إدراك تركي جديد للمنطقة، متى الإدراك المقابل ؟
مصطفى اللباد – اسطنبول
تقترب الطائرة من اسطنبول بعد ساعتين من الطيران فتبدو المدينة من الأعالي رائعة مثلما هي كذلك على الأرض، وعندما تحط بك الطائرة في المطار ينخلع قلبك عند رؤية ذلك التمازج العبقري بين الخضرة وقباب المساجد ووفرة الماء في خليط فريد يندر أن تراه في أي مكان بالعالم. وعلى الرغم من رؤيتي هذا المشهد عشرات المرات من قبل، إلا أن هذه المرة تحديداً كانت لها معان خاصة واستثنائية. ويعود السبب في تلك الخصوصية وذلك الاستثناء للعودة التركية الكبيرة إلى الشرق الأوسط في السنة الأخيرة، بعد غياب استمر تسعة عقود من الزمان، من طريق أدوات الاقتصاد ووسائل القوة الناعمة والتأييد المعنوي الكبير الذي تبديه تركيا للفلسطينيين في مواجهة آلة القمع الصهيونية.
تتخطى الزيارة لاسطنبول الآن الجوانب الوجدانية والمعمارية والتاريخية الحاضرة في كل الزيارات السابقة إلى تلك المدينة العريقة والرائعة، لتطاول عمق التوازنات السياسية والإقليمية في المنطقة. ببساطة لا يستقيم الآن تحليل المشهد الإقليمي في الشرق الأوسط بدون تركيا وحضورها فيه، لأن اسطنبول عادت من جديد لتصبح إحدى عواصم القرار الإقليمي، وليس مجرد دولة مجاورة ترتبط معها بعلاقات وجدانية خاصة كما كان الحال في الزيارات الكثيرة السابقة.
وتأتي العودة التركية إلى المنطقة تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، الذي يقدم في حد ذاته تجربة تستحق التأمل والبحث من حيث القدرة الظاهرة للحزب على ضبط الإيقاع الداخلي التركي والتوفيق بين مشاربه وأصوله الأيديولوجية التي بدت في مراحل سابقة متعارضة ومتصادمة مع التصورات التي تتبناها المؤسسة العسكرية النافذة في تركيا. وإذ تفرض العودة التركية الجديدة تحديات وميزات للعرب وللأتراك، فإنها أيضاً تستدعي مخاوف وطموحات من الطرفين، ولذلك يبدو التأمل في المشهد التركي الجديد ضرورياً لفهم مدركات تركيا لدورها والموزاييك الجديد الذي ترسمه سياستها الشرق الأوسطية الجديدة، وذلك كله سيشكل مدخلاً أساسياً للتعامل مع الواقع الجديد الذي تفرضه تركيا الآن في المنطقة.
شُيّدت اسطنبول تاريخياً على شبه جزيرة فيها سبعة تلال ولها أطراف ثلاثة هي: مرمرة والبوسفور والخليج، وكانت اسطنبول عاصمة الإمبراطوريات الرومانية والبيزنطية والعثمانية لمدة 1600 سنة متتابعة، وتعاقب على حكمها 120 ملكاً وسلطانا، وهيأ لها موقعها الجغرافي العبقري أن تربط بين قارتي آسيا وأوروبا. فالجزء الأكبر من تركيا أي حوالى 97,5 في المئة من مساحتها يقع في آسيا، في حين تقع النسبة الباقية في أوروبا. كانت قسطنطينوبوليس مدينة مسيحية بيزنطية قبل أن يفتحها السلطان العثماني محمد، والذي ذهب في التاريخ باعتباره “محمد الفاتح”، بسبب ضمه اسطنبول إلى إمبراطورية العثمانيين، ليتبدل اسم المدينة إلى الآستانة التي أصبحت حاضرة الشرق الكبرى وعاصمة الدولة العليّة العثمانية. استعمل السلطان محمد الفاتح لأول مرة في التاريخ المدافع ذات القطر الكبير عند فتحه المدينة العريقة، في تطبيق عملي للعلاقة العضوية بين امتلاك ناصية العلوم والمعارف التقنية والنجاحات العسكرية والسياسية.
تطل التلال السبع التي تأسست عليها اسطنبول على غابات، وتطل المدينة كلها على بحر مرمرة الذي يعد أصغر بحر في العالم ويربط البحر الأسود الواقع في شمال تركيا بمضيق البوسفور، ومنه إلى بحر إيجة الذي يفصل بينها وبين اليونان، ومن ثم أخيراً إلى المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط.
تجلس في حديقة الفندق الذي تنزل فيه والمطل على مضيق البوسفور مباشرة فتستدعي في ذاكرتك السلسلة البحرية التي تبدأ من البحر الأسود وتنتهي في البحر الأبيض ومعانيها الكونية العميقة، وأنت تلاحظ تلاطم حركة المياه الهادئة والقوارب والسفن الصغيرة وهي تمخر عباب مياه البوسفور في هدوء آسر. ثم ينصرف تفكيرك إلى الروابط التي تجمعك باسطنبول وجدانياً وتاريخياً. لا تملك ترف أن تكون محايداً في اسطنبول، فهذه الروابط تظل حاضرة في خلفية المشهد، فأن تكون مواطناً مصرياً فهذا ينبع من كونك ولدت من أبويين مصريين، ولكن تقلبات التاريخ تترك آثارها أيضاً على وضعيتك القانونية وليس الوجدانية فحسب. والمثال على ذلك أن أباك قد عاش شاباً ليكون مواطناً في دولة الوحدة المصرية – السورية، أي في الجمهورية العربية المتحدة، أما جدك الذي ولد في نهايات القرن التاسع عشر كمواطن في مملكة مصرية ترتبط بوشائج قانونية وتعاقدية مع الدولة العلية العثمانية، فقد كان مواطناً عثمانياً أو كما يقول الأخوة الأتراك: (عثمانلي وطن داشيم).
يبدو تقلب العصور السياسية والأشكال القانونية أمراً طبيعياً في منطقتنا، وهو الأمر الذي يجعل الروابط الوجدانية والحضارية والتاريخية تلعب دوراً مؤازراً في التقريب بين العرب والأتراك عموماً، والمصريين والأتراك خصوصاً. ولكن في الناحية المقابلة تلحظ أن ملامح التاريخ والسياسة الدولية تغيرت بشكل جذري في الفترة الواقعة من انهيار السلطنة العثمانية عام 1923 وقيام الجمهورية التركية على أنقاضها حتى يومنا الراهن حيث جرت مياه كثيرة في أنهار تركيا وبحارها. تنهض من جلستك لتذهب إلى النوم بعدما اعترفت لنفسك أن العوامل الوجدانية لا بد لها من الانزياح عن صدارة المشهد التحليلي، ذلك أنّ المصالح الوطنية هي المحك الذي ترسم عليه الدول المختلفة اتجاهات تحالفاتها الإقليمية والدولية وفقاً لمدركاتها عن هويتها الوطنية وجوارها بالإضافة طبعاً إلى اتساق كل ذلك مع وجدانها الجمعي.
•••
لم تكن مسألة الهوية الوطنية التركية يوماً محل إجماع في تركيا منذ إعلان الجمهورية عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك وحتى اليوم. وتعد الهوية باعتبارها مدركات الدولة لنفسها في مواجهة محيطها الجغرافي؛ من أهم العوامل الحاكمة في رسم السياسة الإقليمية للدول. وبالرغم من دورها الانطلاقي والأساسي في رسم السياسات الإقليمية والخارجية؛ فإن الهوية الوطنية لا يمكن حسابها بالطرق الاعتيادية المتبعة في قياس قوة الاقتصاد ومدى ارتباطه بالاقتصاد العالمي، أو قياس نسبة الصادرات إلى الواردات، وغير ذلك من المعايير الثابتة. لذلك فمن الطبيعي أن تختلف مدركات هذه الهوية من حزب إلى آخر ومن فصيل سياسي إلى غيره من الفصائل خصوصاً في دول العالم الثالث، وهذا الاختلاف يقود إلى اعتماد البرنامج السياسي للأحزاب الحاكمة على رؤى بعينها في القضايا المختلفة ومنها طبعاً السياسات الداخلية والإقليمية والخارجية.
تبدو هذه الحقيقة ثابتاً في إدارة العلاقات الدولية ورسم السياسات المختلفة للدول، بحيث يمكن تقدير أنها لا تنطبق على الحالة التركية فقط، بل تختزل في نفسها أهم العوامل على الإطلاق في توجيه ورسم السياسات الإقليمية للدول المختلفة. وإذ تستند السياسات الإقليمية للدول على مجموعة من الركائز المعروفة في العلوم السياسية مثل: التحالفات الدولية والموقع الجغرافي والإمكانات البشرية والاقتصادية، إلا أنها لا تقتصر في الواقع على ذلك فقط، حيث تلعب الروابط التاريخية دورها الكبير في رسم سياسات الدول.
يتطابق إدراك المؤسسة العسكرية التركية، التي سيطرت تاريخياً على مقاليد السياسة التركية، لهويتها مع التوجه الأوروبي العام لتركيا. والأخير بدا حلقة متصلة منذ إعلان الجمهورية وحتى اليوم باستثناء فترات تاريخية قصيرة نسبياً اختلف فيها إدراك الحكومات التركية هويتها عن العسكر. وتتمثل هذه الفترات في مدة حكم حزب الرفاه الإسلامي بقيادة الزعيم التاريخي للإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان في الفترة الواقعة من 1996 وحتى 1997، وكذلك فترة حكم حزب العدالة والتنمية المطعّم بجذور إسلامية من عام 2002 وحتى الآن. وإن كان الحزب الأخير مثله مثل كل الأحزاب التركية المتعاقبة على الحكم منذ الثمانينات، يسعى بكل قوة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي كسياسة ثابتة، الا أنه يدمج هذا التوجه العام بتوجه مواز إلى الشرق الأوسط، وهو ما يمكن اعتباره التجديد الأبرز في السياسة الخارجية لتركيا منذ انتصار الحزب قبل سبعة أعوام في الانتخابات البرلمانية. واستطاع هذا الإدراك المتميز نسبياً لحزب العدالة والتنمية لهوية تركيا الوطنية، من حيث هي أوروبية وشرق أوسطية أيضاً، أن يوجه السياسات الإقليمية لتركيا بشكل مختلف بعض الشيء عن الحكومات السابقة. ومع مرور السنوات منذ 2002 وحتى الآن أصبح لهذا الإدراك الشرق الأوسطي مؤيدون حتى من دوائر خارج حزب العدالة والتنمية، ومرد ذلك أن ذلك التوجه يضمن لتركيا دوراً رئيساً في الشرق الأوسط الجديد، بما يضمن ويعزز في النهاية المصالح الوطنية التركية، بما فيها استخدام هذا الدور لتحقيق غاياتها في الانضمام للاتحاد الأوروبي. على ذلك لا ينبع التوجه التركي الجديد نحو المنطقة وقضاياها من اعتبار عاطفي أو حتى من مدركات حزب العدالة والتنمية الحاكم لهوية تركيا ودورها فقط، بل من المصالح الوطنية التركية التي تجمع عليها مؤسسات البلاد وأحزابها السياسية المختلفة. ولما كانت العودة الجديدة لتركيا إلى المنطقة تتزامن مع عوامل مواتية ودافعة لهذا الدور، من متانة اقتصاد وقوة نظام سياسي إلى فراغ إقليمي كبير وتحالف تركي واسع المدى مع القطب العالمي الأوحد، فضلاً عن علاقات خارجية تمتاز بالتنوع والخلو من المشاكل حتى مع “أعداء تاريخيين” مثل اليونان وأرمينيا، يبدو أن ريح الشرق وريح المصالح أيضاً تدفع شراع السياسة الخارجية التركية الجديدة في مياه الشرق الأوسط المضطربة.
•••
شاركتُ في منتدى الشرق الأوسط الذي عقد في اسطنبول في 18-20 تشرين الأول إلى جانب مئتين من الخبراء وصناع السياسة جاؤوا من دول الشرق الأوسط المختلفة ومن أوروبا وأميركا، وافتتح المؤتمر بكلمة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حرص فيها على مواصلة السياسة التركية الجديدة الخاصة بالابتعاد عن إسرائيل، التي انتقدها مرة جديدة لسياستها حيال الفلسطينيين ولجرائمها في حرب غزة. ولم يفت أردوغان التذكير بأن انتقاده دولة الاحتلال الصهيوني لا يأتي بسبب كونه مسلماً، ولكن بسبب كونه إنساناً يتضامن مع المأساة الإنسانية التي يمر بها الفلسطينيون.
وشى تنظيم المؤتمر بإدراك تركي جديد للمنطقة ودور تركيا فيها، وهو الإدراك الذي يتجاوز في عمقه ومضمونه مجرد تضامن عاطفي مع مظلومية الشعب الفلسطيني ليطاول الدور الجديد الذي تتطلع تركيا إلى لعبه في هذه المنطقة من العالم. تبدو تركيا وكأنها استوعبت دروس التاريخ واكتشفت شرق أوسطيتها من جديد، لتعود في أشكال كثيرة ومتنوعة إلى ساحات المنطقة، من مبادرات سياسية وشراكات اقتصادية ومؤتمرات نخبوية، كي تنفتح – من موقع الفاعل – على جوارها التاريخي والجغرافي والحضاري. قد يقول قائل إن الثمن السياسي الذي تدفعه تركيا لقاء مواقفها من تل أبيب متدن جداً في مقابل المكاسب المعنوية الكبيرة التي تحصدها في الشارعين العربي والإسلامي، مما يسهل عودتها إلى المنطقة وسط ترحيب شعبي كبير بالرغم من أن تركيا مازالت تحتفظ بعلاقات جيدة مع تل أبيب ولم تقطعها، وهو أمر يبدو صحيحاً في أحد جوانبه.
يقول الجزء الآخر من الصورة إن تركيا – في الحد الأدنى- تروم القيام بعملية إعادة تموضع لنفسها في المنطقة، والخروج من قفص العلاقات المتميزة مع تل أبيب، والتي ورثتها من مرحلة تاريخية سابقة، لأن ذلك سيحد من قيام تركيا بدورها الجديد الذي تسعى اليه وتتطلع. كما أن تركيا الراغبة في لعب دور “المرجعية الإقليمية” المقبولة يتعين عليها التنديد بالعدوان أياً كان مصدره، وإلا فقدت جدارتها المرجعية. ولا يعني ذلك أن تركيا أنها بصدد قطع علاقاتها مع تل أبيب أو أنها ستنضم إلى المحور الذي تقوده إيران في المنطقة، بل إنها تتلمس طريقها بذكاء في بيئة إقليمية ملتهبة وفي ظروف دولية مضطربة. في كل الأحوال ينبغي دعم التوجه التركي الجديد، مع فهم دوافعه المركبة طبعاً، وليس الانخراط في محاولة اصطياد جوانب العوار في مواقف تركيا، وصولاً إلى اختلاق الأعذار لنكوص النظام العربي الرسمي أو الاعتذار عن هناته.
تناول المؤتمر أيضاً الملف النووي الإيراني وتطوراته، وكان لافتاً أن غالبية المشاركين الأميركيين انطلقوا في مداخلاتهم من فرضية أن إيران هي “خصم تركيا” العنيد، وأن من مصلحة أنقره تحجيم النفوذ الإقليمي لإيران، ولكن القراءة المتأنية للمصالح التركية في المنطقة تجد أنها لا تتطابق بالكامل وبالضرورة مع تلك التصورات.
تتنافس تركيا موضوعياً مع المشروع الإيراني في المنطقة، ويبدو أن هناك فروقاً واضحة بين أدوات كلا من المشروعين، فالأول يرفع لواء “الممانعة” ضد الولايات المتحدة ودولة الاحتلال الصهيوني ويتحالف مع أحزاب وحركات سياسية تناوئ واشنطن والنظم السياسية القائمة، في حين يرفع الثاني لواء “التحديث والانفتاح” على خلفية نجاحات اقتصادية وديموقراطية ويتحالف مع واشنطن وينفتح على دول المنطقة بمعناها القانوني والمؤسسي. وبالرغم من هذه التمايزات الجوهرية في طبيعة المشروعين وأدواتهما، إلا أنهما يتقاطعان في مسائل متنوعة منها الاتفاق على تحجيم الطموحات الكردية التي فارت مع احتلال العراق عام 2003 وتثبيت منطقة الحكم الذاتي للأكراد تحت المظلة الأميركية، ويتفقان أيضاً على لجم العربدة الإسرائيلية في المنطقة على خلفية المصالح الوطنية لطهران وأنقره قبل أية اعتبارات أخرى. وتمتد موضوعات الاتفاق لتشمل أيضاً الجانب الاقتصادي، لأن تركيا تؤهل نفسها لقيام “خط نابوكو” الذي ينقل نفط وغاز بحر قزوين عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، وإيران باحتياطاتها الضخمة من الغاز هي من أبرز الموردين المحتملين لهذا الخط المهم لتركيا اقتصادياً وإستراتيجياً.
تقول وقائع التاريخ إن الحدود الإيرانية – التركية مازالت قائمة بدون تعديل أو مشاكل حدودية منذ معاهدة زهاب التي وقعتها إيران القاجارية والسلطنة العثمانية عام 1639، أي قبل حوالى أربعة قرون، وهو ما يعني وجود حد أدنى من علاقات حسن الجوار بين أنقره وطهران يجمعهما سقف معقول من المصالح المتبادلة. ولذلك فالطبيعة المزدوجة للعلاقات التركية – الإيرانية تستعصي على التصنيف أحادياً، بحيث أن أنقره تتنافس مع طهران فعلاً ولكن الطبيعة التنافسية لا تحجب ولا تمنع طبيعة تعاونية أيضاً تميز هذه العلاقات. وبالإضافة إلى كل ذلك لا مصلحة حقيقية لتركيا في امتلاك إيران قدرات نووية عسكرية مثلما لا مصلحة لديها في ضربة عسكرية لإيران بسبب مصالحها فيها ومنها، لذلك يجري رسم تركيا سياستها الشرق الأوسطية وضمنها علاقاتها مع إيران وفق موازين دقيقة وعلى خلفية تحالفات أوسع، وبشكل يشبه إلى حد كبير لوحات الموزاييك التركي الشهير. وفن الموزاييك فن شرقي بامتياز، فيه تصطف أحجار يصل عددها في بعض الأحيان إلى عشرات الألوف بأشكال مختلفة وألوان متنوعة إلى جوار بعضها البعض لتشكل سوياً لوحة فريدة، وتستمد لوحات الموزاييك خصوصيتها من حرفة الصانع وجودة الأحجار وتميز شكل اللوحة. ولا يمكن استنساخ لوحة الموزاييك الأصيلة لأن وضع حجر قبل آخر أو بلون آخر من شأنه أن يخلق لوحة جديدة تماماً. وتشتهر تركيا وخصوصاً مدن إزنيك وكوتاهية بصنع لوحات الموزاييك المستلهمة من التراث العثماني، ذلك الذي يشكل ركناً أساسياً من أركان الفن التركي الأصيل. دخل مصطلح الموزاييك باب العلوم السياسية من أوسع أبوابه للإشارة إلى تنوع العناصر في اللوحة السياسية لبلد ما، فيقال الموزاييك العرقي للبلدان التي تضم بين سكانها أعراقا متعددة أو الموزاييك الطائفي للبلدان المتعددة الطائفة وهكذا.
•••
تشكل تركيا ذاتها موزاييكا فريدا من الأعراق (أتراك، أكراد، عرب، أرمن، شركس، لاز) والطوائف (السنة والعلويين والمسيحيين الأرثوذكس)، بحيث تجد مفردة الموزاييك في تركيا وسياستها الخارجية الجديدة ترجمتها العملية الأدق. تقضي الفكرة الحاكمة في التوجه التركي الجديد نحو الشرق الأوسط أن تركيا تملك عناصر قوة تمكنها من لعب دور الضامن للاستقرار والطرف المقبول من كل الأطراف، لذلك لا يتوجب على تركيا الانخراط في تحالف مقابل تحالف آخر، ولكن بناء صورتها الجديدة باعتبارها “المرجعية الإقليمية” المقبولة من كل الأطراف، وهو ما نجحت فيه تركيا حتى الآن وإلى حد كبير. بمعنى آخر لا يقتصر الموزاييك في تركيا الحالية على الطوائف والأعراق، ولا على اللوحات الفنية الجميلة، بل يتعدى ذلك كله إلى تنويع علاقات تركيا الخارجية وعدم حصرها في تحالف واحد، لأن ذلك سيؤدي إلى فقدان الجاذبية والقدرة على المناورة.
ربما يُعدّ وزير الخارجية أحمد داود أوغلو مهندس هذه السياسة التركية الجديدة. ففي حين تتحالف تركيا دولياً مع الولايات المتحدة الأميركية فإنها قامت بتحسين علاقاتها مع روسيا بشكل ملموس، مثلما تملك تركيا علاقات تاريخية مع تل أبيب منذ العام 1948 إلا أنها أصبحت تملك في المقابل في السنوات الأخيرة علاقات ممتازة مع سوريا وعلاقات طيبة مع العراق ومعظم الدول العربية فضلاً عن اقترابها الملحوظ من القضية الفلسطينية، وصولاً حتى إلى وساطتها الأخيرة بين الدولتين العربيتين العراق وسوريا في حين عجزت الجامعة العربية عن ذلك.
وتحتفظ تركيا على المنوال ذاته بعلاقات تاريخية مع تركمان العراق، إلا أنها مددت مروحة علاقاتها في العراق لتشمل العرب السنة والعرب الشيعة وحتى خصومها الأكراد. وإذ تعتبر تركيا نفسها أخاً أكبر لأذربيجان التي تتحدث اللغة التركية، فإنها حسنت مع ذلك علاقاتها كثيراً مع أرمينيا غريمة أذربيجان. إنها بالفعل لوحة موزاييك من نوع خاص ترسمها تركيا في المنطقة.
تملك تركيا المؤهلات التاريخية والجغرافية والسياسية والاقتصادية اللازمة كي تنجح في دور “المرجعية الإقليمية” في الشرق الأوسط، فهي تقدم أفضل نموذج سياسي للتناوب على السلطة في المنطقة، وهي أكبر اقتصاد بين دول الشرق الأوسط إذ تحتل المركز 17 بين أكبر اقتصادات العالم قبل السعودية وإيران النفطيتين. وعلاوة على كل ذلك حباها الله بإطلالة جغرافية عبقرية، بحيث تبدو تركيا مثل شريحة أفقية هابطة من السماء بين البحر واليابسة، مما يجعلها تتحكم بالممرات البحرية الموصلة بين البحرين الأبيض والأسود، مثلما تطل على أقاليم جغرافية متنوعة تبدأ بالقوقاز وآسيا الوسطى شرقاً والقارة الروسية شمالاً، والبلقان وأوروبا غرباً وإيران والعراق وسوريا جنوباً. وبالرغم من ذلك، فإن أهمية تركيا لدى شعوب الشرق الأوسط لا تقتصر على عوامل السياسة والاقتصاد والجغرافيا فحسب. إذ أن روابط التاريخ التي ربطت العرب بتركيا منذ مئات السنين لا تزال ممتدة على كامل مساحة الذاكرة والتراث العربيين.
ومع الوجود التركي الكبير في الذاكرة والمستمد من الحضور العريض للدولة العليّة العثمانية في ماضي المنطقة وحاضرها، إلا أن الإدراك العربي، الشعبي والنخبوي، لتركيا مازال أدنى من المطلوب بكثير للتعامل مع مقتضيات الجغرافيا والتاريخ والمصالح. ولأن الجغرافيا هي قدر الأمم، يجب على العرب التعامل مع تركيا بصفتها جاراً تاريخياً وحضارياً وأمراً واقعاً يثبت حضوره في الفراغ العرمرم الضارب أطنابه في المنطقة، وباعتبارها شريكاً يُتفق معه ويُختلف.
وحتى لا تكون المطالبات في اتجاه واحد، ربما تكون تركيا وأحزابها المختلفة مطالبة بإبراز أكبر لأفكارها ورؤاها للمنطقة وأن تتفاعل بجدية أكبر مع قضاياها. الرؤية الموضوعية لتركيا ومدركاتها عن ذاتها ودورها هي الشرط الأساس للتحاور معها على قاعدة المصالح المتكافئة لكل طرف، وهي قبل كل ذلك المدخل الذي لا مندوحة عنه للإطلالة العربية على الجار التاريخي وشريك الحاضر والمستقبل الذي يقدم تجربة سياسية متعددة البعد والوجه والمليئة بالدروس والعبر!
(رئيس مركز الشرق للدراسات الاستراتيجية – القاهرة)
النهار