى فاشي كهتلر لم يجرؤ على استخدام هذه القوة المنفلتة الجنونية من الموت و الدمار , أما جمال باشا السفاح الذي سمي كذلك لأنه شنق 31 شخصا فهو بالكاد يمكنه أن يعمل اليوم كسائق في بلاك ووتر أو عريف في غوانتانامو , أما في غزة عندما كانت قوات ما تسمي نفسها دولة إسرائيل لا تستهدف المدنيين كما قالت هي انتهى بها الحال بأن قتلت أكثر من ألف منهم , هذا الهراء يملك البعض الوقاحة لقوله و الآخرون لترديده , إنجاز آخر للحداثة البرجوازية يستحق الذكر , فبعد أن حولت الحداثة البرجوازية حياتنا إلى لعبة كومبيوتر حولت موتنا , قتلنا , أيضا إلى لعبة كومبيوتر , أصبح قتل البشر اليوم لعبة كومبيوتر صماء يمارسها القاتل و هو يبتسم و يتأمل في شاشة ملطخة بدماء حقيقية هذه المرة . لن يتغير هذا حتى يجري إلغاء السياسة نفسها بما تعنيه من “فن” التحكم بالبشر , لتستبدل بشيء آخر سمه ما شئت لكن المهم أنه يعني , أن جوهره هو حكم البشر أنفسهم بأنفسهم
خاص – صفحات سورية –