ثلاثة نماذج شرق أوسطية
زياد ماجد
يبدو الشرق الأوسط، وهو تسمية لمنطقة تتراوح تعريفاتها الجغرافية بين حدّ وحد وفقاً لخلفية المستخدم ومراميه، مساحة بائسة تبرز فيها دول قوية ثلاث: إسرائيل وإيران وتركيا.
الأولى، مهجوسة بالأمن والديموغرافيا، تحكمها شراسة عدوانية بحجة الخوف، وتتصرّف كقلعة محاصرة تبني الجدران العازلة مع محيطها الفلسطيني المباشر وتسعى الى قهره وقطع الماء والهواء عنه ليقرّ لها احتلالها وتوسيعها ما زرعته من مستوطنات وحواجز ونقاط تفتيش ومراقبة فوق أراضيه.
الثانية، توسّعية، تبحث عن جسور ومواطئ أقدام في الدول المحيطة بها، وتبني تحالفات مع أقليات مذهبية هنا وهناك، إنطلاقاً من إيديولوجيا وبترو دولار وطموح نووي، وانطلاقاً أيضاً من “سذاجة” أميركية استراتيجية في قراءة وضعها، جعلتها طليقة اليدين شرقاً بعد حرب أفغانستان، وغرباً بعد حرب العراق.
والثالثة، متحرّكة بثقة واتّزان، مستندة الى حداثوية سياسية ومؤسساتية، تتكئ الى ماض أمبراطوري والى مجتمع تقليدي فيه من آثار المجتمعات المحيطة به – والتي حكمها لقرون – ما يسهّل تواصله العميق معها.
وعلى هذا الأساس، تبدو الدولة الاولى، إسرائيل، عاجزة عن النجاح في أي تطبيع أو اختراق أو تعايش مسالم مع دول المنطقة وشعوبها رغم استفادتها من الدعم الغربيّ ومن الوهن الفلسطيني والعربي. وهذا يبقيها في حال استنفار دائم، ويجعل منها دولة حربية لا صلة لها بجوارها سوى صلة الحقد والبارود.
والدولة الثانية، إيران، غير قادرة بدورها على إقامة العلاقات الحسنة والمطمئنة مع الجوار، ولو لأسباب مختلفة، تراوح بين المذهبية وبين خوف الجيران من جنوح السيطرة والتحكّم البادي على سلوكها. وهي لذلك، لا تملك أي حليف على مستوى الدول غير سوريا، “فحلفاؤها” الباقون منظمات أو جماعات أقلّوية تتعاطى معهم من موقع الراعي والمموّل والموظّف أكثر منه من موقع “الحليف”، ولو أنهم في الكثير من الحالات أصحاب مشروعيات شعبية ضمن بيئاتهم.
أما الدولة الثالثة، تركيا، فعلى خلاف الدولتين الأوليين، تبدو من خلال دينامية ديبلوماسيتها الرصينة مؤثّرة ومقبولة في أكثر دول جوارها، إن لم يكن جميعها. فها هي تصالح عدواً تاريخياً وضحية لأمبراطوريتها هو أرمينيا، وتطبّع أكثر فأكثر مع خصم عنيد هو اليونان (للعبور من بوابته نحو أوروبا)، وتستمر في استثمار عمقها التاريخي واللغوي والديني في آسيا الوسطى.
وهي، إضافة الى ما ذكرنا وفي ما يفوقه أهمية، حليفة في الوقت نفسه لكل من روسيا والولايات المتحدّة، قريبة في مذهبها الى المذهب الإسلامي الأكبر المنتشر في المنطقة والعالم. وقد بدأت تبتعد منذ سنوات عن العلاقة الوطيدة بإسرائيل، من دون أن يُظهر ابتعادها هذا ميلاً للتخلي عن حلفها الاستراتيجي مع “شمالي الأطلسي”. وهي بالتالي تحافظ على علاقاتها بالقوى العظمى وبالمنظومات الدولية، وتقترب من عواطف وعقول قسم كبير من أبناء محيطها الجيو سياسي، وتحاول حتى تحسين علاقاتها بالأكراد، ضحاياها المستمرّين (وضحايا أنظمة ايران والعراق وسوريا، وضحايا أنفسهم أيضاً!)…
بذلك، يبدو المشهد الشرق أوسطي اليوم فيلماً ثلاثي الأبعاد وثنائي السرعة: بُعد جامد هو الاسرئيلي، بُعد متحرّك ببطء على حافة الهاوية هو الايراني، وبُعد شديد الحراك من دون أن يكون حراكه مقلقاً أو مفزعاً، هو التركي.
أما الجمهور المتفرّج على المشهد وتفاصيله، فهو عربي لم تظهر الى الآن إمارات تحولّه الى لاعب، ولا إضافته بُعداً جديداً على الصورة، يغنيها أو يعدّلها…