تركيا المشرقية.. بدأت تكتيكاً وانتهت استراتيجية
البيان الإماراتية
حسين العودات
أخذت تركيا تتجه غرباً وربما «تتغرب» طوال ثلاثة أرباع القرن، منذ إسقاط الخلافة والإمبراطورية العثمانية حتى نهاية القرن الماضي، وسلكت خلال هذه المدة سبلاً وأساليب مختلفة، وغيرت أهدافها، ومارست تجارب متعددة ومتنوعة، وحاولت سلخ جلدها دون أن تكتسي جلداً جديداً، فتخلت عن تراثها العثماني، لكنها لم تتأقلم مع التراث الأوروبي المعاصر.
وتبنى مصطفى كمال أتاتورك الشعارات الأوروبية والطقوس الأوروبية، وافترض أنها تناسب حاجات شعبه في التحديث والتطوير والتنمية، سواء منها رفع رايات «العلمانية» أم إدانة «الطربوش» وتمجيد «البرنيطة».
ولأن العلمانية نهج حياة ينبني على تاريخ ثقافي وقيمي ومفاهيم ومبادئ ومثل، لم تكن موجودة أو متوفرة في المجتمع العثماني، فقد تحولت مع النظام الجديد إلى طقوس لا معنى لها وليست مؤثرة جدياً في حياة المجتمع وثقافته، كمنع المرأة من لبس الحجاب، أو تبني الحرف اللاتيني بديلاً عن الحرف العربي، وتنحية السلوك العثماني جانباً، وبناء مجتمع جديد على فراغ وبدون أساس.
وتجاهل أتاتورك (أو كان يجهل) معايير الدولة الحديثة الأساسية، كالديمقراطية والحرية وتداول السلطة وفصل السلطات، فحوّل النظام العلماني إلى نظام حكم عسكري ينقلب على السلطة كما يشاء تحت شعار التمسك بالعلمانية، وصار ذلك تقليداً.
وكيفما حاورت أهل النظام فستسمع منهم الحرص على العلمانية وهم في الواقع يجهلونها، لأن ألف باء العلمانية هو احترام حريات الناس وعقائدهم، وهذا ما لم يطبقه النظام التركي منذ مصطفى كمال أتاتورك حتى نهاية القرن.
استكمالاً لهذه السياسة الساذجة، والفهم الخاطئ للتحديث والعلمانية، أقام النظام سياساته الخارجية على أسس غربية لم تحترم الظروف والشروط القائمة ولا حتى مصالح تركيا، فأدار ظهر تركيا لفضائها الإسلامي والشرقي، وأهمل الجغرافيا والتاريخ والثقافة والتراث.
وأخذ يلهث وراء أوروبا رائدة «التحديث والعلمانية والدولة العصرية»، فدخل في حلف شمال الأطلسي (وما علاقة تركيا بشمال الأطلسي؟)، ورضي أن يكون رأس حربة أميركية معادية للاتحاد السوفييتي تحت شعار محاربة الشيوعية، وأهمل فضاءه التركي في وسط آسيا، والإسلامي في جنوبها وغربها.
وأقام علاقات استراتيجية مع إسرائيل إرضاء لأسيادها، فضلاً عن مزيد من الخدمات أو تطبيق السياسات الموالية للغرب، دون أن يرضي أوروبا أو يقنعها بقبول تركيا في سوقها المشتركة أو منظومتها السياسية، ولم تنفعه شعارات الحداثة التي رفعها، أو قطع صلاته مع جذوره، وبقي كالطير الذي نسي مشيته الأصلية دون أن يتعلم مشية غيره.
مع حزب العدالة والتنمية غيرت تركيا سياستها الخارجية، وربما كان التغيير في أول الأمر تكتيكياً يخدم مصالحها الآنية والعاجلة، فأخذت تهتم بعالمها التركي والشروط الجغرافية حولها، وعلاقتها بالعرب والمسلمين.
وطالما صرح سياسيوها أن هذا التغيير سيكون عاملاً مساعداً في لعب دور الوسيط بين أوروبا وبلدان المشرق (العربي والإسلامي)، وعليه فهو تكتيك عارض من شأنه أن يحرض الأوروبيين (ويقنعهم) بقبول تركيا عضواً كامل العضوية في عالمهم.
وربما لم يكن في ذهن هؤلاء السياسيين أن هذه السياسة الجديدة تصلح كي تكون استراتيجية كاملة متكاملة ونهائية، وليست تكتيكاً مؤقتاً وعارضاً ومحرضاً للأوروبيين لفتح الباب لتركيا كي تدخل عالمهم، وللأميركيين كي يقتنعوا بأنها يمكن أن تلعب دوراً إقليمياً كبيراً جداً، وتتأهل لتلعب دوراً تستحقه.
وهكذا سار سياسيو «العدالة والتنمية» في سياستهم الجديدة، المتمثلة في الاهتمام بمداهم الحيوي الممثل بحزام الدول المحيط ببلدهم، من سوريا إلى العراق إلى إيران إلى أرمينيا وأذربيجان وصولاً إلى روسيا، فضلاً عن اليونان وقبرص وغيرها. ويبدو أن الساسة الأتراك وجدوا أن هذه السياسة التي بدأت تكتيكاً، تصلح لتكون استراتيجية وأهدافاً أساسية، من شأنها أن تؤمن مصالح بلدهم وتيسر لهم لعب الدور الإقليمي المطلوب والمرغوب.
وبدلاً من التدليس لدول أوروبا وللولايات المتحدة لقبول تركيا بين صفوفها، حتى لو كانت شريكاً من الدرجة الثانية، جعلت هؤلاء يسعون وراءها لتدخل عالمهم ويستفيدوا من إمكانياتها.
إن تبني مثل هذه الاستراتيجية يقتضي من الحكومة التركية أن تغير سياساتها السابقة، وتلتزم سياسة جديدة تتواءم مع الشروط الجديدة والأهداف الجديدة، وعلى رأسها إقامة علاقات متينة وجدية وواسعة الطيف مع دول الجوار ودول المنطقة عامة، وتحجيم العلاقات مع إسرائيل، والحذر من تنفيذ السياسة الأطلسية كيفما كان.
وهذا ما طبقته حكومة حزب العدالة والتنمية، فأقامت علاقات جديدة مع العراق، حيث وقع رئيس الوزراء التركي مع العراق أربعين اتفاقية، كما أسست علاقات جديدة مع سوريا وستوقع معها أيضاً أربعين اتفاقية في شهر ديسمبر المقبل، وتتباحث مع إيران للوصول إلى اتفاقات مماثلة.
وأقامت علاقات دبلوماسية مع أرمينيا، وعقدت صلات مع دول الخليج، ومع دول وسط آسيا، ولم تعد علاقاتها مع إسرائيل استراتيجية، وألغت تنفيذ مناورات عسكرية مشتركة.
وصار واضحاً أن السياسة التكتيكية التي اتبعتها، أخذت تتحول إلى سياسة استراتيجية، وأن تركيا بدأت تجد نفسها في فضائها المشرقي.
إن صح افتراض أن التكتيك تحول إلى استراتيجية في السياسة الخارجية التركية، فينبغي أن لا يشوش الوهم رؤيتنا، لأن هذا لا يعني أن الطلاق تحقق بين تركيا وأوروبا أو بين تركيا والعلمانية. فلا شك أن تركيا ستستمر في سعيها للدخول إلى المنظومة الأوروبية، ولكن ليس دخولاً متسللاً هذه المرة.
كما أنها ستبقى علمانية ولكن علمانيتها ستكون رحبة (وعلى أصولها)، تنطلق من حرية الرأي والمعتقد واحترامهما، ومن الاعتراف بالحقوق الثقافية والسياسية والقومية لمواطني تركيا الآخرين كالأكراد والعرب وغيرهم.. وهذا ما بدأ المراقبون يلمسونه في السياسية التركية الراهنة.