ربــط نـــزاع
حسام عيتاني
ستبرز من الآن وحتى عشية الانتخابات التشريعية في أيار من العام 2009 خريطة سياسية لبنانية جديدة. عنواناها الأبرز إعادة فرز القوى على الساحة المسيحية بعد التسوية على ساحة الصراع السني ـ الشيعي، والعلاقة بين حزب الله والدولة ككل.
عادت الساحة المسيحية لتستقطب التنافس بين فريقي «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر». ولعل المعارك الانتخابية الاهم ستشهدها المناطق المسيحية ابتداء من الدائرة الاولى في بيروت وصولا الى دوائر محافظة الشمال. وفي حال قرر الرئيس المقبل بناء قاعدة سياسية له، يتوقع ان يصبح الصراع مثلث الاضلع، فيما قد تتسم المواجهة بين انصار الرئيس وبين انصار ميشال عون بحدة استثنائية، نظرا الى الازمة التي يعاني منها حاليا التيار العوني ما يؤهل من يرفع شعاري الدولة والمؤسسة العسكرية للحصول على مكاسب ملموسة بين الجمهور المسيحي الذي سار وراء هذين الشعارين. تحركات ميشال المر الاخيرة تمثل اشارات مبكرة الى هذا التوجه. تحالف مار مخايل سيبدو مع الوقت وقد استنفد اغراضه، ليصبح عون مضطرا الى البحث عن نقاط ارتكاز سياسية جديدة.
«القوات» والسياسيون المسيحيون التقليديون يبدون على وشك دخول نوع من السبات السياسي، على الرغم من بعض القلق حيال الادوار التي يرغبون في أدائها على المستوى الوطني في المرحلة المقبلة.
واذا كانت الهدنة التي بدأت مع اتفاق الدوحة قد اوقفت في الدرجة الاولى تفاقم الاحتراب السني ـ الشيعي في لبنان وتداعياته، الا انها تفتح، في الوقت ذاته، ملفا شائكا يتعلق بالاوضاع الداخلية في الطائفة السنية وبالقوى التي تنطق باسمها. لقد اثبتت الازمة الاخيرة محدودية قدرة «تيار المستقبل» على «الدفاع عن السنة» وفق المنحى العصبي المسلح الذي تأخذه العبارة المذكورة في المنطوق اللبناني. واذا كان في وسع «المستقبل» التباهي بأنه لم يستخدم السلاح مشددا على طبيعته السلمية، فإن هذا سلوك لن يفسر الا كعلامة ضعف في ادغال الطوائف اللبنانية حيث لا مجال لنعاج ترعى بالقرب من الذئاب.
تقود هذه الحقيقة الى التأمل في المسار الذي ستسلكه الطائفة السنية بين نزعتين تتجاذبانها: النزعة المدينية الرافضة للانخراط في العنف الطائفي والراغبة في الانصراف الى العمل السياسي من ابواب الاقتصاد والتبادل والانسجام مع باقي مكونات الكيان اللبناني، والنزعة السلفية المسلحة متزايدة النفوذ والقوة في الاوساط الريفية والمهمشة في بيروت وطرابلس وغيرهما.
الممثل الاقوى للشيعة في لبنان، حزب الله، لا يبدو مسرورا باتفاق الدوحة. قراءة في بنود الاتفاق ومواد وثيقة بيروت (الفينيسيا) التي اعتُبرت جزءا لا يتجزأ من الاتفاق، لا تدع مجالا للشك في ان الحزب، يدخل هو الآخر مرحلة جديدة على صعيد العلاقات اللبنانية ـ اللبنانية.
المادة الرابعة من اتفاق الدوحة («تنفيذا لنص اتفاق بيروت المشار اليه وبصفة خاصة ما جاء في الفقرتين الرابعة والخامسة واللتين نصتا على: تتعهد الاطراف الامتناع عن العودة الى استخدام السلاح او العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية». .. الخ»)، تبدو موجهة حصرا الى حزب الله. ويجوز القول انها تتناول كل ما يشكل مصدر ازعاج للحزب ليس على المستوى الايديولوجي (التشديد على طبيعة النظام الديموقراطي في لبنان)، بل لناحية ما تتضمنه من رفض ضمني لهجومه على بيروت ولانشائه مناطق امنية مقفلة امام الدولة اللبنانية. المادة الخامسة والاخيرة («اعادة تأكيد التزام القيادات السياسية اللبنانية بوقف استخدام لغة التخوين او التحريض السياسي او المذهبي على الفور») جرد الجزء المتعلق منها «باستخدام لغة التخوين» الحزب من واحدة من أدواته الاعلامية والسياسية المفضلة، في حين ان التحريض السياسي والمذهبي، عملة تتداولها الاطراف جميعا.
مفهوم تماما ان الحزب لن يقدم من تلقاء نفسه على استدخال أي تغيير على سلوكه في المناطق التي يتمتع فيها بوجود طاغ. لكن المهم في المسألة ان الاتفاق زود الدولة اللبنانية بعدة كافية للمطالبة ببسط سلطتها على كامل اراضيها، وفي هذا وحده ما يكفي للاعتقاد بان اتفاق الدوحة زرع بذرة علاقة معقدة بين الدولة وبين حزب الله بغض النظر عن مسألة سلاح المقاومة التي يبدو انها لن تسحب من المداولات السياسية في القريب المنظور. بهذا المعنى، تكون مواد الاتفاق «ربط نزاع» مثاليا بين الدولة وحزب الله، يتعين ان يظل مفتوحا الى حين صياغة علاقة جديدة نوعيا بين الجانبين.
يترك كل ذلك هامش حركة واسعا للرئيس المقبل ولحكومته (اذا لم يطرأ طارئ يحول دون تشكيلها او اقرارها لبيانها)، يفترض ان يستغل لتثبيت الاستقرار السياسي والامني في لبنان في الاعوام المقبلة، طــالما يظهر ان ملــف بلدنا قد طوي مؤقتا.