علمانية تركيا و«علمانية» الإسلام السياسي
عمار ديوب
دار نقاش واسع في الصحافة العربية حول أهمية الإسلام التركي كبوصلة خلاص للإسلاميين العرب، إذا هم اهتدوا بالتجربة، التي توحي بإمكانية التوفيق بين الإسلام السياسي والديموقراطية، بل حتى بين الإسلام والعلمانية بحسب آمال البعض، هؤلاء الذين يدعمون حجتهم هنا بأن هناك توافقاً كبيراً بين العلمانية الأميركية والمسيحية، وهذا بخلاف العلمانية الفرنسية، التي تمنع أي تداخل بين الدين والدولة والسياسة، وهم لا يترددون في التشنيع بتهميشها للأديان.
هذه الرؤية تتجاهل أن الواقع التركي مختلف عن الواقع العربي، ذلك أن الواقع التركي الحالي هو نتاج علمانية أتاتوركية شبيهة بالعلمانية الفرنسية لا بالعلمانية الأميركية. وفي تركيا، كان لا بد من خطوة أتاتورك، كي يتم التخلص من إرث الماضي الثقيل، الذي كان يتمثل في الهيمنة الطبيعية للدين على السياسة إبان القرون الوسطى، والتوجه نحو المستقبل، وهذا ما تطلب إنهاء الخلافة الإسلامية وكل الهيئات الدينية القديمة ومحاربة مختلف المجموعات الدينية الارتدادية كما حصل مع ثورات العام 1925 وغيرها، والسير قدماً نحو تأسيس دولة علمانية خالصة.
إنّ أثر العلمانية على المجتمع التركي كان عاماً وشاملاً لمدة أربعة عقود متتالية، ترسخت فيها في كل مجالات الدولة، وبالتالي صار كل من يحيد عن العلمانية بعد ذلك، كما لو أنه يعادي الدولة ومؤسساتها، وكل من يريد ممارسة نشاطاته السياسية والثقافية وغيرها، عليه أن ينطلق من هذا المبدأ، وكل تداخل جديد بين الدين والسياسة لا بد من محاسبته وملاحقته قانونياً.
هذا أساس العلمانية التركية وهو أساس العمل السياسي، وبالتالي صار على الأحزاب السياسية التي تأخذ بالدين مجدداً في تركيا، أن تنطلق من هذا الأساس، ولأنها تنطلق منه، فإن الدين لديها لا يغدو هو المقدس، بل يصبح الدين رمزا للحضارة العربية الإسلامية بأبعادها المتنوعة. وهو ما يحول عمل الحزب السياسي «الإسلامي» إلى حزب سياسي مدني يعي مصالحه ومصالح الفئات التي يدافع عنها ويضع خطة عمل، غير مستقاة من النص الديني، بل من العلوم الحديثة والواقع الجديد في تركيا، وبذلك يصبح الدين بمثابة قيم عامة يمكن الأخذ بها ويمكن عدم الأخذ بها.
الإسلام التركي المدني يأتي تصاعده في إطار موجة عالمية تستفز الدين، وتستجديه، وهي موجة تطال الدول الأوربية والعالم، وتحبذها الأنظمة العالمية في مغرب العالم ومشرقه، نظراً لحجم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تواجه العالم والتي تتطلب تخديراً للوعي، وليس أحسن من الدين شيئاً في ذلك، خاصة حين يذوب العقل في مشاهد الجنة..! ولذلك قيل عن حروب الحضارات وحوار الحضارات والرؤى الدينية لرؤساء العالم وغير ذلك، وتمّ تنشيط الجمعيات الدينية في العالم على اختلاف أشكالها، وهناك عمل كثير تمّ في منطقتنا العربية من أجل تنشيط الدين والمزاوجة بين الدين والسياسة بالمعنى الأيديولوجي والسياسي. ولكن، حين يصل الإسلام السياسي إلى مستوى الجهاد المسلح أو الحركة المسلحة أو الهوس الجهادي، أي حين تتناقض مصالح تلك الحركات مع الأنظمة أو مع الولايات المتحدة الأميركية، ولنا خير مثال هنا في تنظيم «القاعدة»، ففي هذه الحالة يتم اجتثاثها. ولكن تخريب العقول يكون قد فعله فعله، أي تكون كارثة تحويل الدين الشعبي إلى دين سياسي وجعل الدين ديناً ودنيا، قد صارت أمرا مقضيا. تلك هي الأجواء التي تأثرت فيها تركيا بشكل أو بآخر، وما تشهده من تصاعد للقوى الدينية له علاقة بما حدث في عالمنا العربي وفي العالم، ولكن الأساس العلماني والطغمة العسكرية المرذولة الآن في تركيا هي بالضبط من يجب أن يثمن في تاريخ تركيا وذلك من أجل اللحظة الراهنة العربية، لأنها تضع إسلام تركيا كنموذج ديموقراطي، وكمثال مرغوب للتحول نحوه وتقليده.
الذي يستطيع الاستفادة من الإسلام التركي هو الإسلام الشعبي لا الإسلام السياسي، حيث يفضل عامة الناس، العيش المشترك مع كل أفراد المجتمع بعيداً عن التعصب وفي أجواء الانفتاح والتواصل الإنساني بعيداً عن التمذهب في العلاقات، وهو ما يعني تفضيله الوعي الديني الذي يفصل بين الدين والسياسة أو الدين والعلم، وهو بالضبط ما يحاربه الإسلام السياسي والأنظمة العربية التي تحافظ على دور سياسي للدين تحت الإشراف المباشر أو موضوع في الخدمة وتحت اليد.
موضوعنا يتحدّد بأنّه يُطرح في واقعٍ عربي شديد التأزم، فالطائفية السياسية لها حظوة واسعة، وتعمل الأنظمة العربية من أجل ديمومة هذا الواقع المتأزم، ففيه تتأبد، وبالعلمانية أو الحداثة المنسجمة، تزول. ميزة تركيا في تجذيرها للعلمانية كنظام سياسي، وهو الشرط المفتقد في عالمنا العربي، ووجود بعض أوجه العلمانية في الدول العربية، لا يقلل من تحليلنا السابق بل ربما تكون لتلك الأوجه القليلة دور السند نحو نظام علماني ديموقراطي، يفصل بين الدين والسياسة ويحيد الدين ويمنع تسخيره وإنزاله من قدسيته لغايات سياسية، ويحول المجال العام إلى مجال وضعي محض، والمجال الديني إلى مجال شخصي. وبذلك يمكن أن تتأسس السياسة وضعياً، ويصبح الحزب السياسي الذي يأخذ بالدين، إنما يأخذ به بالمعنى الثقافي والأخلاقي والتاريخي لا بالمعنى النصي، الذي هو متناقض مع الحداثة وروح العصر.
مقالتنا هذه تنفي أن يكون الإسلام السياسي العربي الحالي يتماثل أو يمكن أن يتماثل بالتركي. على أنه يستطيع أن يكون كذلك فقط حين ينزع عن ذاته رداء القداسة المتوهمة وأساطير ظل الله على الأرض، وأن يقدم نفسه كحزب مدني ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي بعيداً عن الطائفية والتكفير وإمكانية الاستبداد بالآخر حين تنتهي حفلة صناديق الاقتراع ولعبة الديموقراطية، وهو ما عرف بالديموقراطية لمرة واحدة.
السفير